في خضم الحملة الانتخابية الأمريكية عام 2019، أوضح المرشح الرئاسي “جو بايدن” أنه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية مبدئيا، فإنه ينوي أن تكون على خلاف سياسة “ترامب” قولا وفعلا. وأعلنت الحملة أنه لا مزيد من “تدليل الديكتاتوريين على حساب الأمن القومي الأمريكي ومصالحهم. لقد كانت هذه واحدة من أخطر طرق (ترامب) لتقليل دورنا على المسرح العالمي وتقويض قيمنا كأمة”.
وسرعان ما تحولت الأنظار نحو حلفاء أمريكا الضالين في الشرق الأوسط. وغرد “بايدن” بأن “الديكتاتور المفضل” لمصر و”ترامب”، الرئيس “عبدالفتاح السيسي”، عليه أن يتوقع أنه “لا مزيد من الشيكات على بياض” له في البيت الأبيض.
لكن السعودية وولي عهدها “محمد بن سلمان” تعرضوا للإهانة بشكل خاص، إلى حد كبير بسبب الحرب المدمرة التي قادتها السعودية في اليمن ودور “بن سلمان” في مقتل الصحفي السعودي المعارض “جمال خاشقجي”. وقال متحدث باسم الحملة في ديسمبر/كانون الأول 2019 إنه إذا تم انتخابه، فسيقوم “بايدن” “بإعادة تقييم علاقة الولايات المتحدة مع المملكة العربية السعودية للتأكد من أنها تتماشى تماما مع القيم والأولويات الأمريكية”. وقال المرشح نفسه: “أود أن أوضح أننا لن نبيع في الواقع المزيد من الأسلحة إلى المملكة؛ بل سنقوم في الواقع بجعلهم منبوذين”.
وفي مارس/آذار، تصادمت وعود “بايدن” الانتخابية وجها لوجه مع واقع السياسة الخارجية، وانتصر الواقع. وفي مواجهة قرار معاقبة “بن سلمان” بعد الإفراج عن تقرير استخباراتي أمريكي يلقي باللوم على ولي العهد في الإذن بقتل “خاشقجي”، اعترض “بايدن”. وبدلا من ذلك، فرضت وزارة الخارجية قيودا على التأشيرات لنحو 76 شخصا متورطين في المؤامرة، وأنشأت “حظر خاشقجي” الجديد، والذي بموجبه ترفض وزارة الخارجية منح التأشيرات للأفراد المتورطين في مضايقات خطيرة للمعارضين والصحفيين في الخارج نيابة عن أي حكومة أجنبية.
وسواء أكان ذلك منصفا أم لا، فقد تعرض “بايدن” للهجوم لفشله في تحميل السعوديين المسؤولية الكاملة عن طريق ترك ولي العهد يفلت بجريمته. وبدأت منظمات حقوق الإنسان تتساءل بصوت عالٍ عما إذا كان “بايدن” حليفا حقيقيا لها بعد كل شيء. ولم يكن السعوديون أنفسهم سعداء بإصدار التقرير الاستخباراتي المذكور أعلاه، الذي رفضوه بشكل قاطع. لكن أحد الشخصيات البارزة التي اعتقدت أن الإدارة تعاملت مع القرار بشكل صحيح هو الرئيس السابق “ترامب”، الذي أخبر “فوكس نيوز” أن “بايدن” كان “يرى التقرير ربما بطريقة مماثلة لي، إنه أمر مثير جدا في الواقع”.
وفي حين أنه قد يبدو أن العلاقات السعودية الأمريكية قد وصلت إلى نقطة توتر جديدة بسبب تردد “بايدن” وأعمال “بن سلمان” العدوانية، إلا أن الحقيقة هي أن العلاقات الثنائية كانت تحت الضغط لفترة طويلة. ويسلط هذا الإخفاق الأخير الضوء ببساطة على التحديات الكامنة في إدارة علاقة تعتمد كثيرا على المعاملات مع القليل من القيم والمبادئ المشتركة. فالشخصية الشريرة المتآمرة لـ”محمد بن سلمان” تلقي بظلالها على سمعة الولايات المتحدة. فهل تستطيع الإدارة إعادة بناء مصداقيتها في السياسة السعودية؟ وكيف يمكن للعلاقات الثنائية المضي قدما؟
العلاقة المعقدة اليوم بين الولايات المتحدة والسعودية
ولم تُخفِ إدارة “بايدن” نيتها “إعادة التوازن” في المشاركة الدبلوماسية والعسكرية للولايات المتحدة، وتخفيف التركيز على الشرق الأوسط والتركيز أكثر على منطقة المحيطين الهندي والهادئ. لكن هذا ليس شيئا جديدا؛ فقد بادرت إدارة “أوباما” إلى “التحول إلى آسيا”، والذي كان ملحوظا أنه لم يفعل شيئا يذكر لإعادة توجيه السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشكل أساسي، مع إحداث أقصى قدر من الخوف بين الشركاء الأمريكيين في منطقة الخليج.
واتخذت دول الخليج، وخاصة السعودية، تصميم “بايدن” الواضح على اتباع سياسة مماثلة كدليل آخر على نية واشنطن طويلة المدى لتقليص التزامها الأمني تجاه المنطقة، ما قد يعرض دول الخليج للعدوان الإيراني.
لكن “باراك أوباما” و”جو بايدن” ليسا الوحيدين المسؤولين عن القلق في الخليج. وكان للرئيس “جورج دبليو بوش” علاقات شخصية وسياسية وثيقة مع حكام السعودية، بالرغم من أن تفانيه في “أجندة الحرية” أثار قلق السعوديين، الذين اعتقدوا أنها تشكل تهديدا لأسلوب حياتهم وحكم العائلة المالكة.
وكان للرئيس السابق “ترامب” نصيبه من الإسهام في الانطباع بتقلب السياسة الأمريكية من خلال قراراته السياسية المتسرعة التي تأتي دون تشاور كبير، لا سيما فيما يتعلق بسحب القوات من سوريا وأفغانستان والعراق، وتقلباته الجامحة في سياسة إيران، من حث طهران على “عقد اتفاق أكبر” قبل الانتخابات الرئاسية 2020 إلى التفكير في توجيه ضربة إلى إيران قبل أن يترك منصبه، مرورا بجولات “أقصى ضغط” على النظام في طهران.
وكان مسعى “بايدن” لإعادة الدخول في الاتفاق النووي الإيراني، الذي عارضته السعودية ودول خليجية أخرى، تطورا مثيرا للقلق أضاف إلى الإحساس بأن الولايات المتحدة لم تعد تدعمها.
ومن المفهوم إذن أن السعودية قد بدأت في تعزيز أوراقها السياسية من خلال إنهاء الخلافات القديمة، واستكشاف التقارب مع الأعداء المؤكدين، والتحوط في رهاناتها من خلال توسيع العلاقات مع خصمي الولايات المتحدة الصين وروسيا، في حال اتجه مسار العلاقات مع واشنطن نحو الأسوأ.
وفي الأشهر القليلة الماضية فقط، قام السعوديون بشيء من النشاط الدبلوماسي المحموم، حيث وسعوا الاتصالات مع عدد من الدول الإقليمية، وتواصلوا مع تركيا، وأنهوا المواجهة التي دامت ما يقرب من 4 أعوام مع قطر، والأكثر إثارة للدهشة، دخلوا في محادثات مباشرة مع المسؤولين الإيرانيين في بغداد في محاولة لتحسين العلاقات.
وإذا كانت إدارة “بايدن” قد تفاجأت بهذه الموجة من النشاط الدبلوماسي السعودي، فقد كانت تأمل في أن تؤدي مثل هذه الإجراءات إلى تخفيف حدة النزاعات الإقليمية المتصاعدة وتمهيد الطريق لوجود عسكري أمريكي مخفض في المنطقة، وتحرير الموارد التي يمكن تركيزها بشكل أفضل في أماكن أخرى.
وفي الواقع، فإن حجر الزاوية المفاهيمي لسياسة “بايدن” في الشرق الأوسط هو الحوار الإقليمي “لتقليل التوترات، وخلق مسارات لخفض التصعيد، وإدارة انعدام الثقة”، كما قال مستشار الأمن القومي الحالي “جيك سوليفان” ونائب مساعد وزير الخارجية لشؤون شبه الجزيرة العربية “دانييل بينيم” في مقال لهما العام الماضي عندما كانوا من العاملين في حملة “بايدن”.
ومن المفارقات، أن ميول “بايدن” السياسية، التي تنذر بالخطر الشديد للسعوديين، تشجع النوع ذاته من التقارب الدبلوماسي. وقال وزير الخارجية “أنتوني بلينكين” لصحيفة “فايننشال تايمز”، في مايو/أيار: “إذا كانوا يتحدثون، أعتقد أن هذا أمر جيد بشكل عام. من الجيد والإيجابي محاولة إزالة التوترات، ومحاولة معرفة ما إذا كان هناك تسوية مؤقتة. وإذا كانت البلدان تتحدث سويا مباشرة دون أن نكون في المنتصف، فربما يكون ذلك أفضل”.
واشنطن توجهت بالفعل في اتجاه جديد
وبالرغم من كل ردود الفعل السلبية التي تعرضت لها الإدارة بسبب تساهلها الملحوظ تجاه “محمد بن سلمان”، فقد اتخذت بالفعل عددا من الخطوات لإحداث “إعادة تقويم” للعلاقات كما وعد فريق “بايدن”.
وتوقفت الإدارة عن إضفاء الطابع الشخصي على العلاقة بالطريقة التي تعامل بها “ترامب” ومستشاره وصهره “جاريد كوشنر” فرديا مع “بن سلمان”. ويعمل “بايدن” على تحويل الاتصالات الثنائية إلى القنوات التقليدية. وهو لا يتعامل مباشرة مع ولي العهد، وبدلا من ذلك يختار التحدث مع والده الملك “سلمان” عند الضرورة.
بالإضافة إلى ذلك، تصر الإدارة على المساءلة في قضية “خاشقجي” بطرق أخرى؛ فقد طالبت علنا بحل ما يسمى بقوة التدخل السريع، وهو الفريق الأمني الذي يقدم تقاريره مباشرة إلى ولي العهد ويُعتقد أنه مسؤول عن قتل “خاشقجي” وترهيب المعارضين الآخرين في الخارج.
وفرضت الإدارة كذلك عقوبات على القوة من قبل وزارة الخزانة بموجب قانون “ماغنيتسكي” العالمي، كما فعلت مع “أحمد حسن محمد العسيري”، نائب رئيس المخابرات العامة السابق في السعودية، وهو استخدام نادر للقانون ضد المسؤولين أو الكيانات التابعة لحكومة حليفة.
والأهم من ذلك، أوفى “بايدن” بتعهده بإنهاء الدعم الأمريكي للحرب السعودية في اليمن، وأعلن في فبراير/شباط أن إدارته لن تقدم الدعم للعمليات الهجومية في صراع تحول إلى “كارثة إنسانية واستراتيجية”. وصادقت الإدارة الأمريكية على تعليق مؤقت على مبيعات الأسلحة المتطورة إلى المملكة وحليفتها الرئيسية في الحرب على اليمن، الإمارات، بينما راجعت الصفقات للتأكد من أنها “شيء من شأنه أن يعزز أهداف الولايات المتحدة الاستراتيجية”.
وخشية أن يأخذ أي شخص هذا الأمر على أنه انعكاس كامل للسياسة، سارعت الإدارة إلى إضافة أن أشكال أخرى من الدعم للجيش السعودي ستستمر، مثل مبيعات الأسلحة التي تعتبر حيوية للدفاع عن المملكة ضد الهجمات الصاروخية الحوثية من اليمن، بالإضافة إلى العديد من أنواع الذخائر والأسلحة الصغيرة والمعدات الإلكترونية. وسوف تستمر الولايات المتحدة في دعم العمليات في اليمن التي تستهدف القاعدة في شبه الجزيرة العربية.
الخطوات التالية
وبينما اتخذت إدارة “بايدن” بعض الخطوات المهمة لمعالجة أوجه القصور في السياسة الأمريكية تجاه السعودية، فإنها بحاجة إلى المضي قدما إذا كانت جادة بشأن التغيير.
أولا، يجب على الإدارة استكمال مراجعة شاملة للعلاقة الأمريكية السعودية، بما في ذلك الغرض من مبيعات الأسلحة ونطاقها، لضمان استمرار العلاقة في خدمة المصالح الأمريكية وتوافقها مع القيم الأمريكية.
ويكمن الخطر في أن الإدارة ستنتكس بمجرد شرود الاهتمام العام وتصبح راحة القيام بالأعمال كالمعتاد أكثر إغراء. وقد يكون هذا خطأ؛ فلا يساعد نمط الدعم غير المقيد للسعودية في إدامة انتهاكات حقوق الإنسان والفساد فحسب، بل يشجع المغامرات الخارجية غير المحسوبة من النوع الذي نشهده في اليمن، والذي من الواضح أنه ليس في مصلحة الولايات المتحدة.
ويشكل استمرار العلاقة العسكرية غير الخاضعة للرقابة، ولا سيما الاعتماد المفرط على مبيعات الأسلحة، تهديدا للاستقرار ذاته الذي تهدف هذه السياسة ظاهريا إلى الحفاظ عليه.
وفي هذا الصدد، يحتاج فريق “بايدن” إلى تحديد كيفية عمله مع الكونجرس، حيث يوجد زخم كبير من الحزبين لمحاسبة السعودية. وفي أبريل/نيسان، أقر مجلس النواب قانون حماية المعارضين السعوديين لعام 2021، الذي سيعلق مؤقتا مبيعات الأسلحة إلى المملكة ويفوض بمراجعة المكاتب السعودية في الولايات المتحدة لضمان عدم مضايقة المعارضين، بأغلبية 350 إلى 71. وينتظر مشروع القانون الآن إجراء من مجلس الشيوخ. وإذا وصل إلى مكتب “بايدن”، فسيواجه اختبارا ثانيا رئيسيا لقيادته بشأن السياسة السعودية. وفي غضون ذلك، يحتاج من الكونجرس أن يكون حليفا لزيادة نفوذه على المملكة.
ثانيا، يهدد استمرار “الهراء” الأمريكي بشأن سجل حقوق الإنسان سيئ السمعة للسعودية بتقويض سياسة الإدارة تجاه المملكة وكذلك نهجها تجاه حقوق الإنسان بشكل عام. وفي حين أن تفكيك الاستبداد السعودي الراسخ ليس هدفا واقعيا في المستقبل المنظور، فقد تكون الإدارة قادرة على إحراز بعض التقدم في بعض قضايا حقوق الإنسان البارزة، مثل مصير السجناء السياسيين.
ورحب “بايدن” ومسؤولون أمريكيون آخرون بالإفراج عن “لجين الهذلول”، الناشطة السعودية في مجال حقوق المرأة، في فبراير/شباط، وهو ما قد يفسر على أنه لفتة سعودية من حسن النية تجاه “بايدن”. ويجب على الإدارة أن تصر على أن تتراجع المملكة عن حملة الاعتقالات والسجن للمدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين وغيرهم من النشطاء، والتي تسارعت منذ عام 2019. وتحتاج واشنطن إلى انتزاع تنازلات ذات مغزى في هذا المجال مقابل الاستمرار في الدعم السياسي والأمني.
ثالثا، يجب أن تقرر الإدارة كيفية التعامل في علاقاتها مع “بن سلمان”. وهناك احتمال ضئيل بأن يتم إعادة تأهيل تلك العلاقة في نظر صناع السياسة الأمريكية والكونجرس، ولكن في الوقت الحالي، على الأقل حتى يصبح ملكا، هناك حلول مقبولة.
وبالنظر إلى شخصية ولي العهد الزئبقية وميله نحو التصرف المتهور، يجب أن تكون إدارة “بايدن” مستعدة لرده على تقرير وكالة الاستخبارات المركزية بشأن “خاشقجي”، وقد تصبح العلاقة أكثر صعوبة بمجرد أن يخلف “بن سلمان” والده.
ويجب على الإدارة الحفاظ على العلاقات الصحيحة، مع “بن سلمان”، مع توضيح جودة ونوعية العلاقة. وسيتم تحديد جزء كبير من ذلك من خلال كيفية استجابة ولي العهد لمخاوف الولايات المتحدة. وعند القيام بذلك، يجب على “بايدن” أن يضع في اعتباره التعامل بقوة؛ حيث تظل الولايات المتحدة الحامي الذي لا يمكن تعويضه للمملكة، ومع وجود آفاق اقتصادية طويلة الأجل قاتمة فيما يبدو، ستحتاج الرياض إلى أشكال مختلفة من الدعم الأمريكي بشكل أكبر في المستقبل.
ومن جانبهم، يواصل السعوديون الإصرار على بقاء الرياض وواشنطن على نفس الصفحة. وقال “بن سلمان” نفسه لمحاور تلفزيوني سعودي: “نحن متفقون مع إدارة بايدن بأكثر من 90% فيما يتعلق بالمصالح السعودية والأمريكية”. وكان المتحدثون الرسميون بالإدارة متفائلين بالمثل. وإذا كان هذا صحيحا، أو إذا كان سيظل صحيحا، فلدى كلا البلدين بعض الخيارات الصعبة لاتخاذها بشأن طبيعة العلاقات الثنائية في المستقبل.