أعادت الإدانة الأمريكية الأخيرة للمتدرب السعودي محمد الشمراني، الذي نفّذ هجوماً بقاعدة “بنسكولا” الجوية في ولاية فلوريدا، بارتباطه بتنظيم “القاعدة”، الحديث مجدداً عن حجم التوترات التي تنتاب العلاقات الأمريكية السعودية بسبب هذه النماذج التي تضع الرياض في خانة “داعمي الإرهاب”، بنظر المسؤولين في واشنطن.

وكانت وزارة العدل الأمريكية والمباحث الفيدرالية الأمريكية كشفت، الاثنين (18 مايو)، ارتباط الشمراني، الذي لقي حتفه في ديسمبر 2019 بعدما قتل مجموعة متدربين أمريكيين، بتنظيم “القاعدة”، وذلك بعد فك شفرة الهاتف المحمول الخاص به.

هذا الكشف ليس الأول من نوعه خلال الفترة الأخيرة، إذ لا تزال المعلومات التي ترشح من مصادر أمريكية تخرج للعلن وتشير إلى ارتباط شخصيات سعودية بهجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وهو ما يزيد مخاوف الرياض من استغلالها من قبل المشرعين الأمريكيين ويرفع سقف التوترات بين البلدين.

 

سلاح “جاستا”

ويعتبر مشروع قانون “جاستا” المعلّق في الكونغرس الأمريكي منذ 2016، والذي يسمح بمقاضاة الدول التي يثبت ارتباطها بشكل ما بالعمليات الإرهابية، واحداً من أقوى الأسلحة الأمريكية التي يتم التلويح بها في وجه الرياض بين حين وآخر.

ورغم عدم إقرار القانون بشكل نهائي حتى الآن، فإن تصاعد التهديدات التي يطلقها من حين لآخر الجانب الأمريكي، حكومة كان أو معارضة، كلما تعلّق الأمر بدعم الإرهاب، يجعل العلاقات بين البلدين مرشحة للتوتر في أي لحظة، رغم قوتها.

وسبق أن قال السيناتور الأمريكي ريتشارد بلومينثال: إن “المبدأ واضح؛ إذا كانت الحكومة السعودية غير ضالعة في الهجوم فيجب ألا تخشى القانون”.

وخشية من فرض القانون، هددت السعودية بشكل غير مباشر ببيع ما يصل إلى 750 مليار دولار في سندات الخزينة الأمريكية للأوراق المالية وغيرها من الأصول إذا تم تنفيذ القانون، لكن صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية قالت: إن “المملكة من غير المرجح أن تفعل مثل هذه التهديدات”، معتبرة أن مثل هذا البيع سيكون “من الصعب تنفيذه، وفي نهاية المطاف سيشل اقتصاد المملكة”.

 

تسريبات أمريكية

تتسرب بين حين وآخر في وسائل الإعلام معلومات على هيئة تقارير أو تصريحات تعتبرها الرياض بمنزلة محاولات ضغط على مسؤولي القرار في الرياض، فمن زعم تقرير أمريكي، عام 2019، أن السفير السعودي السابق لدى واشنطن، الأمير بندر بن سلطان، متورط في تقديم الدعم المالي واللوجيستي لمنفذي هجمات 11 سبتمبر 2001، إلى نشر موقع “فلوريدا بولدوغ” الأمريكي، تفاصيل عن لقاء أخفته لجنة التحقيق الخاصة بهجمات 11 سبتمبر 2001 في أمريكا، مع بن سلطان ورئيس المخابرات السعودية الأسبق تركي الفيصل، أقر فيه بأن المخابرات السعودية كانت على علم كامل بتحركات جميع إرهابيي 11 سبتمبر، حيث إنهم كانوا قيد المراقبة المفروضة على كل الأنشطة المتعلقة بتنظيم القاعدة.

وفي مايو الجاري، كشف مكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي) عن هوية سعودي آخر متهم بمساعدة اثنين من مخططي هجمات سبتمبر 2001، وهو مساعد أحمد الجراح، الدبلوماسي السعودي الذي خدم بسفارة بلاده في واشنطن بين عامي 1999 و2000.

ورغم أن الكشف عن اسم “الجراح” جاء عن طريق (الخطأ)، فإن خبراء يقولون إنه مثّل نقطة جديدة في ماراثون قانوني طويل، وأعاد الزخم لقضايا عدة مرفوعة أمام القضاء الأمريكي، فضلاً عن أنه يعزز فكرة وجود انقسامات داخل (إف بي آي) بين فريق يريد إدانة السعودية، وآخر لا يريد ذلك.

وفي هذا الصدد، نقلت شبكة “الجزيرة” عن ديفيد ماك، السفير السابق والخبير بالمركز الأطلسي بواشنطن، أن التسريب المتعلّق بكشف هوية الجرّاح “يضاعف من مشكلات العلاقات الثنائية بين الرياض وواشنطن”، مؤكداً أن “هذه التطورات تضعف من عودة العلاقات بين الدولتين لسابق عهدها، خاصة فيما يتعلق بالتعاون الاستخباراتي بينهما”.

هذه التطورات الأخيرة المتمثلة في الكشف عن هوية الجراح ثم كشف العلاقة بين الشمراني و”القاعدة”، تأتي في وقت تعاني فيه السعودية من تدهور صورتها داخل الأوساط الأمريكية بسبب دورها في تخفيض أسعار النفط وتأثيرات ذلك السلبية على الداخل الأمريكي.

وبعد تهاوي أسعار النفط، علت أصوات الجمهوريين المطالبة بمعاقبة الرياض على دورها في حرب النفط، ثم تحدثت تقارير صحفية حول رغبة ترامب في تحميل المملكة جزءاً من هذه الخسائر؛ عبر سحبه 4 بطاريات صواريخ باتريوت من قواته الموجودة في السعودية.

 

تهدئة سعودية

وعقب الكشف عن علاقة الشمراني بتنظيم القاعدة، سارعت السفارة السعودية في واشنطن، لإصدار بيان أكدت فيه التزام الرياض بالتعاون مع واشنطن وتقديم الدعم لها والتنسيق معها “لحماية المواطنين الأمريكيين والسعوديين من التهديدات”.

وللحيلولة دون مطالبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باتخاذ موقف من السعودية على خلفية إدانة الشمراني، طالبت السفارة السعودية في بيانها بضرورة “ملاحظة أن التدريب العسكري الذي تقدمه الولايات المتحدة للأفراد العسكريين السعوديين مكّن الجنود السعوديين والطيارين والبحارة من القتال ضد أعدائنا المشتركين”.

وأوضحت أن “نحو 28 ألف سعودي خضعوا للتدريب العسكري في الولايات المتحدة على مدى عدة عقود”، مضيفاً: “عملنا عن كثب مع الولايات المتحدة لإبقاء تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وداعش هاربَيْن”.

لكن هذه التأكيدات السعودية لا تحول دون ارتفاع الأصوات المنددة بموقف ترامب من السعودية، حيث يطالب نوّاب وحقوقيون أمريكيون بمحاسبة السعودية على تورط مواطنيها في عدد من الأحداث الكبيرة، وهو أمر يخلق توتراً كبيراً بين الحليفين من حين لآخر.

وفي بيانها الأخير المتعلّق بمحمد الشمراني، شددت الرياض على عزمها مواصلة استخدام كل الوسائل المتاحة لها لمواجهة رجال وعقلية وأموال الإرهاب التي تمكّن القاعدة في شبه الجزيرة العربية وغيرها.

ووصفت الشراكة بينها وبين الولايات المتحدة بأنها “إحدى الركائز الأساسية للجهد العالمي لتفكيك الشبكات الإرهابية وإلحاق الهزيمة بها؛ مثل القاعدة في شبه الجزيرة العربية”. مضيفة: “سيحافظ بلدانا على التزامنا الذي لا ينكسر بمحاربة قوى الشر أينما وجدت”.

وكانت السعودية تتمتع بحصانة واسعة من الدعاوى القضائية الخاصة بهجمات سبتمبر في الولايات المتحدة، لكن ذلك تغير عندما تجاوز الكونغرس، في سبتمبر 2016، حق النقض (الفيتو) الذي يتمتع به الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما، وأقر قانوناً يسمح باستمرار تلك القضايا.

وسبق أن نقلت “نيويورك تايمز” الأمريكية عن مايكل ماغريتي، مسؤول مكافحة الإرهاب السابق في مكتب التحقيقات الفدرالي، قوله: “إن المكتب مستمر في تحقيقاته مهما طال الزمن، هدفنا أن نحاسب كل المسؤولين عن هذه الهجمات”.