بقلم/ د.عبدالله العودة
تعود قضية الصحافي جمال خاشقجي الذي اغتيل داخل قنصلية بلاده في إسطنبول مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2018 إلى الواجهة مجدداً مع تقرير للأمم المتحدة يدعو لاستجواب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وعدد من كبار المسئولين السعوديين على خلفية الحادثة.
في يوم 19 يونيو/حزيران 2019 قدّمت مقرّرة مجلس حقوق الإنسان والمختصة بقضايا القتل خارج القانون تقريرها حول الشهيد خاشقجي -رحمه الله. بالطبع لم يكن مفاجئاً، لكنه كان مهماً جداً بسبب أهمية دور المجتمع الدولي في قضية كهذه؛ وبسبب أن الجهة التي اضطلعت بمهمة التحقيق جهة محايدة غير منحازة، وليس لها مصلحة في إدانة أي طرف أو تبرئة آخر.
قَتْل الشهيد المغدور خاشقجي لم يكن حدثاً فحسب، بل بياناً جلياً يكشف عن مجموعة وفريق تصرّ الإدارة في السعودية على تسميته بـ”المجموعة المارقة” ولكن هذا المروق -في الحقيقة- سلوكٌ متّبع ولا يزال متّبعاً وعملاً ممنهجاً تجاه كل من يشابه خاشقجي في الداخل والخارج.
اغتيال الشهيد خاشقجي شاهدٌ على تحوّلٍ مخيفٍ نحو التوحش في التعامل مع المواطنين في السعودية، وشاهدٌ على مرحلة من تاريخنا المعاصر لن تُنسى أبداً.
والذين يعولون على نسيان الجريمة يذكّرون الناس بها بشكل متكرر من حيث لا يعلمون لأنهم يكررون الممارسات نفسها مع كل المختلفين والمخالفين بل والموافقين المتحفظين في الداخل والخارج.
فالإعدامات الجماعية، ومطالبات الإعدام على أهم رموز الاعتدال، وممارسات التعذيب على ناشطات شمل الصعق الكهربائي والتحرش الجنسي، واستمرار مسلسل الاعتقالات التعسفية أمثلة تذكّرنا بأن قصة خاشقجي كسلوك لهؤلاء المارقين لا يزال متَّخذاً ومتَّبعاً؛ ما يعني أن هؤلاء المارقين المردة لا يزالون يديرون كل الملفات في البلد، ولديهم كل الصلاحيات، ويرتكبون الموبقات ذاتها.
الفريق نفسه الذي أدار قتل خاشقجي في القنصلية خارج القانون يطالب بإعدام والدي ومجموعة أخرى للأسباب نفسها لكن من خلال النيابة العامة هذه المرّة. فقط لأنهم مختلفون ومستقلون؛ كما قال الشهيد خاشقجي ذات يوم “أنا سعودي لكن مختلف”.
في تقرير المحققة كالامار إشارات مهمة تتعلق بشريحة مهمة وكبيرة تتعلق بمعتقلي الضمير من جهة، وشريحة أخرى تتعلق بالسعوديين في المهجر، وكيف أن الأذى والإجرام الذي لحق بخاشقجي يهدّد الإنسان في الداخل والخارج لأن مصدر هذا الأذى محددٌ وقائم، ولأن المجموعة “المارقة” كما تسميها الإدارة الحالية في السعودية لا تزال على رأس العمل مع تغير بعض الأسماء.
لا يمكن للناس تصديق أن تلك الفعلة الشنيعة كانت استثناءً وكانت “مروقاً” و”خروجاً عن النص” على أساس أن السلوك السياسي الحالي سلوك غير مختلف أبداً، ويتنكب الطريق نحو التشاركية والتعددية والعدالة في مجتمع تكون السيادة فيه للنظام والحقوق والكرامة.
على العكس تماماً؛ فالوضع الحالي ينذر بكوارث شبيهة بحادثة خاشقجي؛ تتخذ فيها الإدارة الآليات نفسها وتتعامل مع شعبها ومجموع فئاته بالشك والريبة والتخوين والتحريض ثم الاعتقال والملاحقة والتعذيب ثم العرض على المقاصل والمشانق. فأي مروق أكثر من هذا؟!
وإذا تأملت هذه الفعلة الشنيعة تجاه خاشقجي -رحمه الله، تجد أن دوافعها المريضة هي طموح مطلق نحو السلطة. ثم تتذكر تلك القواعد الشرعية في معاملة المجرم بنقيض قصده؛ بمعنى أن الله قد يهيئ في الدنيا طريقاً قدرياً يمنع به المجرم من نيل مراده الذي ارتكب جريمته لأجله؛ كما أنه شرعاً تجب معاملة المجرم بنقيض قصده ودوافعه للجريمة، فينتهي المطاف به إلى أن يكون مجرماً ارتكب جريمته لأجل طموحٍ سياسي مريض ثم تظهر للناس جريمته ومروقه ولا يتحقق له هذا الطموح ولا ينال مراده.
فيجمع الله له بين الخذلان في جريمته، والخذلان في عدم نيله مراده ومقصوده وعدم حصوله على طموحه. وفي المعاملة بنقيض قصد المجرم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يرث القاتلُ شيئاً”.
فالذي يرتكب جريمة القتل أو يشترك فيها لا يمكن له أبداً أن يرث المال، وفي الدنيا لن يرث السلطة إن شاء الله.
ولذلك أيضاً يقرر الفقهاء أن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقِب بحرمانه. بمعنى أن إنساناً قد تكون تهيأت له الأسباب البشرية لأن ينال شيئاً من الدنيا حتى ولو كان لا يستحقه. ولكن بسبب خذلان الله له قد يستعجل هذا الشيء ويريد الظفر به سريعاً بسبب نزقه وانعدام حكمته، فيرتكب جريمة معينة فيهيئ الله له أسباب الحرمان من مراده ومن سلطته وماله.
ولذلك كان قدر الله -سبحانه- لإبليس الذي أدّاه تكبّره لرفض السجود لآدم أن يعامله بنقيض قصده فيكون من أكثر الناس ذلّاً وصغاراً كما قال الله -تعالى: “قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين”.
فجعل الله لإبليس الصَّغار جزاء تكبّره، وأما أولئك الذين اتخذوا آلهة الأرض لكي يكونوا عزّاً لهم، عاملهم الله بنقيض قصدهم فكانوا أكثر الناس خذلاناً لهم كما قال الله -تعالي: “واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّاً. كلا، سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدّاً”.
لأجل كل ذلك، فإن لدي ثقة بالله -سبحانه- أن كل الفاعلين المتورطين سيواجهون العدالة في الدنيا كما أخبر الله عن التسعة رهط الذين قتلوا نفساً بريئة وأرادوا إنكارها حين قالوا: “ثم لنقولنّ لوليّه ما شهدنا مهلك أهله”. ولكن هذه الشهادة الكاذبة يفضحها الله حين قال في الآية بعدها: “ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون. ثم كان عاقبة مكرهم أنّا دمّرناهم”.
في المقابل، شهادة هذه النفس البريئة المغدورة لا بد أن تسكن قلوب قاتليها حتى تصدّعهم وتلقي في قلوبهم ونفوسهم الرعب.
وسيجعل الله لهذه النفس البريئة مخرجاً عادلاً وطريقاً سوياً، ولذلك هيأ الله انتفاض العالم، وانتشار هذه القصة في أنحاء الأرض.
وكلما أراد الباغون طمسها كان سلوكهم طريقاً جديداً للتذكير بها وفتح صفحتها جذعة كما بدأت. ولذلك فانتظروا وعيد الله لذلك الرهط القاتل في آخر تلك الآيات البينات: “فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون”.