“مقاومة داخلية نادرة للحكومة السعودية”.. بهذا التوصيف تتداول تقارير غربية تطورات موقف قبيلة الحويطات من قبول التوقيع على وثائق الترحيل من مناطق مشروع “نيوم”، الذي يمثل أحد الركائز الحيوية للرؤية الاقتصادية لولي العهد “محمد بن سلمان”.
وقامت السلطات السعودية مؤخرا باحتجاز عدد من أفراد القبيلة، التي تنتشر فيها ملكية السلاح، بسبب تصاعد مواقفهم المناهضة للترحيل، خاصة بعد مقتل أحد أبنائهم “عبدالرحيم الحويطي” لدى رفضه تسليم أرضه بموقع نيوم في محافظة تبوك، وفقا لما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية عن مصادرها.
ويعد موقف الحويطات أول تمرد قبلي على السلطة تشهده المملكة منذ عقود طويلة، وهو يضيف طبقة جديدة إلى التعقيدات التي يواجهها مشروع نيوم، الذي يعاني أيضا من التشكيك في جدواه في عصر أسعار النفط المتدنية وأزمة تفشي فيروس “كورونا” المستجد “كوفيد-19”.
بخلاف ذلك، هناك 3 عوامل تجعل أزمة الحويطات على وجه التحديد جديرة بالانتباه:
الأول: هو أن التعويضات التي عرضتها الحكومة على القبيلة سخية بالفعل حيث تشمل تعويضات مادية إضافة إلى مساكن بديلة، بما يعني أن رفض أبناء “الحويطات” لمغادرة أراضيهم هو رفض مبدأي وليس مطلبي.
والثاني: هو أن عدد الذين يتوجب عليهم الرحيل من منطقة المشروع والانتقال إلى مكان آخر من أجل إفساح المجال لأعمال البناء، يصل إلى 20 ألف شخص، وهو عدد كبير ولا يمكن تجاهله.
أما العامل الثالث فيتمثل في نشر وسائل إعلام سعودية سابقا بيانا منسوبا للحويطات، زعمت فيه تجديد البيعة والولاء للعاهل السعودي، الملك “سلمان بن عبدالعزيز” وولي عهده، وهو ما فاقم حالة الاستياء بين أبناء القبيلة، الذين نددوا بآلة الدعاية الحاكمة التي تسعى للحديث نيابة عنهم.
توقيت حرج
لكن الأمر الأخطر هو أن تمرد الحويطات ربما يصبح سابقا لاعتراضات مماثلة من القبائل على خطط السلطات للتلاعب بالديموغرافيا والتركيبات السكانية في المناطق التي هيمنت عليها القبائل في المملكة تاريخيا.
ومن شأن هذه الحقيقة أن تشكل تحديا كبيرا لخطط “بن سلمان” المستقبلية، وتهدد بتآكل العقد الاجتماعي بين السلطة والقبائل، الذي احترمت بموجبه العائلة المالكة تقليديا الأماكن الخاضعة لسلطة القبائل، وامتنعت عن تهجيرهم من مناطقهم، مقابل تعهدهم بالولاء لها.
وحسب تقدير مركز “صوفان” الاستشاري للشؤون الأمنية في نيويورك، فإن هذا التحدي سيصبح أكثر خطورة مع تفاقم الظروف الاقتصادية في المملكة وتراجع قدرة الحكومة على توزيع أموال التعويضات مستقبلا.
يعضد هذا الاتجاه الإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة السعودية مؤخرا وشملت تقليص النفقات، وإلغاء بدل غلاء المعيشة، وزيادة ضريبة القيمة المضافة، حيث يبدو واضحا أن القيود المالية بدأت تطال مشروع نيوم أيضا، وهو ما تثبته صور الأقمار الصناعية التي بثتها قناة الجزيرة والتي أظهرت تراجعا كبيرا في الجدول الزمني لتنفيذ المشروع مقارنة بوعود ولي العهد قبل 4 سنوات حين تعهد بأن تكون أول مدن نيوم جاهزة بحلول عام 2020.
ومع زيادة الضغوط الاقتصادية على السعوديين، فمن المرجح أن تكون المجتمعات القبلية أقل رغبة في الاستجابة لضغوط السلطات لترك قراهم الواقعة داخل النطاق الافتراضي لمدينة نيوم.
وهو ما يعني لجوء الحكومة لفرض سياسات التهجير بالقوة كما حدث سابقا حين هدمت السلطات حي المسورة التاريخي في مدينة العوامية، شرقي المملكة عام 2017، وأخلت سكانه قسرا، ما استوجب إدانة كبيرة من الأمم المتحدة.
العائلة والقبيلة
وينذر التمادي في هذه السياسات الحكومية الجائرة بتهديد التوازن القبلي الذي يعد أحد أركان النظام السياسي في السعودية.
فمنذ تأسيس الدولة السعودية الأولى بالتحالف بين “محمد بن سعود” ورجل الدين “محمد بن عبدالوهاب”، احترمت الدولة الجديدة مبادئ القبلية، والتزمت الطاعة والانصياع لشيخ القبيلة المتغلبة، وأسست القبائل فيما بينها نظاما سياسيا فريدا عن طريق المصاهرة والتزاوج وتقاسم العطايا والامتيازات المالية.
وكان العنف القاهر وتطبيق حد الحرابة هو مسلك النظام ضد جميع القبائل التي تمردت على هذا النظام الجديد الذي أسسه آل سعود، حيث تم تنفيذ الإعدام بحق عديد المعارضين من دون إجراءات قانونية محكمة، وهو ما يمثل “حمولة تاريخية” مخزونة في الوعي الجمعي لأبناء القبائل حسبما يؤكد المحاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتجرز بولاية نيوجرسي الأمريكية “عبدالحميد صيام”.
وتشمل هذه الحمولة قبائل عديدة، منها “شمر”، ذات التاريخ الصدامي الطويل مع النظام السعودي، والذي يمتد إلى القرن الثامن عشر، وهو ما أدى إلى هجرة فروع من القبيلة إلى سوريا والعراق، فيما واصل ما تبقى منها في الجزيرة العربية المواجهة حتي عام 1921، قبل أن ينتهي التمرد بزوال إمارة حائل وانضمامها إلى الدولة السعودية.
ومع تأسيس الدولة السعودية الثالثة على يد “عبدالعزيز آل سعود”، المعروف أيضا بـ”ابن سعود”، مطلع الثلاثينات من القرن الماضي ظلت ذات القواعد القبلية قائمة، وفي مقابل التعهد بالولاء لآل سعود، منحت القبائل امتيازات مالية وجغرافية وأسس “ابن سعود” علاقات مصاهرة مع معظم القبائل النافذة، وأقر نظاما فريدا لتداول السلطة بين أبنائه، وبذلك أصبحت معظم القبائل النافذة أخوالا لأحد الملوك أو أولياء العهد والأمراء النافذين.
لكن هذا التوازن بدأت يختل مع صعود الملك “سلمان” وترسيخه السلطة في يد أبنائه، حيث بدا أن نجله وولي عهده محمد “بن سلمان” يتبنى مشروعا لتفكيك نموذج دولة القبيلة التاريخي لصالح نظام شمولي قائم على حكم الفرد المطلق، وهو ما يعني تهديد البنية التقليدية للدولة السعودية.
وكما أشارت دورية “إنتليجنس أون لاين” الفرنسية، فإن هذه السياسة وضعت ولي العهد في مواجهة شيوخ القبائل في أكثر من مناسبة، خاصة حين قرر “بن سلمان” السيطرة على الحرس الوطني وهو الجهاز العسكري الذي يعد معقلا تاريخيا للقبائل السعودية، وهو ما دفع “بن سلمان” لاعتقال بعض شيوخ القبائل النافذين لكنه أفرج عنهم بعد تدخل والده.
ورغم كل تلك المؤشرات، ورغم ما ينذر به المشروع من احتمالات متزايدة للتمرد القبلي، لا تتوقع “كريستين ديوان”، من معهد دول الخليج العربية في واشنطن، أن يتخلى “بن سلمان” عن نيوم؛ لأن المشروع “هو حجر الزاوية لكل شيء يرغب في تحقيقه، على حد وصفها.
ولكن ما يمكن الجزم به أن العام الحالي سيكون محوريا في تحديد مستقبل نيوم، فإما أن تنجح المملكة في تأمين التمويل اللازم للمشروع واحتواء غضب القبائل بمزيج من الامتيازات والقمع، وإما أن يكشف المشروع بشكل لا لبس فيه عن مواطن الضعف في دولة “بن سلمان” الجديدة، على المستويين السياسي والاقتصادي كليهما.