د. محمد أبو رمان – باحث في الفكر الإسلامي والإصلاح السياسي، وزير أردني سابق.
لا يمكن قراءة العُمرة التي أدّاها قادة حركة حماس، أواخر شهر رمضان، إلا في سياق سياسي بدلالاتٍ ثقيلة، بخاصة أنّ الزيارة تأتي بعد انقطاع ثمانية أعوام، أي منذ بدايات العهد الجديد في السعودية (الملك سلمان ونجله محمد)، إذ كانت تلك الأعوام عجافاً في العلاقة بين الطرفين، مع ما يشبه القطيعة، والخصومة، فضلاً عن وجود ما يقارب 70 معتقلاً (أنهى بعضهم مدة محكوميته وخرج) من الحركة في سجون المملكة، أغلبهم أردنيون وفلسطينيون.
لم تكن الزيارة، وفق مصادر دبلوماسية عربية، دينية فقط أو رمزية، إذ تخلّلها لقاء الوفد مع قيادات سعودية رسمية، وتبادل الآراء في ملفّات رئيسية، في مقدمتها مستقبل العلاقة بين الطرفين، والصراع العربي-الإسرائيلي وملف معتقلي الحركة، وكان واضحاً أنّ هنالك صفحة جديدة ستُفتح بين الطرفين، تنهي مرحلة السنوات الثماني المشؤومة بالنسبة إلى الحركة.
جاء استقبال السعودية قيادة الحركة، والموافقة على اللقاء بها، في إطار “الاستدارة السعودية” المفاجئة في الملفّات الإقليمية، سواء في التقارب مع الرئيس التركي أردوغان وإزالة القطيعة مع قطر، بعدما وصلت الأمور إلى حافّة الهاوية، ثم ترطيب الأجواء مع النظام السوري والتمهيد لعودته إلى جامعة الدول العربية (عبر إلغاء قرار تجميد أنشطته)، والأهم الاتفاق السعودي الإيراني، برعاية صينية، والأزمة السعودية الإماراتية المكبوتة.
المفارقة أنّ المسافة ما بين مواقف السعودية، ما قبل الاستدارة وما بعدها، ليست قصيرة ولا محدودة، بل تبدو قفزاتٍ كبيرة، ما بين العداء والصداقة والتحالف؛ فمن المعروف أنّ العلاقات الإيرانية السعودية مرّت بمرحلة شديدة من التوتر والاختلاف و”الحروب بالوكالة” خلال الأعوام الماضية، وانفجرت الخلافات بعد إعدام نمر النمر والاعتداء على السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد، وقطع العلاقات، وحتى قبل ذلك الاعتراض السعودي الشديد على الاتفاق الأميركي الإيراني، في أواخر عهد الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما.
وقد كان الخطاب السياسي السعودي في غاية الوضوح بتحميل إيران مسؤولية الأزمات الإقليمية كافّة، ومباركة الاتفاقيات الإبراهيمية والتطبيع العربي الإسرائيلي، بذريعة أنّ الخطر الأكبر اليوم على الأمن الخليجي هو الإيراني، ثم يأتي الاتفاق المفاجئ مع طهران والتفاوض مع الحوثيين، والتقارب مع نظام الأسد، واستضافة وفد “حماس”.
تفرض هذه التحوّلات – الاستدارة أسئلة وتساؤلات جوهرية، وتتطلب مناقشاتٍ مفصّلة أكثر، وتستدعي قراءة أعمق مما يطفو على السطح، وفي مقدّمة هذه الأسئلة، إلى أيّ مدىً من الممكن أن تصل الاستدارة السعودية في اشتقاق سياسات جديدة؟ وإلى أين تريد أن تصل هذه الاستدارة في “تموضع السعودية” دولياً وإقليمياً؟
هل نتحدّث، هنا، على سبيل المثال عن خيارات استراتيجية، بمعنى الابتعاد عن المواقف المسطّرة من الإدارات الأميركية واتخاذ سياساتٍ مستقلة أكثر، على المدى الطويل، أم أنّ المسألة لا تعدو أن تكون مناكفاتٍ مع الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض ومع الإمارات (بعد بروز الخلافات معها في الآونة الأخيرة)؟!
وهل يمكن أن نتصوّر قفزة جديدة، مثلاً، باتجاهٍ مختلفٍ أو آخر، أم أنّنا يمكن أن نعتبر أنّ العهد الجديد في السعودية لا يقفز بقدر ما يدير المصالح بصورة مرنة في بيئة دولية وإقليمية شديدة التقلّب. وبالتالي، تتسم المواقف السعودية اليوم بقدر أكبر من الديناميكية والمرونة والتكيّف؟!
إذا كانت هنالك معالم واضحة تستبطنها المواقف السعودية، مع العهد الجديد (منذ عام 2015)، فإنها تتمثل بالطموح الواضح لدى القيادة السعودية بأن تكون إحدى القوى الإقليمية البارزة، بل القوة الأولى في النظام الإقليمي العربي، التي تملك النفوذ والتأثير بباقي الدول العربية، في اجتراح المواقف واتخاذ الاستدارات وتقرير السياسات، سواء بالتباعد أو التوافق مع القوى الإقليمية، مثل إيران وتركيا وإسرائيل.
أمّا المعلم الثاني الواضح، فيتمثل بالأزمة السعودية مع الإدارات الديمقراطية تحديداً، منذ عهد الرئيس أوباما، ثم مع الإدارة الحالية، وحتى مع إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، فكان لا ينظر إلى السعودية من زاوية التحالفات القديمة الكلاسيكية، بل من زاوية نفعية ابتزازية مفضوحة. وبالتالي، من الواضح أنّ السعودية اليوم تغيّرت كثيراً في نظرتها إلى المنطقة والعالم حولها. ومن هنا، من الضروري أن تفهم رهانات حركة حماس على الاستدارة السعودية المعادلات الجديدة.