خاص: رغم أن المعتقل منذ إلقاء القبض عليه يصبح رهينة بيد السلطات التي اعتقلته، ويفقد وقتها حريته وقدرته على تحديد مصيره، إلا أنه لا يزال في يده سلاح قوي يستطيع من خلاله الوقوف أمام جلاده يقارعه به جولة تلو الأخرى.
إنه سلاح “الإرادة”، فالسلطة -أي سلطة- مهما بلغت قوتها لا تستطيع أن تسلب شخصا إرادته مهما فعلت أو حاولت، لذا فالصراع بين المعتقل ومن اعتقله يكون صراع إرادات أيهما يغلب الآخر ويخضعه له.
ومن ضمن جولات صراع الإرادة تلك، الإضراب عن الطعام، التي يسعى من خلالها المعتقل لانتزاع بعض من الحقوق التي حرمته منها السلطات، في إهدار لكرامته ولحقوقه الإنسانية الأساسية، وكلما زادت حدة الصراع، كان لهذا السلاح دور فعال في حسم الأمور لصالح المعتقل.
إضراب “القحطاني” ورفاقه:
وفي الأيام السابقة، أعلن الإصلاحي السعودي المعتقل، محمد القحطاني، عن إضرابه عن الطعام نظرًا لسوء الرعاية التي يتلقاها داخل محبسه، ومنع إدارة السجن أبسط الحقوق الإنسانية عنه.
وكانت زوجة “القحطاني” أعلنت في وقت سابق، إضراب زوجها عن الطعام بسبب سوء المعاملة، وحرمانه من كتبه التي في حوزتهم قرابة السنة، مضيفة أنه تم حجب رقم هاتفها حتى لا يستطيع الاتصال بعائلته.
كما أشارت زوجة “القحطاني” إلى وجود عدد من المرضى النفسيين (السجن) الذين هم بحاجة للمستشفيات وليس للسجون!
كذلك انضم لـ”القحطاني” معتقلين آخرين له، مثل؛ الناشط المعتقل، عيسى النخيفي، والمعتقل عبد العزيز السنيدي.
كما أكد حساب “معتقلي الرأي” أن هناك عددا آخر من المعتقلين، لم يتم التوصل لأعدادهم أو أسمائهم، أعلنوا هم الآخرين إضرابهم عن الطعام نتيجة للمعاملة السيئة من قبل السلطات السعودية.
لتعود زوجة “القحطاني” وتؤكد إنهاء زوجها لإضرابه الذي بدأه في وقت سابق الأسبوع الماضي، بعد وعود بتلبية مطالبه من قبل إدارة السجن.
نظرة حقوقية للإضراب:
الإضراب عن الطعام؛ هو وسيلة من وسائل المقاومة السلمية أو الضغط حيث يكون المشاركون في هذا الإضراب صائمين ممتنعين عن الطعام كعمل من أعمال الاحتجاج السياسي، أو ربما تكون لإشعار الآخرين بالذنب. وعادة هذا الإضراب ما يصاحبه غاية لتحقيق هدف محدد، ومعظم المضربين عن الطعام لا يضربون عن السوائل، فقط الطعام الصلب.
اُستخدم الإضراب كوسيلة من وسائل الاحتجاج في إيرلندا ما قبل المسيحية، حيث كانت تعرف باسم “troscadh” أو “Cealachan” وكانت توجد قواعد محددة للإضراب عن الطعام في ذاك الوقت، وفي كثير من الأحيان يكون الإضراب عن الطعام أمام منزل الجاني، ويعتقد العلماء أن الإضراب أمام منزل الجاني يرجع إلى الأهمية العالية في حسن الضيافة آنذاك، حيث يعتبر السماح للشخص المضرب عن الطعام بالموت أمام المنزل عار كبير لصاحب هذا المنزل. ويقول آخرون أن هذا الإضراب يكون فقط لليلة واحدة، حيث لا يوجد أي دليل في إيرلندا يدل على موت المضربين عن الطعام. وكان الهدف الأول للإضراب عن الطعام في ذاك الوقت استرداد الديون أو الحصول على العدالة.
ومن الناحية القانونية يُنظر إلى الإضراب عن الطعام على أنه شكل من أشكال المقاومة السلمية، ويرى العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان على المستوى الدولي أنه أحد حقوق حرية التعبير المكفولة باعتباره أحد مظاهر حرية التعبير بحيث يصبح واجبًا على الدولة الحاجزة احترام هذا الحق وعدم المساس به بل يتوجب عليها النظر باهتمام للمطالب التي ينادي بها الأسير المضرب والعمل على تلبيتها له طالما أنها تنسجم وتتوافق مع الحقوق والمعايير التي تضمنتها القوانين الدولية.
ونص إعلان طوكيو بشكلٍ محدد على أنه في حالة رفض السجين الطعام وهو في كامل وعيه وقادر على اتخاذ قرارات لا يجوز أن يتم إطعامه عن طريق تعليق محاليل طبية أو من خلال ادخال أنبوب في جوف المضرب من الأنف يتم عبره إدخال السوائل والطعام مباشرة إلى المعدة وما يرافق ذلك من خطر يهدد حياة الأسير، وهو أسلوب تعذيب قهري يرتقي إلى مستوى جرائم الحرب.
وكذلك ما نصت عليه الجمعية الطبية الدولية في إعلان مالطا عن حق الإضراب عن الطعام وكذلك إعلان طوكيو، إضافة إلى ما ورد في بيان مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في عام 2006، وبيانات الأمم المتحدة التي تصف الإطعام القسري بأنه نوع من أنواع “التعذيب”.
نظرة شرعية للإضراب:
حفظ النفس، من مقاصد الشريعة الإسلامية الأساسية، والله – عز وجل- جعل الدنيا دار ابتلاء وتمحيص للمؤمنين، وخير ما استعان به المسلم ما ذكره الله في كتابه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة/153، وليعلم المحبوس ظلما أنه قد جرى مثل ذلك لمن هم أكرم على الله منه من المرسلين كيوسف عليه السلام وكثير من علماء سلف هذه الأمة كالإمام أحمد وغيره فليصبر وليحتسب ذلك عند الله، دون أن يمنعه ذلك عن بذل الأسباب المتاحة المباحة لرفع الظلم عن كاهله، بحسب فتوى أصدرتها لجنة الإفتاء بموقع “الإسلام سؤال وجواب”، وهو من المواقع الدينية المشهورة في العالم الإسلامي.
وتابعت الفتوى موضحة أن “الإضراب عن الطعام، والامتناع عن تناوله، أو تناول بعض أصنافه: إن كان جزئيًا في وقته، أو نوعه، بحيث لا يفضي به إلى الموت، ولا إلى إلحاق الأذى بجسده فلا بأس به، لاسيما إن ترتب عليه مصلحة – ولو كانت ظنية – تؤدي إلى تحسين معاملته أو تقليص مدة حبسه، لما فيه من إحراج الظالم أمام الرأي العام وإظهار ظلمه وتعسفه؛ لأن غاية ما فيه امتناعه عن مباح لا يتضرر بتركه، وله أن ينويه صومًا ليستفيد مع الامتناع أجر الصوم”. فالفارق هنا هو عدم إهلاك النفس، وهو محرم شرعًا في الإسلام.
آخر مرحلة للصمود:
تقول الوقائع التاريخية أن المقاوم أو المعتقل لا يلجأ للإضراب عن الطعام إلا بعد استنفاد كافة السبل أمامه للحصول على حقوقه المحروم منها، فهي آخر خطوة في مرحلة الصمود، ولا يلجأ إليها إلا حين تغلق كل الأبواب في وجهه.
وللتاريخ أحداث تثبت مدى مضي هذا السلاح وقوته، ففي فبراير 2012، بدأ ما يقرب من 1800 سجين فلسطيني محتجزين في السجون الصهيونية إضراباً جماعياً عن الطعام احتجاجًا منهم على تطبيق الاعتقال الإداري بدون مدة محددة.
وتسبب هذا الإضراب في التوصل لاتفاق مع السلطات الصهيونية، بوساطة مصرية وأردنية. وبموجب الاتفاق، فقد وافق الكيان الصهيوني على قصر مدة الاعتقال الإداري على 6 شهور فقط عدا في حالات تظهر فيها أدلة جديدة ضد المشتبه به، وعلى زيادة الزيارات العائلية وعلى إعادة المحتجزين انفرادياً إلى الزنزانات العادية. كما تم التوصل أيضاً إلى اتفاق لزيادة النقاشات حول تحسين ظروف السجن.
وحالة محمد صلاح سلطان ابن الداعية صلاح سلطان، وهو مواطن مصري يحمل الجنسية الأمريكية، قد سجل محمد أطول إضراب عن الطعام داخل السجون في العالم مدته أكثر عام من الاضراب عن الطعام، بعد أن بدأ إضرابه في 26 يناير 2014 هذا في القضية المعروفة إعلامياً باسم “غرفة إدارة رابعة”، ومع أنه يحمل الجنسية الأمريكية إلا أن الحكومة الأمريكية لم تحرك ساكنًا، وتم الإفراج عنه بعد تنازله عن الجنسية المصرية وسافر إلى أمريكا بتاريخ 30/05/2015.
وسامر العيساوي، وهو أسير فلسطيني وصاحب أطول إضراب عن الطعام بعد محمد سلطان في التاريخ؛ شرع “العيساوي” في إضرابه المفتوح عن الطعام في مطلع أغسطس احتجاجاً على إعادة اعتقاله ومحاكمته بناءً على ملف سري. وبعد إضراب طويل عن الطعام استمر ل 227 يوماً، استطاع العيساوي تحقيق مبتغاه. فقد قبل بمقترح صهيوني ينص على إطلاق سراحه بعد 8 أشهر والعودة إلى القدس.
ولا يزال صراع الإرادة مستمرا بين “ابن سلمان” ومعتقلي الرأي الذين يكابدون أهوال معيشية كل يوم، وسط صمت وتجاهل دولي تام للفظائع التي ترتكب ضدهم، وتخاذل الداخل وصمتهم عن الوقوف بجوار من ضحوا بأوقاتهم وأعمارهم من أجل مناداتهم بحريتهم وحرية الآخرين.