جرت العادة على أن يحرص الأمراء الذين يعدون أنفسهم لتولي الحكم مستقبلا على تقديم أداء سياسي خال من الأخطاء، وربط علاقات جيدة مع جميع الأطراف داخل وخارج بلدانهم.
وتعد ولاية العهد -التي من المفترض أن تكون كل خطوة فيها محسوبة العواقب- أشبه باختبار يظهر فيه الأمير حنكة وكياسة قبل الجلوس على العرش لإدارة البلاد وأمور العباد.
بيد أن الأمر لا ينطبق على الحالة السعودية بعد مرور نحو عام ونصف العام على تولي محمد بن سلمان ولاية العهد، فخلال هذه المدة القصيرة نسبيا، أدخلت سياسة الأمير الشاب المملكة في أتون حروب طاحنة وأزمات حادة مع دول مجاورة وأخرى بعيدة، وتحملت الرياض وزر جرائم دولة وهو ما هز صورة بلاد الحرمين، حسب المراقبين.
بداية مغامرات محمد بن سلمان كانت في اليمن حيث انخرطت السعودية ومعها بعض حلفائها في حرب فاقمت الأوضاع وزادتها سوءا. وفي شهر رمضان الكريم، حاصرت السعودية بمعية بعض الجيران دولة قطر، ثم امتدت مغامرات القيادة السعودية إلى ما وراء البحار حيث دخلت المملكة في أزمة سياسية غير مسبوقة مع كندا.
وقبل أن ينتهي العام الجاري، دمغ السجل السعودي الحقوقي بجريمة نكراء كان ضحيتها مواطن سعودي قتل ثم قطعت جثته بقنصلية بلاده بإسطنبول، وهو الحدث الذي وجهت فيه أصابع الاتهام لمحمد بن سلمان وتعرضت بسببه المملكة لضغط دولي غير مسبوق.
المستنقع اليمني
بدأت قصة مغامرات بن سلمان غير محسوبة العواقب من اليمن، فالأمير الشاب لم ينتظر طويلا بعد تعيينه على رأس وزارة الدفاع، لتجد المملكة نفسها -بعد شهرين فقط على تعيينه- في خضم مغامرة عسكرية بدا واضحا منذ يومها الأول أنها محكومة بالفشل.
فمن دون خبرة عسكرية ولا حتى سياسية، أشرف الأمير محمد بن سلمان -أصغر وزراء الدفاع في العالم وقت تعيينه- على إدارة العملية العسكرية “عاصفة الحزم” التي انطلقت فجر يوم 26 مارس/آذار 2015 ضد جماعة الحوثي باليمن.
وبدا كأن المملكة بهذا القرار تدخل مرحلة جديدة حيث أخذت للمرة الأولى زمام المبادرة وقادت حربا بتحالف دولي.
لكن وعلى العكس لما هو مخطط، وجد الجيش السعودي -بعد أربع سنوات من الحرب على الحدود- نفسه مجهدا دون أن تغير العملية العسكرية كثيرا من موازين القوى على الأرض، حيث استمرت جماعة الحوثي في فرض سيطرتها على العاصمة صنعاء ومحافظات أخرى.
وعوض “إنقاذ” اليمن من “الانقلابيين” كما روج لذلك بن سلمان، عمّقت عاصفة الحزم -التي تحولت لاحقا إلى “إعادة الأمل”- من مأساة اليمنيين مخلفة عشرات الآلاف من القتلى والجرحى وأكثر من مليوني مشرد وأدت إلى تفشي الأمراض والمجاعة وأفقرت اليمن الفقير.
في المقابل وصلت صواريخ الحوثي إلى الرياض ثم إلى جدة وكانت تزور بشكل شبه يومي نجران وجازان والمناطق الحدودية القريبة.
حصار في رمضان
وما إن قدمت المملكة العربية السعودية للرئيس الأميركي دونالد ترامب 460 مليار دولار على شكل اتفاقيات عقب القمة التي احتضتها الرياض يوم 20 مايو/أيار 2017، حتى انقلب الوضع في الخليج رأسا على عقب حيث عاشت المنطقة تغييرات كبرى في مقدمتها تصدر محمد بن سلمان ورجاله المشهد.
ولم تمر إلا أيام ثلاثة على القمة التي جمعت ترامب بالقيادة السعودية حتى تفجرت الأزمة الخليجية يوم 23 مايو/أيار 2017 مع اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية، وبُثت تصريحات ملفقة لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وصفتها الدوحة بالادعاءات الكاذبة.
ومع إعلان السعودية والإمارات والبحرين ودول أخرى يوم 5 يونيو/حزيران 2017 قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدوحة، وتطبيق الحصار عليها، تطورت الأحداث بشكل متسارع حيث قدمت دول الحصار (السعودية والإمارات والبحرين) سلسلة مطالب إلى قطر بلغت 13 مطلبا أبرزها إغلاق القاعدة العسكرية التركية، وإغلاق قنوات شبكة الجزيرة، وهي مطالب رفضتها قطر التي أدارت الأزمة بنجاح وتمكنت من تجاوز الحصار.
قبل ذلك، وتحديدا في 21 يونيو/حزيران 2017، اتضحت الصورة بشكل جلي، وأضحى بإمكان المراقبين الربط بين الأحداث السابقة -بدءا بالقمة الأميركية السعودية ثم حصار قطر- حيث شهدت المملكة حدثا غير متوقع تمثل في إزاحة الأمير محمد بن نايف من ولاية العهد ومنحها لمحمد بن سلمان الذي أدخل البلاد مرحلة من الطيش السياسي، بحسب مراقبين.
الأزمة مع كندا
أخطاء بن سلمان تجاوزت الإقليم لتصل إلى كندا التي وجدت نفسها في أزمة دبلوماسية غير مسبوقة مع السعودية بعد تغريدة للسفارة الكندية في أغسطس/آب الماضي طلبت فيها “الإفراج الفوري” عن ناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان موقوفين في المملكة.
وردا على هذا التعليق، استدعت السعودية سفيرها لدى أوتاوا “للتشاور”، واعتبرت السفير الكندي شخصا غير مرغوب في وجوده بالبلاد، وأمهلته 24 ساعة للمغادرة.
بدا محمد بن سلمان متحمسا وهو يقرع الطبول ضد كندا حيث سارع لقطع العلاقات التجارية معها، وتعليق رحلات الخطوط الجوية، وسحب الاستثمار في الأصول والسندات الكندية، وأوقف برامج التدريب والابتعاث والزمالة إلى كندا.
وبالإضافة إلى تجييش الذباب الإلكتروني الذي كان يقوده حينها المستشار بالديوان الملكي سعود القحطاني اليد اليمنى لمحمد بن سلمان، حشدت الرياض كافة أجهزة للإعلام للتعبئة والتحريض ضد كندا التي “ارتكب خطـأ دبلوماسيا لا يغتفر بتدخلها في شأن المملكة الداخلي الذي يعد خطا أحمر”.
لكن الخلاف بين البلدين أخذ منعطفا آخر عندما نشر حساب تويتر ذو صلة بالحكومة السعودية صورة طائرة تتجه صوب أبراج في سماء مدينة تورنتو الكندية. ورغم أن التغريدة حذفت لاحقا لكنها أعادت للأذهان أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، ودفعت مسؤولا سعوديا بالسفارة السعودية في واشنطن للاعتذار.
الجريمة النكراء
عدت جريمة مقتل جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الماضي أخطر أزمة دولية واجهتها المملكة منذ هجمات 11سبتمبر/أيلول 2001، وسلطت الجريمة الأضواء على سياسات السعودية الخارجية، وتحديدا مساءلة الأمير محمد بن سلمان.
وتصاعدت الضغوط على القيادة السعودية منذ اليوم الأول لاختفاء الصحفي السعودي، وبلغت ذروتها حينما ربط تقرير لوكالة المخابرات المركزية (سي أي آي) في تقرير بشكل مباشر بين الحاكم الفعلي للمملكة وعملية القتل.
ورغم دفاع الرئيس الأميركي المستميت عن حليفه ولي العهد السعودي، فقد زاد موقف الأخير سوءا بعد أن أكد مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية -اطلع على تقييم وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية- أن محمد بن سلمان هو من أصدر أوامر القتل.
وتعليقا على سياسات ولي العهد، رأى الباحث في جامعة “رايس” الأميركية كريستيان أولريشسن أن “السعودية بقيادة محمد بن سلمان عرضة للممارسات المتهورة في ظل ما يبدو أنه تفكير محدود جدا بالعواقب، سواء أكان حصار قطر أو احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري أو الخلاف مع كندا دون الحديث حتى عن حرب اليمن”.
في السياق ذاته، قالت مجلة إيكونومست البريطانية في مقال نشر مؤخرا أن “طيش” ولي العهد السعودي يضر ببلاده دون مبرر، ودعت حلفاءه الغربيين إلى نصحه بالتهدئة والتوقف عن تدمير بلاده وسمعته.
ومن التعليقات التي أوردتها الصحف الغربية، كتبت صحيفة لومانيتي الفرنسية تقريرا تحت عنوان “بعد أن فقد عقله.. هل يفقد بن سلمان عرشه؟”، تساءلت فيه إن كان ولي العهد السعودي وما يتهم به من دور في قضية خاشقجي قد خسر تاجه قبل أن يضعه على رأسه.