د. عبد الله العودة
اليمين الوطنجي المتطرف هو تيار محافظ جدًا سياسيًا، ويحاول أن يكون رأسماليًا جدًا ولكن من غير مشاركة سياسية ولا تمثيل سياسي، عنصري جدًا ضد الأقليات وضد التيارات الشعبية الإسلامية منها وغير الإسلامية، مع مكارثية شاملة، وزواج كاثوليكي مع المركزية السياسية التي تتمثل بحكم الرجل الأوحد “الملهم العبقري الشجاع الذكي الشاب اللماح” الذي لديه حلول لكل مشاكل الاقتصاد والسياسة وكل شيء، على طريقة الأحزاب الإيدلوجية في الخمسينات وبعدها، التي تقدّم “الزعيم القائد الملهم البطل”، لكن هذه المرّة هذا “القائد”، رجعي غير تقدمي، وذراع هش للإمبريالية عوضًا عن أن يكون مستقلًا فهو جمع السوأتين: الاستبداد المطلق في الداخل، والتبعية المطلقة في الخارج.
اليمين الوطنجي المتطرف، هو عبارة عن مجموعة صغيرة لكنها متحالفة مع أصحاب النفوذ، ومتورطة في ذات المشروع المركزي الذي يقوم على استبعاد كل فئات المجتمع وعلى استهداف الجميع والتحريض ضد الكل مالم يقدموا الطاعة المطلقة للعهد الجديد بكل بوائقه. لذلك لا يمكن أن يقبلوا التوزيع العادل للثروة مثلًا ولا الرعاية الصحية ولا تقوية الضمان الاجتماعي وأشباهها، بل ينشطون في دعم فكرة الضرائب غير المشروطة ورفع الدعم دون مقابل، ويرفضون الرقابة الشعبية على المال العام لأنها تحرمهم من احتكار التصرف في المال.
بسبب تعصب هذا التيار لمجموعته الصغيرة وتقديمه لها على أنها “الوطن” وعلى أنهم المواطنون، فهم بالضرورة مكارثية ووطنجية، تحوّل معهم المفهوم الوطني إلى مذهب إيديلويجي خالص، تقام عليه الحروب وتشنّ عليه حملات التحريض والتخوين والملاحقة والاعتقال بل والقتل في القنصليات تارة وتحت التعذيب في السجون تارة أخرى.
وبرغم ضمور العائلة الحاكمة واختصارها في شخص واحد، إلا أن الوطنجية هم العائلة الحاكمة الجديدة أو ربما الحزب الوطني الحاكم، الذي على العاملين في كل القطاعات التأكد من خلوّ مشاركاتهم الاجتماعية وعلى وسائل التواصل من أي أفكار تناقض أي مفهوم “وطنجي” كي لايقعوا في غوائل التحريض داخل أي قطاع أو مؤسسة قد يعمل بها المواطن.
دور اليمين الوطنجي المتطرف يتلخص في أن يحرق البخور حول هذا “الزعيم الملهم” الذي يمنحونه الألقاب بكل سخاء، وفي تأدية واجب “التطبيل” على أية حال؛ فإن تعجّل هذا “القائد الملهم” فهو قوي وصارم، وإن تأخّر فهو حكيم وعالم، وإن بلع الإهانة فهو ديبلوماسي بعيد النظر، وإن بالغ في ردة الفعل فهو سريع البديهة، وأن أصاب فمن نفسه، وإن أخطأ فمن شعبه والشيطان!
وتلك الألقاب المتضخمة التي يمنحها اليمين الوطنجي المتطرف على نفسه وعلى مجموعته، تذكّر بتلك الألقاب التي كان يتمتّع بها حكام الممالك الذين سقطت عليهم الأندلس وضاعت بسبب انتفاخهم بالألقاب وفراغهم من المعرفة والعلم، فكان أحد الشعراء يقول فيهم:
مما يزهدني في أرض أندلسٍ… أسماء معتضدٍ فيها ومعتمدِ
ألقاب مملكة في غير موضعها… كالهرِّ يحكي انتفاخًا صولة الأسدِ
فتلك الألقاب “العظمى” تدل على اهتزاز في الثقة وفراغ في المحتوى، فالعظيم لايحتاج أن يسمي نفسه كذلك، فبرغم لقب “الجماهيرية العظمى” لم يستفد القذافي الذي سمّى نفسه أيضًا “ملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين”، لكن اليمين الوطنجي المتطرف يرى في هذه المملكة الكلامية الورقية عوضًا عن المحتوى الحقيقي الذي يمكن أن يفيد الناس بمختلف اتجاهاتهم واهتماماتهم.
وكما كانت تفعل الإيديلوجيات الشمولية في القرن الماضي، يقوم اليمين الوطنجي المتطرف بصناعة فزاعة محلية وإقليمية لتبرير حالة القمع داخليًا ولتبرير الإخفاقات الإقليمية خارجيًا، فتجد أن كل الأخطاء لها نموذج تفسيري موحّد يتعلق بتلك القوى المحلية والإقليمية، من غير أن يحمّلوا صاحب القرار في البلد أي مسؤولية فهو “الملهم البطل” الذي يملك عصا موسى التي تقلب البحر يابسة ويد عيسى التي تبرئ الأكمه والأبرص وتحيي الموتى بإذن الله.
ومثل كل يمين متطرف، يجنح اليمين الوطنجي المتطرف للحلول العسكرية عوضًا عن الديبلوماسية، وللقمع محليًا عوضا عن الحوار الوطني والتصالح الشعبي، ويميل للحسم الإيديلوجي الذي يسميه حزمًا، فهو يعتقد أن الحديد والنار والعنف طريق الشرعية الجذرية وذهنية المتغلب التي يسلم لها الناس كرهًا، لذلك يتجاهل وسائل التأثير الناعمة وطرق النفوذ الغير مباشرة.
وإذا تجاهلت السمة “الوطنية” المرتبطة بحدود جغرافية معينة في الخطاب الوطنجي المتطرف فإنك بسهولة تستطيع أن ترى أن الوطنجية عابرة للقارات والدول فتجدها تشكّل مدخلية جامية في ليبيا تقاتل مع مليشيات وطنجية هناك، وتجدها في أكثر من وطن عربي.
وبعد ذلك، ترى في هذا اليمين الوطنجي المتطرف في السعودية تشابهات لا تخطئها العين مع التيارات اليمينية المتطرفة الأخرى حول العالم التي قد تحمل خلفيات مختلفة لكنها تشارك نفس الحقد الإيديلوجي والحسم الذي يفتقد للحول الثقافية والاجتماعية والفكرية، لذلك يلجأ للتعويض عن كل ذلك، بالحلول الأمنية الجذرية مع كل طبقات وفئات المجتمع.
في النهاية، قد تكون لليمين الوطنجي المتطرف الجولة، لكن بكل تأكيد لن تكون له الدولة، لأن ذلك يحتاج شيئًا أعمق بكثير من مجرد الكرباج والهراوة، ويحتاج شيئًا أبعد بكثير من مجرد الألقاب المنتفخة والمشاريع الشكلية، فانسداد الأفق السياسي لايمكن تحاشيه بالخطاب الوطنجي المتطرف أبدًا..
والمجتمع لايمكن أن يتحول كله لليمين الوطنجي المتطرف، فحتى لو أراد هذا التيار تشويه قيم المجتمع وقلبها، واختطاف مفاهيمها، فسيحتاج ذلك لعقود طويلة وأجيال من السحق والقمع وغالبًا لن تنجح على أية حال، ولذلك هو تيار يلتقط أنفاسه وعلى عجلة من أمره لاقتناص كل فرصة وكل حدث وكل مناسبة في تحركات سريعة جدًا، لأن مثل هذا النوع من التيارات يحمل جراثيمه التي تقضي عليه من داخله، فالمجتمعات لايمكن أن تعيش دون أفق سياسي طبيعي ودون نظام احتوائي وهامش طبيعي للعمل والتحرك، (وانتظروا إنّا منتظرون).