إن السلطات التي تحاول تكميم الأفواه من خلال الاعتقال التعسفي تساهم من حيث لا تدري بزيادة حدة هذه الأصوات واتساع شعبيتها.
على الذراع الأيسر لمدينة بريدة في منطق القصيم (شمال مدينة الرياض، عاصمة السعودية) اتكأتْ هضبة ناعسة، سمّاها الناس بالهلال، فكانت تلك الهضبة حضناً حميمياً للذكريات الأولى لطفولتي، وخطواتي: لثغتي وعثراتي المبكرة، كان ذلك الهلال سيّد النجوم، الليلة التي تحدث عنها شاعر المهجر (إيليا أبوماضي) في طفولته التي تبعثرت بين أشجار لبنان وأرزها، بينما هلالنا هذا احتضن نخيل القصيم وتمرها، فقال إيليا:
وطن النجومِ أنا هنا، حدِّق: أتذكر من أنا؟
ألمحتَ في الماضي البعيدِ فتىً غريراً أرعنا
جذلان يمرح في [نخيلك] كالنسيم مدندِنا
يتسلّق الأشجار لا ضجراً يحسّ ولا ونى
ويعود بالأغصان يبريها سيوفاً أو قنا
أنا ذلك الولدُ الذي دنياه كانت ههنا
لاحقاً في جوار مدرسة الفيصلية الابتدائية التي انتقلنا إليها كانت ذاكرتي حديثة العهد بالوعي، خارج البيت تماماً كانت الحشود البشرية العفوية المتعاطفة والرافضة للظلم، زحفت من غير أن تقطع لِينة أو تكسر شوكة أو تهريق دماً حراماً. في اجتماع لم تحشده مواقع التواصل الاجتماعي ولا القنوات المختلفة التي لم تُخلق بعد، فقد كان ذلك في سنة 1415هـ- 1994م.
الحشود لم ينسّقها أحد ولم يدعُ لها أحد غير تلك العاطفة المشبوبة التي خافت على رمزها الاجتماعي والديني والفكري أن يُودع في غيابة الجبّ، من غير دليل ولا برهان.
وفي تلك الحشود التي أثبتت سلميتها التامة وخيارها المدني، زَحَفَتْ طفولتي خلف ذلك الظلّ الغائب والخيال الجميل الذي رأيته أمامي وكان ملهِما ً ومعلماً، و(أباً).
غيابُه كان حضوراً من نوعٍ آخر. غيابٌ حضرت فيه روح التحدّي الفكري والثقافي السياسي الذي يلهم المعرفة، ويحرث الأسئلة ويهيّج رياح الوعي، ثم كانت تلك الطفولة الحافية تركض مع تلك الحشود، فتغيص الأقدام حتى نظر أحدهم إلىّ فرفعني على كتفه ومضينا في طريقٍ صاخب بالعاطفة من حي الفيصلية لعدة كيلوات، كانت تلك الحشود في بريدة تريد أن تقول “لا”، وربما كانت تريد أن تقول “لن نسمح لك”.
كان أهم ملفّ نَظَم عِقد هذه الحشود هو ملف “الاعتقال التعسفي”. كانت فكرة الاعتقال؛ فكرة تسلطية تعسفية تقطع شكل الحوار الطبيعي، وتهزّ شكل التفاوض الاجتماعي بين الأطياف المختلفة، وتمارس حلاً متخلفاً يقوم على تغييب الأصوات الناقدة أو الحرة أو المختلفة، وإلغاء الآخرين ظناً أن هذا التغييب الشكلي يعني تقليصاً من قدرة المغيّب على التأثير، وضرباً لخطاب الصوت المقهور في حضوره وعمله.
لكنَّ الذي غاب عن تلك الأدوات القمعية البدائية أن صوت المهمشين لا يزيده التهميش والتغييب الممنهج إلا تأكيداً على خطابه المرتبط بقيم الدفاع عن المهمشين والمحرومين والجوعى والمضطهدين. والمهم، أن ملفّ الاعتقال التعسفي كان الشرارة التي أشعلت لهيب تلك الحشود السلمية قبل خمسٍ وعشرين سنة، وكانت مطبخ الغليان الذي أنتجها.
بعد تلك الأحداث بقرابة عشرين سنة، في بريدة نفسها، أثناء أحداث الربيع العربي، وفي أزمة متراكمة حول الاعتقال التعسفي، وضمن تقديرات تحدّثت عنها منظمات محلية وقتها حول عشرات الآلاف من المعتقلين في السعودية، وحول تجاهل الإجراءات العدلية، تضخّم ملف الاعتقال التعسفي ذاته. خرجت مرّة أخرى حشودٌ أقلّ، دفَعَتْها نفس الملابسات والسياقات، لتطالب بذات المطالب، حول إغلاق ملف الاعتقال التعسفي وكفّ يد الظلم عن النيل من رموز البلد الفكرية والدينية والاجتماعية وأصحاب الرأي وأصحاب العمل السلمي المدني.
ولكن لم يكن مفاجئاً أن تكون الأجهزة الأمنية تتحدث عن نفس الحل الذي كان المشكلة. الاعتقال التعسفي للمطالبين بحلّ ملف الاعتقال التعسفي.
شبابٌ وفتيات في عمر الزهور، يقبع الكثير منهم الآن خلف أسوار سجن الطرفية (على كتف بريدة الشمالي الشرقي) .قبل أسبوعين، وبعد الحادثة الأليمة لمقتل الشهيد خاشقجي-رحمه الله، وعلى الرغم من أن الكثير من مهندسي تلك الاجتماعات العفوية حول ملف المعتقلين التعسفيين في بريدة والذين طالبوا بحل الملف يقبعون الآن في سجن الطرفية وغيره من السجون، فإن إدارة السجن استدعت تلك الأسماء اليافعة من غير سابق إنذار لتسألها وهي داخل المعتقل حول أسباب تلك الاجتماعات العفوية قبل خمس سنوات، وعن ظروفها، في محاولة لا تخفى لفهم سياق تلك الاحتجاجات السلمية في بريدة.
الشيء الذي لم يُقلْ، هو أن فتح ملف التحقيق لمعتقلين في بريدة حول ظروف الاجتماعات المطالبة بحل ملف الاعتقال التعسفي قبل خمس سنوات، يعني أن إدارة السجن ربما تحسّ أن الظروف الحالية مرشّحة لأن تكون شبيهة بالظروف التي خلقت تلك الأجواء الاحتجاجية، وربما أن هذا هو ما يؤرق المحققين.
ولكن في النهاية، إذا أراد أولئك أن يفهموا أسباب تلك الاحتجاجات وسياقها أن يفهموا أن مكافحة أسباب القهر والظلم ومنع وسائل الاعتقال التعسفي، هو طريق الحل المدني المشروع بعيد المدى، وليس منع المظلومين أو اعتقال المضطهدين، فتلك الاعتقالات التعسفية تخلق الرموز، وتصنع السرديات الشعبية والمخيال الذي ينبثق منه الاحتجاج. فالقمع هو الرحم الذي يولد منه النضال، والسلام.