في نظر البعض في دوائر السياسة الخارجية، وكذلك في نظر كثير من أنصاره الدوليين، يعد ولي العهد السعودي، الأمير “محمد بن سلمان”، مصلحا دينيا يعمل على التقليل من تأثير القوى الراديكالية القوية في المملكة العربية السعودية، التي تبنت اتجاها محافظا من الإسلام على مدى الأعوام الـ 40 الماضية داخل المملكة وخارجها. ومع ذلك، تعتمد التصورات حول “بن سلمان” كمصلح ديني على قراءاتٍ معيبة لتاريخ العلاقة بين أسرة “آل سعود” الحاكمة والمؤسسة الدينية الوهابية.
ويظهر تاريخ الدولة السعودية الحديثة أنه خلال معظم المراحل الفارقة التي مرت بها البلاد، اتخذت القيادة داخل العائلة المالكة قرارات حافظت بها على تفوقها السياسي ضد أي منافسة من النخب الدينية أو رجال الدين المنفردين. وإذا كان “بن سلمان” يسعى إلى إصلاح المجال الديني بشكل كبير، فإنه كان سيستهدف أقوى المؤسسات الدينية الرسمية في المملكة، مثل مجلس “كبار العلماء”، وهذا لم يحدث بعد.
ويحلل هذا التقرير العلاقة بين السلطة السياسية والدينية في السعودية. ويستكشف القسم الافتتاحي طبيعة الاتفاق السياسي الديني الذي وضع السلطة السياسية فوق سلطة الدين كمصدر نهائي للسلطات.
ويتناول القسم الثاني المزيج الدقيق بين التدين والبراغماتية الذي اتبعه الحكام السعوديون المتعاقبون لتثبيت حكمهم وتخفيف تأثير التحديث الاقتصادي السريع وتوجيه المملكة خلال فترات الضغط الداخلي الكبير. ويتناول القسم الثالث حالات تزايد المدن الديني خلال فترة نمو “حركة الصحوة” في التسعينيات.
وختاما ينظر القسم الرابع في رواية “بن سلمان” حول عام “1979” رؤيته للإسلام المعتدل في المملكة قبل ذلك العام، بينما يوضح القسمان الخامس والسادس أن “بن سلمان” ليس في الواقع مصلحا دينيا، ولكنه بدلا من ذلك اتبع تغييرات أكثر رمزية من كونها موضوعية. وينتهي هذا التقرير بالقول إن “بن سلمان”، مثل سابقيه، يستخدم الدين كأداة للسيطرة السياسية، على الرغم من محاولات بعض مؤيديه الادعاء بأنه يصلح الوهابية.
السياق التاريخي
تعد المملكة العربية السعودية المعاصرة، التي حكمها الملك “عبد العزيز آل سعود” وأبناؤه منذ عام 1932، النسخة الثالثة من الدولة السعودية في شبه الجزيرة العربية. وتشكلت أول دولة سعودية، التي كانت تعرف باسم “إمارة الدرعية”، عام 1744، عندما انضم الأمير “محمد بن سعود” من الدرعية إلى “محمد بن عبد الوهاب”، وهو عالم دين إسلامي من “نجد السفلى”، أو الرياض اليوم، لإنشاء كيان سياسي ديني يهدف إلى تخليص الإسلام في شبه الجزيرة العربية من الممارسات المنحرفة والبدع.
وكان “عبد الوهاب”، مؤلف كتاب “التوحيد”، يهدف إلى العودة بالإسلام إلى جذوره الخالصة، وبالتالي فإنه يعد أحد الآباء الروحيين للحركة السلفية. وقام “محمد بن سعود” ونسله بتوسيع الدولة السعودية إلى ما هو أبعد من المعقل النجدي، وفي أوجها، غطت أول دولة سعودية منطقة تمتد من اليمن في الجنوب إلى حلب وفلسطين في الغرب وكربلاء في العراق الحديث إلى الشمال.
وانهارت أول دولة سعودية عام 1818، بعد سلسلة من الهجمات البريطانية على الأراضي السعودية والهجوم المصري الأخير على “الدرعية”. وتم استبدالها سريعا بدولة سعودية ثانية، وهي إمارة نجد، التي استمرت حتى عام 1891، عندما انهزم “عبد الرحمن آل سعود” على يد أسرة “آل رشيد” المنافسة في حائل، وتم إجباره على الفرار مع عائلته، بما في ذلك الشاب “عبد العزيز”.
وبعد العثور على ملاذ في الكويت، وإعادة التجمع، احتل “عبد العزيز آل سعود” الرياض عام 1902، وبدأ عملية توحيد الأراضي من خلال الاستيلاء على ما تبقى من نجد عام 1912، ومحافظة الأحساء المجاورة عام 1922، والحجاز عام 1925، وعسير عام 1930. وفي عام 1932، أعلن “عبد العزيز” اندماج نجد والحجاز وعسير في المملكة العربية السعودية، مما جعله يسيطر على غالبية شبه الجزيرة العربية شمال اليمن، باستثناء الإمارات المحمية من بريطانيا في الكويت وقطر والبحرين وعمان وإمارات الساحل المتصالح (دولة الإمارات اليوم) على ساحل الخليج العربي.
ويشير الكثير من مراقبي المملكة على استمرار هذا النوع “التحالف الأسري”، حيث يمارس “آل سعود” القيادة السياسية، بينما يحتكر نسل “عبد الوهاب، أسرة “آل الشيخ” بشكل رئيسي، المناصب الدينية. ومع ذلك، فإن الواقع أكثر تعقيدا، حيث قام “عبد العزيز آل سعود” وخلفاؤه، في اللحظات الرئيسية، باستغلال الدين كأداة للسلطة وكمصدر للشرعية.
وعندما تمرد البدو المعروفون آنذاك باسم “الإخوان” ضد السياسة الدينية لـ “عبد العزيز آل سعود”، تم سحقهم من قبل قوات الدولة السعودية الناشئة في الفترة خلال عامي 1929 و1930. وقد أظهر “عبد العزيز” أن آل سعود لن يكونوا مقيدين بـ “التحالف الديناميكي” مع حلفائهم الدينيين إذا تعارضت أجندة المحافظين الدينيين مع مركزية السيطرة.
وبعد مرور 50 عاما، كان الاستيلاء على المسجد الحرام في مكة من قبل مجموعة من المتشددين الدينيين بقيادة “جهيمان العتيبي” يمثل بطرق عديدة استكمالا لثورة “الإخوان” والصراع بين المحافظين والسلطة على سرعة واتجاه التحديث في المملكة.. وكان والد “العتيبي” قد قاتل مع الإخوان عام 1929، وشكل “جهيمان” هويته المحافظة أثناء دراسته في المدينة المنورة في السبعينيات من القرن الماضي، قبل أن يتعرض لنمط الحياة العصرية في الرياض وغيرها من المدن السعودية الكبرى. وبعد السيطرة على المسجد الحرام، أصدر المقاتلون قائمة من المظالم التي شملت إدخال الابتكارات “الغربية” إلى المملكة، بما في ذلك التلفزيون وتعليم المرأة، وشنوا هجوما شخصيا على كبار الأمراء في أسرة آل سعود.
وفي هذه المناسبة، استجاب “آل سعود” للتحدي المباشر للأساس الديني والسياسي لشرعيتهم بشكل مختلف عما فعلوه بعد عام 1930. فبعد إعدام “جهيمان” وأتباعه، شرعت العائلة المالكة في تنفيذ العديد من مطالب المحافظين وأقرت تدابير أعادت تركيز دور الدين في المجتمع السعودي. وشملت التدابير زيادة في تمويل الجامعات الدينية، وتوسيع نطاق اختصاص الشرطة الدينية وحجمها، وتقديم المزيد من الدعم للمنظمات والقضايا الإسلامية مثل الحملة المناهضة للاتحاد السوفيتي في أفغانستان.
بالإضافة إلى ذلك، شكل ظهور إيران الثورية وتراجع أسعار النفط في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي تحديا لقيادة النظام السعودي للعالم الإسلامي وقدرته على توفير الرفاهية الاقتصادية لمواطنيه. وفي مواجهة التهديدات المتعددة لشرعيته السياسية والدينية، استجاب النظام بإبطاء عملية التحرير ومنح مساحة سياسية أكبر للنشاط الإسلامي.
الموازنة الداخلية
بعد عام 1979، أدت التحديات التي طالت شرعية آل سعود، والمخاوف بشأن احتمال حدوث مزيد من الاضطرابات، إلى جو من الحذر المفرط حول صياغة السياسة السعودية. وعكست القرارات التي تم اتخاذها في الفترة اللاحقة الدروس التي استخلصها آل سعود من هذه التجربة، وكذلك من الانقسام المطول داخل الأسرة المالكة بين الملك “سعود” وولي العهد الأمير “فيصل” بين عامي 1958 و1964. وكان من الضروري تقليديا تقييم السياسات لبيان تأثيرها على توازن القوة في المملكة وتقييم كيفية تلقيها من قبل العناصر الرئيسية في المجتمع السعودي.
وتجلى هذا التوازن الدقيق الذي يواجه القادة السعوديين في 7 أغسطس/آب 1990، حين دعا الملك “فهد” لاستضافة القوات العسكرية الأمريكية التي تستعد لطرد الجيش العراقي الغازي من الكويت. وعقب اجتماعه مع وزير الدفاع الأمريكي “ديك تشيني”، اتخذ الملك “فهد” قرارا بدعوة القوات الأجنبية، مع وعد بأن القوات الأمريكية ستغادر المملكة بعد الحرب.
وإدراكا منها للحاجة إلى تعزيز مثل هذا القرار الهام بنشر القوات الأمريكية في الأراضي المقدسة، طلبت الحكومة السعودية من مجلس كبار العلماء إضفاء الشرعية على القرار عبر الفتوى. وفي البداية، رفض المجلس، بقيادة “عبد العزيز بن باز”، الهيئة الدينية العليا في المملكة، دعم موقف الحكومة.
لكن بعد الضغط أصدر المجلس فتوى في 13 أغسطس/آب 1990، أقر فيها المجلس قرار الملك. وبذلك، عزلت الحكومة جزءا كبيرا من المؤسسة السلفية. وانضم بعض أعضائها إلى حركة “الصحوة” التي هدفت إلى تحقيق الإصلاح الديني والسياسي، بينما تحول آخرون إلى منتقدين أكثر راديكالية للسياسة السعودية، مثل “أسامة بن لادن”، الذي عرض استخدام قوته العربية المقاتلة في أفغانستان لصد “صدام حسين”.
ورفضت الحكومة السعودية طلب “بن لادن” في أغسطس/آب 1990. وسواء تم التعبير عنها من خلال “الصحوة” أو “القاعدة”، فإن قرار الاعتماد على الدعم العسكري بقيادة الولايات المتحدة قد أطلق العنان لقوى المعارضة الداخلية عبر المجتمع السعودي خلال الفترة المتبقية من التسعينيات.
خلال ذلك التوقيت، أصبحت النخب الدينية القديمة في المملكة أقل انسجاما مع ظهور جيل جديد من علماء الدين بقيادة “ابن باز”، المفتي العام للمملكة حتى وفاته عام 1999. وكانت الأسرة الدينية الأكثر أهمية في المملكة هم “آل الشيخ”، أحفاد “محمد بن عبد الوهاب”. وكان “آل الشيخ” قد أكدوا من جديد تحالف سلفهم التاريخي مع “محمد بن سعود” عام 1744، من خلال الانضمام إلى “عبد العزيز آل سعود” بعد استعادة الرياض عام 1902.
وأصبح أفراد أسرة “آل الشيخ” العمود الفقري للمؤسسة الدينية والعلماء و”المطوعين”، أو الشرطة الدينية، حتى وفاة “محمد بن إبراهيم آل الشيخ”، المرجع العلمي الأعلى في المملكة، عام 1969. وبعد ذلك، أعاد الملك “فيصل” تنظيم المؤسسة الدينية، مما أدى إلى تآكل نفوذ “آل الشيخ”. وقد تراجع هذا الاتجاه فقط بعد تعيين “عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ” مفتيا للمملكة عام 1999.
صعود “الصحوة”
كان ظهور حركة الصحوة في أواخر الثمانينيات والتسعينيات علامة على تزايد النشاط الديني في المملكة. واعتمد رجال الدين مثل “سلمان العودة” و”سفر الحوالي” على قرار الملك “فهد” الذي لا يحظى بشعبية كبيرة باستضافة القوات الأمريكية في المملكة لاتهام النظام بالنفاق. وفي عام 1994، تم سجن “العودة” وأكثر من 100 من نشطاء الصحوة وسط حملة قمع للنظام. وبعد إطلاق سراحه من السجن، أعاد “العودة” وشخصيات دينية أخرى تقديم أنفسهم كمفكرين إسلاميين. وقد بنى “العودة” جمهورا كبيرا، مبدئيا عبر توزيع ما يصل إلى 200 ألف تسجيل “كاسيت” لخطبه ومحاضراته.
وطرح صعود وسائل التواصل الاجتماعي معضلات جديدة مهمة للقيادة السعودية. ومع وجود الملايين من المتابعين على “تويتر”، كان لدى “العودة” جمهورا عريضا يمكنه التواصل معه مباشرة، متجاوزا محاولات السيطرة أو الرقابة. واستفاد العودة من هذا الفتح الجديد، عندما أصدر خطابا مفتوحا للملك “عبد الله” في مارس/آذار 2013 انتقد فيه رد فعل النظام على ثورات الربيع العربي، وحذر الحكومة من أنها قد تواجه “شرارة العنف” إذا لم تعالج بواعث القلق بشأن المعتقلين السياسيين، وسوء الخدمات العامة، والفساد الحكومي المتصور.
وبعد عام 2015، كان “محمد بن سلمان” أقل ميلا لفتح أي مساحة للجماعات أو الأفراد التي قد تشكل تهديدا سياسيا في المجتمع السعودي أثناء توحيده للسلطة، ما دفعه لاعتقال “العودة” وآخرين من قدامي كوادر الصحوة مجددا.
محمد بن سلمان وعام 1979
ومنذ عينه والده، الملك “سلمان”، وزيرا للدفاع في يناير/كانون الثاني 2015، اكتسب “بن سلمان” السلطة إلى درجة لم يسبق لها مثيل في التاريخ السعودي الحديث، أولا كولي لولي العهد، منذ أبريل/نيسان 2015، ولاحقا كولي للعهد منذ يونيو/حزيران 2017. واستفاد “بن سلمان” من دعم والده ورحيل الحرس القديم من كبار الشخصيات في “آل سعود” لتعزيز سيطرته على سياسة الدفاع والاقتصاد والنفط، عبر إنشاء رئاسة لأمن الدولة ولجنة للشؤون الاقتصادية والتنمية، وإعادة هيكلة الترتيبات الحاكمة لـ “أرامكو” السعودية.
ورأى العديد من المراقبين تركيز السلطة هذا باعتباره تحولا حاسما بعيدا عن نظام الضوابط والتوازنات غير الرسمي الذي منع في السابق أي زعيم من ممارسة سيطرة استبدادية حقيقية. فبعد وفاة الجيل الأكبر سنا، كانت هناك قيود أقل بكثير على ولي العهد، البالغ من العمر 34 عاما، وهو يرسم طريقه نحو السلطة.
وفي مقابلة مع برنامج” 60 دقيقة”، في مارس/آذار 2018، أوضح “بن سلمان” للصحفية “نورا أودونيل” أن السعوديين، قبل عام 1979، كانوا يعيشون حياة طبيعية جدا مثل بقية دول الخليج. وكانت النساء يقدن السيارات. وكانت هناك دور للسينما مفتوحة في المملكة. وعملت النساء في كل مكان.
وكان جزء من التهديد الذي مثله النقاد السعوديون الأكبر سنا، مثل “جمال خاشقجي”، لـ “بن سلمان” وروايته عن إعادة السعودية إلى شكل “معتدل” من الإسلام، هو أنهم كانوا قادرين على تقديم روايتهم الخاصة حول أجواء المملكة في الستينيات والسبعينيات.
وكما أشار “خاشقجي” في مارس/آذار 2018، في “مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط” في واشنطن، كان الإسلام السعودي بعيدا عن “الاعتدال” قبل عام 1979. وفي الواقع، في أوائل الستينيات، كان الأمير “فيصل” هو من أرسل الجيش لتفريق رجال دين يعارضون مدارس تعليم البنات.
وفي وقت لاحق، أذن “فيصل” للشرطة بفتح النار على المتظاهرين الدينيين احتجاجا على إدخال التلفزيون للمملكة. وقد أثبت الحادث الأخير أنه كان مصيريا لـ “فيصل”، حيث كان أحد القتلى في الاحتجاجات ضد التلفزيون أحد الشباب من العائلة المالكة، وهو “خالد بن مساعد آل سعود”. وبعد 9 أعوام، اغتال شقيق “خالد الأصغر”، “فيصل بن مساعد”، عمه، الملك “فيصل”، انتقاما لمقتل شقيقه.
واستجابت العائلة المالكة لصدمات أواخر سبعينيات القرن الماضي بالمزيد من الاتجاه نحو المحافظة. وفي عهد الملك “فهد”، منح الحكام أنفسهم لقب “خادم الحرمين الشريفين”. وسهل “فهد” أيضا تدفق الأفراد السعوديين إلى أفغانستان، مثل “أسامة بن لادن”، الذي سعى إلى الحصول على منصة للتعبير العسكري عن المعتقدات الدينية. لكن سجن زعماء الصحوة في التسعينيات أظهر أن “آل سعود” حافظوا على اليد العليا دائما في العلاقة السياسية مع الزعماء الدينيين، وأنهم كانوا عازمين على كبح جماح رجال الدين عند الحاجة.
هل هو مصلح ديني؟
ووعد “محمد بن سلمان” بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والديني. وفي المجال الاقتصادي، قام في الواقع بتنفيذ سياسات تمثل تراجعا عن أجزاء من الاتفاق الاجتماعي الضمني الذي تعهدت الحكومة بموجبه بتمويل حياة مرفهة لمواطنيها مقابل الولاء السياسي. وخفض “بن سلمان” الدعم على المياه والنفط، وفرض ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5%. ولم تكن هذه السياسات شائعة، لكنها تشير إلى التزامه بتخفيف العبء العام على الدولة السعودية وتنويع الاقتصاد في نهاية المطاف.
وتم تأخير مبادرات أخرى رفيعة المستوى، مثل الاكتتاب العام الأولي في أرامكو، ولكنه قد يمضي قدما في النهاية. وفيما يتعلق بالإصلاح الاجتماعي، سمح “بن سلمان” بفتح دور السينما، وسمح للمرأة بالقيادة ومغادرة المملكة دون إذن ولي الأمر. ومع ذلك، تحتفظ الحكومة بموقف غامض إلى حد ما بشأن المزيد من الإصلاحات.
ففي مايو/أيار 2019، تم افتتاح نادٍ ليلي في جدة، ولكن سرعان ما تم إغلاقه، بينما أقر مجلس الشورى قانونا لدعم الآداب العامة. ويبدو أن “بن سلمان” يجد صعوبة في الموازنة بين مطالب بعض المواطنين بالتغيير الاجتماعي ومخاوف الآخرين من أن تفقد المملكة هويتها. ولكن على الرغم من تباين النطاق والنتائج، فقد غيّر “بن سلمان” بالتأكيد أسس الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المملكة.
ومع ذلك، ففي المجال الديني، لم تعقب نية “محمد بن سلمان” المعلنة في الإصلاح تغييرات مهمة في السياسة. وقد صورت شخصيات إعلامية أمريكية بارزة “بن سلمان” على أنه أول سعودي من الأسرة المالكة يقف في وجه المؤسسة الدينية ويتحدى الشراكة الطويلة بين آل سعود ورجال الدين الوهابيين، مشيرين إلى موجة من اعتقالات رجال الدين البارزين في سبتمبر/أيلول 2017 وما بعده.
ومع ذلك، تجاهلت الحكومة السعودية إلى حد كبير رجال الدين الذين يمثلون جوهر المؤسسة الدينية، ولاحقت بدلا منهم الأفراد الذين لديهم تاريخ من نقد السياسات الحكومية، مثل “سلمان العودة” وشخصيات أخرى من حركة الصحوة.
وفي دليل على أن “بن سلمان” لا يتحدى المؤسسة الدينية السعودية، فقد تحالف مع أبرز مؤسساتها، وهو مجلس كبار العلماء. ويرأس المجلس “عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ”، وهو عضو في أسرة رجال الدين المؤثرة المنحدرة من نسل “محمد بن عبد الوهاب”. وأحد الأعضاء الكبار في المجلس هو الشيخ “صالح بن محمد اللحيدان”، الذي أكد في عام 2008 أنه يمكن إعدام مالكي المحطات التلفزيونية الفضائية بسبب إسهامهم في نشر الانحراف الأخلاقي.
وقد يفترض مراقب خارجي أن المصلح الديني من المفترض أن يدفع أعضاء المجلس لاعتماد موقف أكثر تقدما، ولكن لم يتم محاسبة أي عضو في مجلس كبار العلماء، ولم يتم مطالبتهم بالتراجع عن فتاواهم المثيرة للجدل.
وبدلا من ذلك، التزم المجلس بإصدار أحكام دينية تدعم قرارات “بن سلمان” السياسية؛ حيث تم إصدار فتوى ضد قطر في أعقاب المقاطعة التي تقودها السعودية، وكذلك ضد كندا بعد أن منحت الحكومة الكندية الجنسية لعائلة المدون السعودي المعارض “رائف بدوي”.
وقد أثبتت المؤسسة الدينية باستمرار أنها مستعدة لتقديم التبريرات الدينية للقرارات التي يتخذها “آل سعود”، حتى لو دفعها ذلك لمخالفة مواقفها القديمة. وفي المقابل، امتنع “بن سلمان” عن تقييد حتى الأعضاء الأكثر إثارة للجدل في مجلس كبار العلماء، مما عزز الشراكة طويلة الأمد بين المؤسسة الدينية والأسرة المالكة، مع هيمنة واضحة للأسرة المالكة بالطبع.
واستفاد “بن سلمان” من نقص المعرفة في وسائل الإعلام الغربية حول آراء رجال الدين السعوديين ذوي النفوذ. ويواجه أولئك الذين يستخدمون مناصبهم في تعزيز السلطة الدينية لدعم “آل سعود” القليل من الحواجز أمام جهودهم لتعزيز نسختهم من الإسلام المحافظ، في حين أن أولئك الذين يسعون إلى مزيد من حرية التعبير أو التمثيل السياسي قد يجدون أنفسهم هدفا لقمع الدولة.
رمزية وليست جوهرية
وقد ينظر المعلقون الأمريكيون إلى قرار “بن سلمان” بالسماح للنساء بقيادة السيارات والتقدم بطلب للحصول على وثائق حكومية، مثل جوازات السفر، دون إذن الولي الذكر كدليل على أنه بصدد إصلاح الإسلام السعودي. ومع ذلك، تتفق هذه السياسة مع الإجراءات الأخرى التي قام بها، التي تميل إلى التركيز على التغييرات الرمزية بدلا من التغييرات الجوهرية.
ويرغب “بن سلمان” في جذب الاستثمارات الدولية، لكنه يحتاج إلى تغيير صورة المملكة، خاصة بعد قتل “جمال خاشقجي” داخل القنصلية السعودية في اسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018. وبالتالي، فهو مهتم بتحسين سمعة المملكة الدولية دون تغيير جذري في الهياكل التي تحافظ على السيطرة لآل سعود.
وقد أظهر “بن سلمان” ذلك من خلال اعتقال العديد من الناشطات اللاتي ارتفعت أصواتهن مرارا من أجل الحق في القيادة. وعلى الرغم من أنه قام بتنفيذ مطالبهن، إلا أن بعضهن لا يزلن مسجونات، كدليل على أن المظاهرات العامة ستقابل بالانتقام دائما أيا كانت أهدافها، وحتى لو كان الموقف الرسمي للدولة متوافقا مع موقف المتظاهرين.
وتعد المساواة بين الجنسين أحد المجالات التي تسوء فيها سمعة المملكة بشكل خاص. ورغم أن الدولة جردت جوانب نظام الوصاية تدريجيا من قوته، حيث كان يفرض سابقا قيودا قانونية على حقوق المرأة أكثر من أي حكومة أخرى في العالم، من خلال تدابير لا تسمح للمرأة السعودية بالحصول على جوازات سفر أو السفر إلى الخارج دون إذن أحد أقربائها الذكور، فضلا عن حاجتها لأخذ الإذن في الأمور الحياتية البسيطة مثل تسجيل المواليد، والزيجات، والطلاق، والوصاية على الأطفال القصّر. فإنه لا تزال هناك جوانب أخرى من نظام الوصاية سارية، ولم يتم تنفيذ بعض التغييرات التي تم إقرارها حتى الآن، مع وجود نساء يشتكين على “تويتر” من عدم قدرتهن على طلب جوازات السفر عبر بوابة الحكومة الإلكترونية.
ويمثل حبس الأفراد الأثرياء في فندق “ريتز كارلتون”، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، سياسة مماثلة حازت على اهتمام وسائل الإعلام على نطاق واسع دون إحداث تغييرات جوهرية. ومن خلال استهداف المواطنين رفيعي المستوى، وحتى أفراد عائلته، خفف “بن سلمان” من مشاعر المواطنين السعوديين الذين أصابهم الإحباط لأن الطبقة العليا في المجتمع السعودي استفادت من عقود من الفساد والمحسوبية.
وكان الغرض من قضية فندق “ريتز كارلتون” هو جذب الشباب السعودي الذين يرون أن “بن سلمان” يستجيب لرغبات زملائه في جيل الألفية، ولكنها عملت أيضا على تعزيز سلطة ولي العهد.
ويشكل تقليص قبضة “الشرطة الدينية” أيضا تغييرا سطحيا إلى حد كبير. فبينما لم يعد يُسمح للشرطة الدينية أو “المطوعين” بالتجول في الشوارع ومراكز التسوق لمعاقبة من يرونه ينتهك الشريعة الإسلامية، فقد تم الآن نقل هذه الصلاحيات إلى الشرطة العادية. وفي تقييده سلطة المؤسسة الدينية، وطد “بن سلمان” سلطة الدولة المركزية، وتحديدا فقد عزز سيطرته على تلك السلطة.
وتُظهر ثلاث من القمم العربية والإسلامية التي تم عقدها في مكة، في أواخر مايو/أيار 2019، أنه على الرغم من الإصلاحات الاجتماعية، يشعر آل سعود بأن بإمكانهم الاستمرار في الاستفادة من القوة الدينية الناعمة لتعزيز دورهم كقادة سياسيين. ويبقى أن نرى ما إذا كان حلفاؤهم من المسلمين سيواصلون اتباع خطا المملكة.
ملاحظات ختامية
يتماشى استخدام الدين كأداة للسيطرة السياسية مع الممارسات السابقة في المملكة العربية السعودية. ولا يبدو أن “بن سلمان” على وشك العبث بمقاربة شكلت أساسا رئيسيً للاستقرار المحلي والنفوذ الإقليمي لعقود. ونظرا لتوسع “بن سلمان” لسلطاته وتركيزها، فقد أبدى استعداده لتولي أمر المنافسين المحليين باستخدام القوة القسرية بشكل أكثر جرأة من القادة السعوديين السابقين.
وتوضح التقارير التي تفيد بأن المدعي العام يسعى لعقوبة الإعدام في محاكمة “سلمان العودة” و”عوض القرني”، وهما قائدان سابقان في حركة “الصحوة”، جنبا إلى جنب مع المقدم التلفزيوني “علي العمري”، هذا التغيير.
ويواجه “العودة” محاكمة بسبب انتقاداته العلنية للنظام السعودي. ولا يعد إسكات رجال الدين قمعا دينيا بقدر ما يعد جزءا من سياسة القمع الأوسع نطاقا للأصوات الناقدة، والذي أودى بحياة “جمال خاشقجي” في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وإذا احتفظ بمنصبه، فقد يتطور “بن سلمان” إلى مصلح ديني. ومع ذلك، يظهر سلوكه حتى الآن أنه مدفوع بشكل أساسي باعتبارات توحيد وتركيز السلطة، وما لم يقم “بن سلمان” بأي تحرك جوهري عكس ذلك، فسوف يظل أوتوقراطيا سياسيا وليس مصلحا دينيا.