تعد هذه الأوقات صعبة للغاية بالنسبة للمملكة العربية السعودية، وقد استحوذت الدراما التي تبعت مقتل الصحفي “جمال خاشقجي”، والطريقة الوحشية التي تم تنفيذه بها، على اهتمام الرأي العام.
ورغم ذلك، فإن المشاكل الحقيقية في المملكة العربية السعودية بدأت في وقت سابق لذلك الحادث، نتيجة لسلوكها في حرب اليمن.
ويسبق التدخل السعودي في اليمن الحرب المستمرة منذ 4 أعوام، وتنظر السعودية إلى اليمن، منذ فترة طويلة، على أنها تهديد، ويذهب هذا التهديد إلى ما هو أبعد من الدعم الإيراني الحالي للحوثيين.
وفي الواقع، كانت تكتيكات التقسيم والسيطرة “السعودية” في اليمن، وتغير المواقف السعودية من الحوثيين، والحملة العالمية السعودية لتشجيع جيوب الإسلام الشيعي المناهضة لإيران، هي التي ساهمت في تمهيد الطريق أمام أزمة اليمن الحالية.
ومنذ نصف قرن فقط، كان الحوثيون جزءا من جهد سعودي لمواجهة القومية العربية، وقد تعاون السعوديون والإسرائيليون بالفعل بشأن الطائرات العسكرية الإسرائيلية التي كانت تسقط أسلحة للمتمردين المدعومين من السعودية، بما في ذلك الحوثيين.
وقد تسارعت وتيرة تدهور العلاقات بين السعودية والحوثيين مباشرة عندما مول السعوديون افتتاح مركز سلفي في ضواحي العاصمة الحوثية، “صعدة”.
ولم يشكل المركز تحديا فكريا للحوثيين فحسب، بل أيضا كان يتحدى سلطة وقيادة الحوثيين، وقد نجح في جذب الشباب المحرومين اجتماعيا، وكذلك الشباب الذين اجتذبتهم مساواة السلفية، واستاؤوا من قوة الجيل الأقدم، ورأوا التدين الإسلامي كوسيلة لتحدي التسلسل الهرمي التقليدي.
وقد تسبب هذا في نشوء تيار وهابي تصدر القتال أمام الحوثيين المسلحين الذين خرجوا ضد حكومة الرئيس “علي عبدالله صالح”، ولاحقا ضد خلفه المدعوم من السعودية “عبدربه منصور هادي”، وفي النهاية ضد السعوديين أنفسهم، ما أدى إلى تدخل المملكة العسكري في اليمن في مارس/آذار 2015.
وفي مواجهة التهديد المحيط بهم، تحولت قيادة الحوثيين الزيديين، وهم شيعة لهم ممارسات أقرب إلى طقوس المسلمين السنة، إلى إيران، للحصول على الدعم في التعليم الديني، وهو تطور زاد من غضب المملكة، ووضع الأساس لحرب دمر بلدا يصنف بالفعل كأحد أفقر دول العالم.
لكن التدخل السعودي كان أكثر من مجرد مواجهة لوكيل إيراني في أرضه، وقد دفع التدخل الحوثيين والإيرانيين إلى الاقتراب من بعضهم البعض، ومع ذلك، لا يزال الحوثيون يمثلون فرصة في التنافس السعودي الإيراني الأوسع نطاقا، وليسوا وكيلا استراتيجيا للإيرانيين.
ومنذ وصوله إلى السلطة، أخذ الملك “سلمان”، وابنه ولي العهد، السياسة الخارجية والعسكرية السعودية إلى مستويات جديدة أكثر حزما، ومع ذلك لا يمكن القول بأن السعودية الجديدة مستقلة عن الولايات المتحدة، حتى إن كانت المملكة توسع علاقاتها الدولية كما هو واضح في جولة “محمد بن سلمان” الأخيرة في آسيا.
وعلى العكس، فقد أوضح “بن سلمان” ذلك في مقابلات متعددة، وكان هدفه هو إجبار الولايات المتحدة على الانخراط في الشرق الأوسط بشكل أكبر، باعتبارها أفضل ضامن للاستقرار الإقليمي.
ويبدو أن السعوديين يعملون على أساس نظرية لـ”كارل ماركس” تقول: “يجب أن تسوء الأمور لتصبح أفضل”.
تهديد وجودي
وفي القيام بذلك، أثبتت المملكة أنها مدفوعة بتصور أن إيران تشكل تهديدا وجوديا للمملكة، وفي الواقع، قد لا يكون هذا بعيدا عن الصحة تماما، خاصة من وجهة نظر النظام الملكي والأسرة الحاكمة.
ورغم امتلاك المملكة لمحفظة بقيمة عشرات المليارات الدولارات المكتسبة من صادرات النفط، تبقى الحقيقة أن مستقبل المملكة على المدى الطويل لا يؤهلها للهيمنة الإقليمية.
ولذلك تحاول القيادة السعودية، عبر محاولة فرض قيادتها الإقليمية، استغلال نافذة الفرص لأطول فترة ممكنة، وتبقى نافذة الفرص هذه مفتوحة طالما ظلت القوى الإقليمية المنافسة، إيران وتركيا ومصر، تعاني من درجات مختلفة من عدم الاستقرار.
وفي الوقت الحالي، فإن إيران منغلقة بفعل العقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية، ولا تعد إيران عربية، وتعتمد بشكل كبير على تغذية الفخر الفارسي، لكن لديها، مثل تركيا ومصر، الأصول التي تفتقر إليها السعودية؛ حيث القاعدة السكانية الكبيرة، والقاعدة الصناعية الجيدة، والسوق المحلية الضخمة، والقوة العسكرية المتينة، والثقافة عميقة الجذور عبر تاريخها الإمبراطوري والجيوسياسي، ما يجعلها منافسا لن تتمكن السعودية من منافسته بالمال فقط.
أضف إلى هذه العوامل أن النظام الإسلامي الثوري جاء إلى السلطة في ثورة سبقت الثورات العربية عام 2011 بـ32 عاما، علاوة على ذلك، أطاحت الثورة الإيرانية بملك وليس رئيسا، وهو نظام ظل أيقونة للقوة الأمريكية في الشرق الأوسط.
والأهم من ذلك، فإن السعودية تشعر بالقلق بفعل تناقص الطلب على النفط حاليا، وإذا كان المستقبل على المدى الطويل لمصادر الطاقة المتجددة، فإن الغاز الطبيعي ستكون له الهيمنة على المدى المتوسط. وتمتلك إيران ثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم وستكون طهران قادرة – خلال الأعوام الخمسة القادمة – على توفير 24.6 مليار متر مكعب للتصدير السنوي عبر الأنابيب، بخلاف التزاماتها الحالية.
تدمير اليمن
وإذا كانت إيران تشكل تهديدا وجوديا لحكم “آل سعود”، يبقى السؤال هو: ما هو هدف السعودية في اليمن؟ وكذلك في تنافسها الأوسع مع إيران؟ وهناك من يجادل بشكل كبير بأن هدف المملكة في اليمن هو دحر التقدم الحوثي بعد احتلالهم للعاصمة اليمنية صنعاء وأجزاء كبيرة من اليمن، وتدمير سلطة الحوثيين، لكن النهاية كانت حربا مفتوحة.
وبعد 4 أعوام من الحرب، لا يعد هذا الهدف واقعيا، وباختصار، على السعوديين والإماراتيين الاهتمام أكثر بإيجاد طريقة للخروج من الحرب.
ومن المتصور أن السعودية لن تحتمل البقاء في الوضع الراهن، خاصة أن الضرر الذي عانت منه سمعة المملكة بدأ يؤدي إلى تدابير عملية، مثل القرارات التي اتخذها الكونغرس الأمريكي، وقرار ألمانيا وقف مبيعات الأسلحة إلى المملكة.
وبهذا فقد أصبح الألم الذي يسببه استمرار الحرب في اليمن أكبر من ألم الاعتراف بالهزيمة فيها.
لكن المشكلة هي أنه حتى لو أسفرت محادثات السلام التي تتوسط فيها الأمم المتحدة عن نهاية للحرب، فإن اليمن ما بعد الحرب سيمثل تهديدا أكبر وأكثر واقعية.
حولت الحرب اليمن إلى بلد مدمر يحتاج إلى إعادة بنائه من الصفر، وهو بلد عانى سكانه من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.
وبعيدا عن رعاية القضايا الإنسانية الأكثر إلحاحا، لا يوجد ما يدعو إلى الاعتقاد بأن المستثمرين والحكومات التي لديها حزم مساعدات ضخمة وعروض إعادة الإعمار ستطرق أبواب اليمن.
وكما هو الحال في سوريا وليبيا، يتمثل الخطر في ظهور جيل ليس لديه ما يتطلع إليه، ولا شيء يخسره، وفي اليمن، من المرجح أن يستاء هذا الجيل بشدة مما فعله السعوديون ببلادهم.
ورغم ذلك، لم يفت الأوان بعد لمحاولة الحد من الضرر، غير أن ذلك من شأنه أن يتطلب نوعا من الشجاعة والرؤية، الذين لم يبدهما “محمد بن سلمان”، أو غيره ممن يقبعون في السلطة في أماكن أخرى من الشرق الأوسط.