خاص: لا يمكن فهم طبيعة الدولة السعودية الثالثة دون العودة لأهم ملامح الدولة السعودية الثانية.
المخاض:
بعد دخول إبراهيم باشا الدرعية وهدم أسوارها تم أخذ أهم رموز الدولة أسرى إلى مصر، وكان محمد علي حريصًا على الاحتفاظ بورقة آل سعود وضمان النفوذ المصري على نجد، ولذا فقد حاول إبقاء كل الأسرى في القاهرة، ولكن السلطان العثماني أصر على استقدام مجموعة على رأسهم الإمام عبدالله بن سعود للأستانة حيث أعدم بتهمة الخروج على الدولة.
والمهم هنا أن فرنسا التي أخرجت من مصر ومعها بريطانيا التي تحالفت مع العثمانيين لإخراج الفرنسيين قد تحالفا لإبعاد وفصل مصر عن الدولة، واستغلال طموح محمد علي، ونجحوا في إدخاله في حرب مع الدولة العثمانية، ومن ثم انقلبوا عليه وحجموه، وتحولت مصر إلى كيان شبه مستقل يتبع اسميًا للدولة مع تنامي للنفوذ الغربي.
في هذه الفترة وفي فورة الحماسة لإثبات الذات كانت مصر حريصة على تثبيت نفوذها على ممتلكات الدولة السعودية الثانية، وبالتالي تعاملت بدهاء مع الأسرى، فقد عاش آل سعود في بلاط محمد علي ونشط آل الشيخ في الأزهر.
كان فيصل بن تركي في مصر صديقًا مقربًا من الأمير عباس حفيد محمد علي والذي تولى السلطة فيما بعد، ومن هنا نفهم إطلاق فيصل بن تركي بعد استباب الأمر لأبيه تركي، وبعد اغتيال تركي وتولي فيصل الذي انشغل في محاولة الحفاظ على ممتلكات أبيه ودخل في صراع مستمر مع المتمردين من الأسرة والحاضرة والبادية.
ويلاحظ وجود نفوذ مصري قوي حيث إن فيصل لم يتمكن من مواجهة حملة مصرية لتنصيب الأمير خالد بن سعود أميرًا على نجد، وأعيد فيصل إلى مصر لفترة حتى تبين فشل خالد ودخول نجد في فترة صراع داخلي يقوده أمراء متنافسون من آل سعود، وقام عباس بتهريب فيصل إلى نجد في عملية ظاهرها أنها من وراء ظهر محمد علي وإبراهيم باشا، والذي يبدو أنها تصرف سياسي محسوب.
فقد عاد فيصل وأمسك بزمام الأمور من جديد في فترة كانت الدولة العثمانية تمسك بزمام الأمور في الشام والعراق، ونفوذها ضعيف على مصر والخليج اللذين يتعرضان لحملة اختراق من الدول الاستعمارية، ولذا فجميع القوى المحلية تتعرض لمحاولات تأثير من جميع الأطراف، فليس من المستغرب وصول مبعوثين إنجليز إلى الرياض ومقابلة الإمام فيصل.
ويتبين من التقرير أن الوفد اكتشف من غير كبير جهد التنافر الشخصي بين أبناء فيصل عبدالله وسعود وكانت التوصية بدعم سعود!!
مع تولي عبدالله قيادة حملات إخضاع المدن والقبائل في عهد والده الإمام فيصل، فقد كثر أعداؤه ولم تستقر له الأمور بعد وفاة والده، ويتضح من دراسة صراعه المرير مع أخيه سعود أن كثيرًا ممن وقفوا مع سعود كان نكاية وكرهًا لعبدالله الذي وقف معه أخواه محمد وعبدالرحمن.
انتصر سعود ثم مات، وأيضًا مات حليف عبدالله القوي محمد، وبقي الصراع له طرفان هما أبناء سعود وعبدالله المريض وأخوه عبدالرحمن الضعيف وصغير السن.
ومع ملل الناس من الصراع العبثي بين الإخوة وأبنائهم على السلطة حان الوقت لإعادة ترتيب الأوراق، وحل النفوذ العثماني محل المصري الذي اضمحل مع تحول مصر إلى نظام خدمي للاستعمار الإنجليزي الذي أخذ بالتوسع في السودان وأوغندا.
لقد صرح عبد الله بن فيصل وبعده عبدالرحمن بتبعيتهم للدولة العثمانية وطلب عبدالله من والي البصرة استلام الأحساء وحمايتها من سعود والإنجليز، واستلموا المعونات من الدولة العثمانية. نعم لقد وصلت الدولة السعودية الثانية إلى قناعة أن البقاء مرهون بدعم وحماية خارجية.
وأخيرًا أسدل الستار على الدولة السعودية الثانية بقدوم محمد العبدالله الرشيد إلى الرياض، وأقنع عبدالله بالذهاب إلى حائل، وتم تولية عبدالرحمن إمامًا اسمًا تحت حماية ابن سبهان رجل ابن رشيد القوي الذي بادر بتصفية أبناء سعود.
وبعد اشتداد المرض على عبدالله عاد للرياض ومات بعد أيام، ولم يتمكن عبدالرحمن من البقاء، فلم يعد الرياض آمنًا، وخرج بأهله وأولاده شرقًا يبحث عن مكان آمن، وعن طريق وساطة متصرف الأحساء العثماني حصل عبدالرحمن على حرية التنقل والإقامة في كافة المناطق الخاضعة للدولة، وتقرر صرف راتب له، وهنا بدأت رحلة التنقل إلى قطر، وانتهى به المطاف إلى الكويت لاجئًا في كنف مبارك الصباح ورعاية الدولة ماليًا، وهناك اكتشف الفتى عبدالعزيز أنهم ليسوا وحدهم، فمثلهم كثير ممن جلى من أمراء عنيزة وبريدة وأتباعهم. ومع استسلام الأب بدأت رحلة الابن الجديدة.. فإلى مقال قادم.