تظل قضية الاعتقال التعسفي في السعودية أحد أبرز القضايا الحقوقية، إن لم تكن أبرزها على الإطلاق. حيث تندرج تحت جريمة الاعتقال التعسفي عدة انتهاكات واعتداءات في آن واحد. فمن مصادرة حرية الإنسان الشخصية وخصوصيته، إلى المحاكمات السرية وجلسات التحقيق اللا نهائية، وصولاً إلى التعذيب الجسدي والنفسي، ولا تنتهي بمعاناة الأهالي وذويهم وحرمانهم من آبائهم وأمهاتهم وأولادهم أو منعهم من السفر.
ولكن الجانب المظلم في قضية المعتقلين والأمر الغائب عن كثير من الناس، أن كل تلك المعاناة لا تنتهي بمجرد خروج المعتقل من سجنه. فكل ما حُرِموه في السجن ما زال محرماً عليهم بطريقة أو بأخرى. وبعبارة أوضح، فالمعتقلون السياسيون يخرجون من الزنزانة السعودية الصغيرة إلى حيث السجن السعودي الكبير! وبدلاً من انتهاء مسلسل كتم الأصوات والمنع من السفر وجلسات المحاكمات السرية، إذا بمعتقلينا يخوضون تجربة من أمام القضبان ليست بالبعيدة من التي كانت خلفها.
فهل أصبح استمرار التعدي على حقوق المعتقلين داخل السجن أمراً طبيعيا مما أدى إلى استمرار تلك الانتهاكات بحق المفرج عنهم؟ وهل ستكون تلك القيود والممارسات غير القانونية بحق المعتقلين السابقين وأهاليهم ورقة تهديد للناشطين منهم وإجبارهم على السكوت أو تجريدهم من لعب أي دور حقيقي داخل المجتمع؟ ومن سيقوم بتعويض المعتقلين عن سنين غالية ذهبت من أعمارهم خلف القضبان بسبب كلمة حق أو تعبير عن رأي حر، أو حتى سكوت عن دعم الظلم والتستر عليه؟
يأتي هذا التقرير كمدخل لسلسلة من التقارير الحقوقية، والتي سوف نسلط الضوء على القضية المنسية للمفرج عنهم بشكل تفصيلي، كما سوف نناقش أبرز الانتهاكات والاعتداءات التي يتعرضون لها وتستمر مع بعضهم حتى كتابة هذه الأسطر. وفي التقارير التالية سوف نتتبع عدد من القضايا الحقوقية المرتبطة بالمفرج عنهم، ومنها: قضية المنع من السفر، انتهاك خصوصية المفرج عنهم بتقنيات التتبع والمراقبة، أزمة استمرار المحاكمات العبثية أو إعادة الاعتقال، انتهاك حق حرية التعبير والإقامات الجبرية
أصبح من المسلّمات في كل محاكمات المعتقلين تقريبا أن يتم الحكم عليهم بالمنع من السفر بعد إطلاق سراحهم أو الحكم ببراءتهم، ناهيك عن المنع التعسفي من السفر الصادر من وزارة الداخلية دون حكم قضائي ولو كان سياسيا. حيث يعاني كل المعتقلين صدور أحكام منع من السفر بعد انتهاء محكومياتهم قد تصل مدتها إلى عشرين سنة كما في حالة المعتقل عبد الرحمن السدحان. وفي فبراير 2021، أُفرج عن الناشطة لجين الهذلول إفراجاً مشروطاً، حيث مُنعت من السفر لمدة خمس سنوات.
ولا يمكن استبعاد زيادتها حيث إن الناشطة ما زالت تخضع لمحاكمات مستمرة. إن عقوبة منع السفر من قبل النظام السعودي هي بمثابة انتهاك لحقوق الإنسان والعهود الدولية للحقوق المدنية والسياسية. بالإضافة لذلك، فمن الواضح أن النظام السعودي يستخدم عقوبة المنع من السفر من دون أساس قانوني وذلك لأهداف انتقامية أو للضغط على الأفراد لوقف نشاطهم أو تهديدهم. علاوة على ذلك، فإن القانون السعودي لا يسمح للحكومة بفرض منع السفر الا في حالات معينة؛ فهو ينص أولاً على ظروف استثنائية محددة يمكن للقضاء فيها أن يفرض منع السفر مثل حالات ترويج المخدرات أو الحالات الجنائية المهددة للمجتمع، وليس فيما يتعلق بحرية التعبير والأفكار والمعتقدات.
إضافة إلى المنع التعسفي من السفر، يعاني المفرج عنهم من المعتقلين انتهاكات أخرى مثل المنع من الكتابة والتعبير، فيتم إجبار المعتقلين على إغلاق حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي كما تم مع حساب الاقتصادي المعتقل عصام الزامل، أو الشيخ عبد العزيز الطريفي. في وقت تتمثل قوة الصحفيين وكتّاب الرأي والمشايخ في أقلامهم وكلماتهم – وهي على الأرجح السبب في اعتقالهم في المقام الأول – فإنه يتم تجريدهم من وظائفهم المجتمعية الحقيقية بعد الإفراج عنهم بهدف سلبهم لقوتهم الفاعلة في المجتمع. وأخيرا وليس آخرا، تستمر معاناة المفرج عنهم من السجون السعودية من خلال استمرار المحاكمات السرية العبثية وجلسات التحقيق المذلة.
حيث لا تنتهي معاناتهم حتى بعد الخروج من السجن. بل يصحب ذلك تهديدات بإعادة الاعتقال في أي لحظة كما حدث من الشيخ إبراهيم السكران في 2020 والكاتب السعودي زهير كتبي الذين أعيد اعتقالهم لأسباب غير معروفة. كما أن قائمة الانتهاكات بحق المفرج عنهم تضم عناصر أخرى مثل أساور التتبع والمراقبة المستمرة حتى في الأحوال الشخصية الخاصة.
ختاماً من بين عشرات المشكلات الحقوقية في السعودية، تظل قضية المعتقلين الحاليين أو السابقين أحد أهم القضايا التي تورق المجتمع وتحول دون بناء الثقة بين الشعب وقيادته الجديدة. حيث يحاول ولي العهد بشتى الطرق السلمية وغير السلمية، والقوى الناعمة والصلبة من كسب ثقة ومحبة الشعب، في مقابل محاولته تشويه صورة العهود السعودية السابقة.
كما أن محاولاته الحثيثة من أن يكون الرمز الجديد لا تفتأ تخيب أمل الناس بسبب مصيبة أو حماقة يقوم بها هنا أو هناك. إن المعالجة السريعة وحل أزمة الاعتقال التعسفي وما يتعلق بها في السعودية هو الحل الأسرع والأسهل والأوفر لترميم علاقة القيادة السعودية بشعبها الوفيّ في الدرجة الأولى، كما أنه يغني عن السباق السياسي والاقتصادي والرياضي واللهاث خلف دول العالم والمنطقة طالباً تحسين صورة البلد المحطمة على صخرة حقوق الإنسان.
كالعيسِ في البيداءِ يقتلها الظما ** والماءُ فوق ظهورها محمولُ.