بعدما أحكمت السلطات السعودية قبضتها على الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ووحدت الصحف التي تعد أبواقاً لها مصطلحاتها في توصيف “الكيان الصهيوني” بـ”إسرائيل” دون الإشارة إلى أنه كيان محتل، في تعمد لتزوير التاريخ، وبعدت عن هجاء الاحتلال تنفيذا لأوامر مباشرة من السلطة، وصلت اليوم حد الاستناد على الروايات الصهيونية لتبرئة النظام.
ففي أعقاب كشف صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، في تقرير موسع، أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، هاتف بنيامين نتنياهو حين كان رئيسا لوزراء الكيان الصهيوني، وطالبه بتجديد رخصة برنامج التجسس “بيغاسوس” مقابل فتح الأجواء السعودية لطيران الاحتلال، استشهدت صحيفة عكاظ السعودية ببيان حزب الليكود الصهيوني لنفي ما كشفه التقرير.
الصحيفة السعودية المحسوبة على السلطة، أشارت إلى أن الرياض سبق ونفت على لسان مصدر مسؤول ما وصفتها بـ”مزاعم وسائل إعلام غربية معادية” بأن المملكة استخدمت برنامجاً صهيونياً لتتبع الاتصالات، وأن “هذه الادعاءات” لا أساس لها من الصحة، وأن سياسة المملكة لا تقر مثل هذه الممارسات.
لكنها لم تكتفِ بالتذكير بمواقف المملكة المخالفة للوقائع الثابتة، موضحة أن التكذيب هذه المرة جاء من حزب الليكود الصهيوني الذي أصدر الجمعة 28 يناير/كانون الثاني 2022، بياناً فند من خلاله تقارير وصفها بـ”المغلوطة” مفادها أن الحكومة الصهيونية السابقة عرضت على السعودية نظام “بيغاسوس” التجسسي التابع لشركة NSO الصهيونية.
الأمين العام لحزب التجمع الوطني السعودي المعارض الدكتور عبدالله العودة، استنكر استناد الصحيفة السعودية على حزب الليكود لمحاولة نفي استخدام أجهزة التجسس الصهيونية، مستشهدا بمثل شعبي يقول “من شاهدك يا أبا الحصين؟”؛ ويضرب المثل للتهكم على من يحضر شاهداً له قريباً منه أو شريكاً له في مصلحة.
ويتزامن تقرير نيويورك تايمز، مع كشف تحقيق موسع أجراه موقع ألماني، عن تورط الأمير السعودي سطام بن خالد آل سعود، في دفع أموال مقابل التجسس على هاتف الإعلامية في قناة الجزيرة غادة عويس، منتصف أبريل/نيسان 2020، وأن ذلك تم برعاية سعود القحطاني المستشار السابق لولي العهد السعودي.
وجاء تقرير الصحيفة الأمريكية كاشفاً للعقلية التي يتمتع بها ولي العهد، والتي تفتقر للقدرة على المفاوضات، وقابليته تقديم تنازلات للوصول لمأربه، وشغفه بالتجسس وتتبع المعارضين المدنيين وغيرهم؛ فقد نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريراً يروي الحكاية الكاملة لـ”شغف” القيادة السعودية بالاختراق والتجسس الإلكتروني في أعقاب اغتيال جمال خاشقجي.
وأوضحت أن هوس القيادة السعودية بالتجسس يعود إلى الربيع العربي وموجة الانتفاضات التي اجتاحت تونس وبدأت في أواخر عام 2010، ثم مصر وليبيا والبحرين وسوريا عام 2011، وخشيت أن يكون النظام الملكي السعودي هو الهدف التالي؛ ولذلك سعت الاستخبارات السعودية عام 2013 إلى الحصول على أدوات للتجسس على الأيفون والأيباد والأندريود.
وأشارت واشنطن بوست إلى أن السعوديين علموا أن الكيان الصهيوني، يمتلك أكثر الأدوات السيبرانية تقدُّماً، ووفقاً لمصادر أميركية وأوروبية وسعودية، كثَّفت السعودية من جهودها الساعية إلى شراء التكنولوجيا من شركاتٍ سيبرانيةٍ صهيونية، وعمل القحطاني على إبرام الصفقات مع المصادر الاستخباراتية الغربية بطرقٍ تساعد محمد بن سلمان سياسياً.
وبالعودة مرة أخرى لاستعانة الصحيفة السعودية ببيان الليكود الصهيوني لنفي كل ذلك، واعتباره دليل لتبرئتها في مقابل إدانة أصحاب التقارير الكاشفة لنهج السلطة، بحسب ما قالته في عنوانها ” براءة السعودية وفضيحة الإعلام المعادي”، فنجد أن تصرفها لم يكن مستغرباً، فسياستها التحريرية اعتمدت على استكتاب من يروجون للكيان الصهيوني وسياساته.
ليس ذلك فحسب، بل جعلت من نفسها منبرا لمناهضة حركة المقاومة الفلسطينية، والترويج للمطبعين مع الكيان الصهيوني؛ إذ نشرت أمس بالتزامن مع زيارة رئيس الاحتلال إسحاق هرتسوغ للإمارات، تأكيد ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، أن العلاقة مع الكيان تسير إلى الأمام، ونقلت عنه قوله إن التعاون في مواجهة التحديات يقطع الطريق أمام المتطرفين.
باتت الصحيفة تتعامل مع الكيان الصهيوني، كدولة تنقل عنها أخبارها ولقاءات ممثليها، وسبق وصنفتها ضمن دول كبيرة لها ثقلها ومكانتها في الشرق الأوسط دون الإشارة إلى أنها كيان محتل حين نشرت خبرا في أكتوبر/تشرين الأول 2021، يقول: “هزة أرضية مصدرها البحر المتوسط شعر بها سكان ثلاث دول لبنان ومصر وإسرائيل”.
وتحمل صيغة الخبر مغالطة كبيرة لأن “إسرائيل” كيان محتل مقام على أرض فلسطين، فكان لزاماً على الصحيفة القول إن سكان فلسطين والمحتلين الصهاينة للأراضي الفلسطينية شعروا بالهزة الأرضية، خاصة أنها ظاهرة طبيعية تطال مناطق جغرافية؛ وحينها تساءل أستاذ الإعلام السياسي الدكتور أحمد بن راشد بن سعيد: “لماذا تخونين كل الحقائق يا #عكاظ من أجل الصهيونية؟ هل أصبحت فلسطين تاريخياً وجغرافياً وجيولوجياً “إسرائيل”؟”.
الصحيفة نفسها قبل قرابة العام من نشر الخبر المشار إليه بهذه الصيغة، وتحديدا في أغسطس/آب 2020، عنونت إحدى صفحاتها بـ”الإخوائليون”، مستخدمة صورة مزورة للإمام حسن البنا بزي حاخام يهودي، ضمن انتقادها لجماعة الإخوان المسلمين، وحربها عليها مدعية أنها ترصد السر والعلن في العلاقات الأزلية بين الإخوان والكيان.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2020، أي بعد شهر من إعلان الإمارات تطبيع علاقاتها رسمياً مع الكيان الصهيوني وتلتها البحرين، شنت السلطة السعودية حملة إعلامية كانت عكاظ أحد أطرافها إلى جانب صحف حكومية أخرى، وقناة العربية من جانب الإعلام المرئي، للترويج لما تعجز السلطة عن الإفصاح عنه علانية من تأييد للتطبيع وتنازل عن القضية الفلسطينية.
ودأبت الصحيفة على نشر تقارير ومقالات تروج لهذه الأفكار وتكيل الاتهامات للفلسطينيين بالتنازل عن قضيتهم وللمقاومة الفلسطينية بالإرهاب، منها نشرها في 31 مايو/ أيار 2021، تقريرًا يهاجم حماس مرفقاً بصورة معنونة بعبارة “غسل أدمغة أطفال غزة”، وتأكيدها أن القضية الفلسطينية يجب ألا تترك لهم، في إضعاف لدورها ودعم غير مباشر للكيان.
الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني الدكتور فايز أبو شمالة، رأى حينها في حديثه مع الرأي الآخر، أن ما نشرته عكاظ يكشف عن وجه آخر للعجز والهزيمة السعودية، مستشهدا بالمثل القائل “من لا يستطيع قطف العنب، يقول عنه حصرم” في إشارة إلى أن عكاظ تبرر عجز النظام العربي وفشل السعودية في دعم الشعب الفلسطيني، وذلك بالتشكيك في نصرة غزة.
وأكد أن في نصر المقاومة هزيمة لكل الأنظمة المطبعة مع الاحتلال، ومنها تلك التي سمحت لطائرات الكيان بعبور أجوائها -في إشارة إلى سماح السعودية للطيران الصهيوني باستغلال مجالها الجوي-، قائلا إن “العجز والتآمر والتعاون مع أمريكا، ومع العدو الصهيوني، كان المحفز لهذا الهجوم الفج على المقاومة وعلى أطفال غزة الذين آمنوا بالله، وعشقوا المقاومة”.
وكان من بين ما نشرته عكاظ أيضا، حوار أجرته مع الكاتب عبدالله بن بجاد العتيبي، في يونيو/حزيران 2021، قال فيه إن “خيار الحرب مع اسرائيل انتهى والخيار المنطقي هو السلام”، التقفته الصفحة الرسمية “إسرائيل بالعربية” معقبة بالقول: “إن هذا ما يقوله المفكرون والكتاب العرب منذ سنوات ويدنا ممدودة للسلام”.
الصفحة الرسمية للاحتلال سبق واحتفت أيضا بمقال للكاتب السعودي عبدالرحمن العكيمي، نشرته عكاظ في مايو/آيار 2020، حث فيه المملكة على مراعاة مصلحتها في إمكانية إقامة علاقات مع الاحتلال في مختلف المجالات خاصة وأن مثل هذه العلاقات متاحة مع العديد من الدول العربية والإسلامية، متسائلا: “ماذا لو أصبح لدينا علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية مع إسرائيل”.
وفي فتح المجال للكيان الصهيوني للمطالبة بما يشاع كذباً أنه حق لهم في الأراضي السعودية وتهيئة للرأي العام السعودي للتطبيع ولتواجد اليهود بينهم، روجت الصحيفة السعودية الحكومية على لسان من أسمته “باحثاً لغوياً” أن التوراة نزلت في جنوب شبه الجزيرة العربية، وأن النبي إسحاق من تهامة، وأن ثمّة آثاراً تركها بنو إسرائيل هناك.