سنوات صعبة عاشها جهاز الاستخبارات العامة السعودي، تحت قيادة خالد بن علي الحميدان، تورط فيها بفضائح وأزمات بالجملة على الصعيد الخارجي، بداية باغتيال الصحفي جمال خاشقجي، ومحاولات اختطاف ومراقبة المعارضين بالخارج، إضافة لدعم عناصر ضد بلدان يعاديها النظام السعودي.
الحميدان الذي يمسك بزمام الاستخبارات منذ 5 سنوات، يعد من الشخصيات المثيرة للجدل، حيث كان تحت إمرة ولي العهد السابق محمد بن نايف، ومن رجاله المقربين.
بل إن ابن نايف نفسه هو الذي وضعه على رأس المخابرات العامة، لكن الحميدان انقلب عليه عندما دار الزمن وأطاح به ولي العهد الجديد محمد بن سلمان من منصبه، وأصبح فعليا أقوى رجال الدولة والحكام الحقيقين، فانصاع له الرجل وأدان له بالولاء والطاعة.
ووفق تقارير استخباراتية حديثة، يحاول الحميدان حاليا أن يرمم مسيرة فشله العريضة في قيادة جهاز الاستخبارات، وذلك عبر تحسين آليات العمل وعقد صفقات جديدة، للخروج بسلام من المنعطفات القائمة، فهل ينجح فيما أخفق فيه من قبل؟
فضيحة الدنمارك
تأتي محاولات تطوير الاستخبارات السعودية، بعد سلسلة إخفاقات وإشكاليات للجهاز تحت مظلة الحميدان، وكان آخرها ضمن زمام الاتحاد الأوروبي، وتحديدا في الدنمارك.
ففي 15 أبريل/ نيسان 2021، أعلن المدعي العام الدنماركي، توجيه الاتهام إلى ثلاثة رجال من أعضاء جماعة المعارضة الإيرانية “ASMLA” أو “حركة النضال العربي لتحرير الأحواز”، المقيمة في الدنمارك، لقيامهم بتمويل الإرهاب والترويج له داخل إيران بالتعاون مع جهاز المخابرات السعودية.
وقال البيان: “إن الثلاثة رجال المتهمين بتمويل الإرهاب بالتعاون مع المخابرات السعودية، نفذوا أنشطة استخباراتية غير مشروعة في الدنمارك”.
وتعود الأزمة إلى عام 2018، عندما كان جهاز الاستخبارات الدنماركية (بيت) يحمي 3 من أعضاء الحركة المعارضة، في مدينة ريغنستيد، جنوب العاصمة كوبنهاغن، من عملاء الاستخبارات الإيرانية التي اعتقلت منهم واحدا بتهمة محاولة تصفية هؤلاء.
لكن مع بدء التحقيقات تبين سقوط أعضاء حركة الأحواز المعارضة أيضا في فخاخ استخباراتية ومحاولات إثارية داخل البلاد، فاعتقلتهم فورا وأخضعتهم لتحقيقات موسعة.
هنا كشفت التحقيقات بعدا جديدا مع توسيع لائحة الاتهامات، إذ ذكر دور محوري للرياض في مسألة الدعم المالي للحركة.
وأن رئاسة الاستخبارات العامة السعودية حولت مبالغ تتجاوز 30 مليون دولار عبر شبكة علاقاتها في الدنمارك، إلى المجموعة الأحوازية التي تستخدمها بشكل مستمر في أعمال إرهابية.
وبناء عليه مددت محكمة روسكيلدا (جنوب كوبنهاغن)، حبس المتهمين على ذمة القضية، واستندت في طلبها إلى أدلة جدية عن دور المخابرات السعودية، في تقديم دعم مالي ولوجستي لحركة النضال العربي.
ما أقدمت عليه المخابرات السعودية تسبب في توتر العلاقات مع الدنمارك، حيث استدعت وزارة الخارجية الدنماركية السفير السعودي في كوبنهاغن على خلفية الاتهامات بدعم الحركة الانفصالية، المقيمة في الدولة الإسكندنافية، والتحريض المباشر على الإرهاب في إيران.
مقتل خاشقجي
الأزمة الأخرى الكبرى في ملف الحميدان، هي مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، بطريقة مريعة، شغلت الرأي العام العالمي برمته زمنا.
لذلك تواصل الاستخبارات العامة محاولة تجاوز فضيحة تورطها في اغتيال خاشقجي في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2018، خاصة أن اللواء أحمد عسيري، الرجل الثاني سابقا في الجهاز، كان ضلعا أساسيا في العملية.
وكان الحميدان نفسه على بعد خطوات من الإقالة لولا إرادة شخصية لولي العهد السعودي، الذي فضل التمسك به لأسباب غير معلنة.
وكانت عملية القتل صدرت بأمر من محمد بن سلمان حسب تقييم تقرير وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي كشفت أيضا أن من نفذ فريق أرسله نائب رئيس المخابرات السعودية إلى إسطنبول لتصفية خاشقجي.
وهناك تم تقييده بالقوة بعد صراع وحقن بكمية كبيرة من المواد المخدرة، قبل أن يعملوا على تقطيع جثته وتسليمها إلى “متعاون” محلي خارج القنصلية للتخلص منها.
تلك الضربة تسببت في الإطاحة بعسيري وتغييرات كبيرة شملت جهاز المخابرات العامة، لكنها لم تمس الحميدان.
وتسببت هذه العملية غير المحسوبة في توتر العلاقات السعودية مع دول كثيرة ووصولها إلى مراحل متدنية، بالإضافة إلى تشويه سمعة الرياض وابن سلمان على الصعيد العالمي.
محاولات ترقيع
ويحاول النظام السعودي وقف التهاوي الجامح لجهاز الاستخبارات، عبر مساع للتغيير الهيكلي.
ففي 16 فبراير/ شباط 2021، ولأول مرة في تاريخها، أطلقت الاستخبارات العامة، بقرار من الحميدان، حملة توظيف كبرى عبر الإنترنت، حيث يمكن للمرشحين التقدم للوظائف المتاحة عبر منصة “أبشر”، التي توفر الوصول إلى خدمات الحكومة السعودية.
الشق الثاني، ما ذكرته مجلة “إنتيليجنس أونلاين” الفرنسية المتخصصة في شؤون الاستخبارات، في عددها الصادر بتاريخ 14 مايو/ أيار 2021.
قالت المجلة: “في سابقة جديدة من نوعها تعاقدت المخابرات السعودية، على عدد من المشاريع الجديدة الجاري تنفيذها، وتدار هذه الأعمال من قبل شركة المقاولات المعمارية الحديثة، التي يسيطر عليها محمد بن سلمان بشكل مباشر، والتي استحوذت على عدد من العقود التي كانت تمتلكها سابقا شركة -سعودي أوجيه-“.
وأضافت أن “رئاسة الاستخبارات العامة، التي يترأسها الحميدان، المعين من قبل محمد بن نايف، والذي غير ولاءاته، عززت أنظمتها الأمنية بمعدات استحوذت عليها وركبتها الشركة الأهلية للأنظمة المتقدمة”.
وهي أيضا التي تزود الحرس الملكي بأنظمة الأمن، وهي الموردة للمملكة في البداية لأجهزة اللاسلكي من طراز موتورولا تيترا، تلك الشركة يديرها طلال العقاد، نجل القطب اللبناني السعودي عمر العقاد، بحسب المجلة.
وذكرت أنه “يتم توريد أنظمة الاتصالات الخاصة برئاسة الاستخبارات العامة من قبل شركة أنظمة الاتصالات والإلكترونيات المتقدمة، التي يترأسها رجل الأعمال أكرم أبو راس، وهذه الأخيرة هي الموزع للأنظمة التي تنتجها شركات موتورولا وهواوي وألكاتيل لوسنت”.
وأوردت أن “رئاسة الاستخبارات العامة، حصلت كذلك على أنظمة اتصالات صوتية ومرئية داخلية من شركة الطاقة المثمرة، والتي تشغل نفس الأنظمة في القصر الملكي”. وكان هذا يمثل الشق الثالث في محاولات تجاوز الإخفاقات.
متعدد الولاءات
أكثر نقاط الإثارة في شخصية خالد بن علي الحميدان، هو قدرته الفائقة على تغيير الولاءات، وفق ما أكدت “إنتليجنس أونلاين”.
وخالد الحميدان هو ضابط سعودي برتبة فريق، يعمل بجانب رئاسة الاستخبارات، التي شغلها خلفا للأمير خالد بن بندر آل سعود منذ 29 يناير/ كانون الثاني 2015، كعضو في مجلس الشؤون السياسية والأمنية بالمملكة العربية السعودية.
ولد في مدينة حائل في الثاني من أغسطس/ آب 1954، والتحق بعد دراسته الثانوية، بكلية الملك فهد الأمنية، ثم درس العدالة الجنائية من جامعة “ساكينو فالي ستيت” بولاية ميتشغان الأميركية.
تولى الحميدان منذ صعوده إلى رئاسة الاستخبارات مجموعة من الملفات الحساسة، على رأسها قضية الحوثيين، حيث بدأ معهم في محادثات قبل أن تتدهور الأوضاع عقب عملية عاصفة الحزم في مارس/ آذار 2015.
بعدها بدأت صواريخ الحوثي تستهدف المملكة، ولم يحدث تقدما في إدارة الملف إلا في الشهور الأخيرة، خلال عام 2021، عندما حدثت لقاءات سرية بين الاستخبارات السعودية والإيرانية، ولكنها لم تسفر عن نتيجة.
في 25 يناير/ كانون الثاني 2019، أثار الحميدان جدلا، عندما تم الكشف عن زيارة خاصة قام بها إلى إسرائيل، تأكيدا لتصاعد عمليات التطبيع بين الرياض وتل أبيب.
وكشف الإعلامي الإسرائيلي والباحث الأكاديمي في “معهد بيغن-السادات للسلام” إيدي كوهين عن وصول رئيس الاستخبارات العامة في المملكة العربية السعودية إلى إسرائيل في زيارة غير معلنة.
آخر الملفات وأخطرها التي لاقت إخفاقا كبيرا من رئيس الاستخبارات، هو ملف المعارضة السعودية في الخارج، بداية من تتبع المعارضين واختطافهم والتجسس عليهم في عدد من البلاد مثل بريطانيا والولايات المتحدة وكندا.