من المعارضة إلى الموالاة ومن المجابهة إلى المؤازرة، ومن الشجب والاستنكار إلى التأييد والانسجام، ومن الاعتراض والاحتجاج إلى الرضوخ والامتثال.. بهذه الطريقة انتقل ناشطون سعوديون دأبوا على مناهضة سياسات السلطات السعودية، من خانة المعارضة إلى دائرة المبايعة للملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده محمد بن سلمان.
وبات هؤلاء المعارضون يدورون في فلك السلطات السعودية ويروجون لأفكارها ويعملون لصالح مشاريعها، بعدما استخدموا حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي لتقديم الاعتذار للملك وولي عهده عما بدر منهم من صنوف المعارضة طول سنوات أو حتى شهور قليلة قضوها في تسليط الضوء على فشل السلطة وخيانتها للشعب، وجددوا بيعتهم.
تراجع المعارضون الذين يمكن تصنيف معارضتهم اليوم بأنها كانت “معارضة شكلية” قد يكون مدفوعا بأسباب عدة أبرزها انهيار سقف توقعاتهم التي تخيلوها إبان إعلان معارضتهم وخروجهم من المملكة تاركين خلفهم أسرهم وأموالهم ومناصبهم، بأن المعارضين السابقين في الخارج سيوفرون لهم الدخل المادي اللازم ليعيشوا عليه فور وصولهم لدول اللجوء.
وقد يكون التراجع عن المعارضة والعودة لتمجيد الملك ونجله نتيجة التعرض لضغوط وابتزاز واسع من السلطة لم يتحمله المعارض الذي ظن أن بخروجه خارج حدود المملكة سيكون في مأمن عن يد السلطات؛ وهو ما تؤكد عكسه التقارير الحقوقية التي رصدت القمع السعودي العابر للقارات الذي يستهدف المعارضين وعوائلهم ممن يقيمون في بالخارج.
في 9 أغسطس/آب 2023، قدمت المعارضة السعودية السابقة نوره الطويل، المقيمة في لندن، في تغريدة على حسابها بتويتر، الذي يتابعها عليه قرابة الـ9 آلاف مغرد، اعتذارها للملك سلمان وولي العهد عما بدر منها من سوء في حقهم -بحسب تعبيرها-، وجددت ولائها لهما ولأسرة الحكم في السعودية، داعية الله أن يحفظهم من كل سوء ويرعاهم.
ونوره هي شقيقة أميرة الطويل الزوجة السابقة لرجل الأعمال الأمير الوليد بن طلال، ودشنت حسابها على تويتر في يناير/كانون الثاني 2022، عقب تمكنها من اللجوء إلى لندن، ومنذ ذلك الحين تبنت نهجا معارضا للسلطة السعودية كشفت فيه عن تبديد أموال المملكة على مخصصات يستفيد منها الأمراء وزوجاتهم وفضحت الفساد والواسطة والمحسوبية.
واعترفت في 13 مارس/آذار 2023، أنها وعائلتها استفادوا من عهد بن سلمان أكثر من الأميرين الوليد بن طلال وعبدالعزيز بن فهد آل سعود، ودللت على ذلك بعرض صورة شيك، موضحة أنها كانت تدرس دكتوراة على حساب ولي العهد بنفسه طوال العامين الماضيين، ويصلها شيك كل شهر من حسابه الشخصي.
وكانت نوره تؤكد أن السلطة تسوق وتلمع صورة المرأة السعودية لكنها تدعم الممارسات السامة للأهل سواء كانت تعنيفا أم تحرشا أو اضطهادا.
وعقب إعلان نوره اعتذارها لسلمان ونجله، حولت حسابها من الهجوم عليهما إلى الدفاع عنهما وحذفت جميع التغريدات التي كانت تهاجمهما فيها، وعلى رأسها التغريدة التي أعلنت فيها انضمامها لصفوف المعارضة في مارس/آذار 2023، وتستخدم حسابها لرصد الحسابات التي تسب السلطة السعودية وتنتقدها.
أما المعارض السابق هارون أمين أحمد، الذي كان يعمل في وزارة الخارجية السعودية ويعرف نفسه بأنه دبلوماسي منشق عن السلطة السعودية، وله مقاطع فيديو عديدة ومشاركات إعلامية بتصريحات يهاجم فيه السلطة السعودية بقوة ويستنكر عليها سياستها خاصة الفشل المتواصل لابن سلمان في حرب اليمن، فقد تراجع عن أرائه وطالب المتابعين بحذفها.
وعبر مقطع فيديو بثه في 8 يونيو/حزيران 2023، وقال أحمد: “واجب إنساني وأخلاقي ومن المروءة والشرف أن لازم أقول لكم ايش الي حصل معاي، وهذا بكون آخر مقطع لي، وأنا لي رجاء بعدها كل مقاطعي المسيئة خلال 10 سنوات الي راحت رجاء لكل سعودي وسعودية احذفوها وأنا كمان إن شاء الله بحذفها والحساب هذا أساسا سأقفله بعد أسبوع”.
وروى: “اتصل علي مسؤول بوزارة الخارجية وقال لي أن سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عرف عن حالتي يقول قال كلمتين بس، ألتفت له وقال له كلمتين: طمنوني على بناته وولا يقصر عليهم شي.. بعد ما العالم كله تركني بعد كل هذه السنين 10 سنوات من التطاول المتزايد المتكرر من طرفي بحق الدولة.. مين مهتم ببناتي؟ محمد بن سلمان”.
وتابع أحمد: “الحقيقة أيش أقول أنا خجلان من نفسي ولا، أنا بصراحة مش لاقي كلمات من جد عجرت أعرف معدنك يا ابن سلمان..”، ووصف ولي العهد بأنه “أغلى من الذهب”.
وقبل أيام من إعلان أحمد تواصل دبلوماسي معه، وإشادته بابن سلمان، عرض مقطع فيديو شكا فيه من أنه وصل إلى مرحلة “الفقر” وقال إن المقطع سيحظى بشماتة من الذباب الإلكتروني والحكومة السعودية، مضيفا أن “الغريق يتعلق بأي قشة” وطلب قرض يشتري به سيارة جديدة يعمل عليها، وكشف عن تقدمه لأكثر من 60 وظيفة ولم يقبل وأعرب عن خشيته من انحدار حاله.
وحذف أحمد حسابه القديم على تويتر، ودشن في أغسطس/آب 2023، آخر جديد خالي من جميع التغريدات القديمة التي دأب فيها على مهاجمة السلطات السعودية، عرف نفسه عليه بأنه “ابن الوطن” ووضع صورة عريضة للملك وولي العهد، ويتابع فقط حساب الملك سلمان الرسمي.
وبث على تويتر مقطع فيديو ظهر فيه جالسا على مكتب وأمامه العلم السعودي وعلم الاحتلال الإسرائيلي، وروج فيه للتطبيع مع الكيان المحتل، وشاهده أكثر من 100 ألف مغرد.
ولم يختلف كثيرا ما فعله أحمد، من ترويج للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، عن الأسلوب الذي اتبعه الأكاديمي والمعارض السابق كساب العتيبي، الذي أعلن في 16 مارس/آذار 2015، عودته إلى بلاده بعد 20 عاما قضاها في بريطانيا، هاجم خلالها حكومة بلاده واتهمها بالخضوع للغرب وطالب بالحقوق المدنية وإصلاح هيكل النظام.
فقد نزع العتيبي، في تغريدة نشرها في 31 يوليو/تموز 2019: القدسية عن المسجد الأقصى المبارك، قائلا: “لا يوجد قداسة لأي وطن عندي سوى المملكة العربية السعودية، ولا قداسة لأي مسجد سوى بيت الله الحرام في مكة المُكرّمة، والمسجد النبوي في المدينة المنورة، أما القُدس فقداسته أدبية كبيت من بيوت الله، مثله مثل مسجد حارتنا”.
وأثارت حينها تغريدة العتيبي جدلا واسعا، إذ خالف بها ما كان يقوله بالسابق، حيث اتهم سابقاً المنادين بالتطبيع مع إسرائيل بـ”المتصهينين الأشد خطراً من الصهاينة”، قبل أن يصبح من أشد مؤيدي بن سلمان، وخلص مغردون إلى أن الحكومة تدفع العتيبي وغيره لتقليل من أهمية الأقصى والقدس، في محاولة للتأثير على الرأي العام لقبول علاقة علنية مع الاحتلال.
ودافع في 31 أغسطس/آب 2020، عن سماح بلاده للطائرات السعودية بعبور أجوائها، قائلا: “تسمح السعودية بعبور طائرة إسرائيلية أو طائرة من المريخ هو شأن سعودي سيادي بحت. تُقيم السعودية علاقات مع إسرائيل أي مع سكان كوكب عُطارد هو شأنٌ سعودي سيادي بحت. المملكة العربية السعودية بلد عظيم مُستقل بسياساته وقراراته. لنا الأفعال ولكم النحيب والنباح”.
واتهم في تغريدة أخرى في 11 مايو/أيار 2021، حركة المقاومة الفلسطينية حماس والفلسطينيين عموما بأنهم لم يشتموا ويشمتوا ويتآمروا إلاّ على السعودية.
وغلب على نهج العتيبي منذ عودته للمملكة تخليه عن أفكاره المعارضة وتركه الحديث عن ملف المعتقلين، ودفاعه عن السلطات بتأكيده في أحد لقاءته الإعلامية أن “القيادة خط أحمر”، وهجومه على المعارضين السعوديين بالخارج بكافة أطيافهم.
وعن دلالات التوجه الذي سلكه المعارض السابق هارون، رأى عضو حزب التجمع الوطني السعودي المعارض ناصر العربي، أن ما قدمه بعد تراجعه عن المعارضة بمثابة رسالة واضحة من السلطات السعودية لأي معارض أن العودة عن المعارضة تعني القبول غير المشروط بطلبات الحكومة السعودية، حيث الإذلال والتأكيد أن لا قاع للمهانة التي يتعرض لها الناشط.
وقال في حديثه إن المعارضة السعودية بالخارج هي أكثر المنغصات على بن سلمان، التي يخشاها ويخاف من نتائج عمل أعضائها البسيط في التشويش عليه، ولهذا يرى في تراجع أحد أفرادها فرصة لإظهار أن الحكومة مستعدة لفتح باب العودة عن المعارضة شريطة التزامه بالسير وفق المحددات التي تضعها وهي غير منتهية لدى السلطات السعودية.
وعد العربي، خروج المعارض السابق هارون حدثاً طبيعياً في نشاط المعارضة، إذ يمثل نفسه ومبادئه قبل أن يمثل أي اتجاه من اتجاهات المعارضة، فهو اختار معارضة السلطات في ٢٠١٤، واليوم يعلنه تراجعه عن هذه المعارضة، ونتفهم الظروف الصعبة مر بها هاون ونتمنى له الخير والاستقرار في المستقبل.
وتعقيبا على توالي تراجع معارضين عن معارضتهم وتماهيهم مع سياسات النظام السعودي، نصح الأمين العام السابق لحزب التجمع الوطني السعودي المعارض يحيى عسيري، بألا يخرج أحد من بلده إلا إذ كان في حالة خطر وأصبحت متاعب الغربة أهون عليه من خطر “السجن، الإعدام ونحوه”، أو كان لديه مشروع وطني واضح ومحدد يستطيع الانخراط فيه أو بدأه.
وأكد في سلسلة تغريدات على حسابه بتويتر، أن الهجرة نضال وليست ترفيها، ومن لا يستطيع فليحذر، مذكرا بأن السلطات على مدى سنوات اتهمت من يخرج من المعارضين بالارتزاق، وتحدثت عن “شنط ملايين”، مما دفع البعض للخروج على هذا الأساس ليتقمصوا دور المعارضة بحثًا عن “الشنط” وإن لم يكونوا أصحاب معارضة من الأصل.
وأشار عسيري، إلى أن الكثير من قيادات المعارضة بقوا في وطنهم، ومنهم العظيم الدكتور عبدالله الحامد ورفاق كبار، لوعيهم أن المعارضة لا يجب أن تكون من الخارج، قائلا: “لا توجد أموال، أحذر، الشنط ليست إلا كذب سلطة، فإما أنك قد جمعت، أو تجد لك عملا، أو تتحمل العيش بشكل متواضع وفق أنظمة البلد الذي تقصده.
ولفت إلى أن العمل المدني للإصلاح ومساعدة المحتاجين من معتقلين ومعذبين ومقهورين، وليس للتكسب بالمال والشهرة ولا المزايدات، موضحا أن من في الخارج أفراد أو مؤسسات وليسوا حكومات، فالحكومات عليها تسيير شؤون المواطنين، ولكن الكاتب الصحفي، والناشط الحقوقي، والمحلل السياسي، والمنظمة الحقوقية، والحزب السياسي، والصحيفة، وما إلى ذلك من الصعب عليها تسيير شؤون المواطنين.
ونصح عسيري الراغبين في الخروج للمعارضة ألا يتعشموا كثيرًا ثم يصابون بالخذلان، مذكرا بمقطع فيديو نشره سابقا بهذا الكلام وسخر منه الذباب الإلكتروني بقولهم إنه اعترف بعدم وجود أموال، وانتقده غيرهم بقول “خل من في الخارج يكثرون”، وبعضهم لو قعدوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا.
وكان عسيري قد حذر في مقطع فيديو عرضه على حسابه بموقع يوتيوب، في يوليو/تموز 2017، تحت عنوان “طلبات الهجرة واللجوء السياسي أو الإنساني والهروب من السعودية إلى أوروبا”، من خروج السعوديين ممن لديهم مشاريع يرغبون في تطبيقها بالخارج إذا لم يكن مضطرا للخروج واتيحت فرصة تطبيقه من الداخل.
وحث الراغبون في مغادرة البلد على التأكد من أن مشاريعهم قابلة للتطبيق وكل عناصرها موجودة ومتوفرة بما فيها “التمويل” وألا ينتظروا شيئا في الخارج، وأن يضعوا شركائهم في المشروع في الصورة من البداية حتى لا يختلفوا وهم في وقت حرج خارج البلاد، مشددا على ضرورة أن تكون إقامتهم قانونية.
وأوضحت عضو حزب التجمع ترف عبدالكريم، أن المواطن السعودي صاحب الضمير الحي قد ينتابه بعض اليأس والخوف من القمع الذي كبله، في ظل الأوضاع المتردية التي تعيشها بلادنا وانتهاكات حقوق الإنسان الآخذة بالازدياد، فيسارع إلى اللجوء في الدول المختلفة بحثاً عن الأمان دونما رؤية واضحة.
وأضافت في حديثها مع صوت الناس، أن المواطن يصطدم بعد ذلك بواقع لم يكن بالحسبان، ومواجهة صعوبات مختلفة عن تلك التي في وطنه، أو الذي خُيل إليه والحنين الذي يكابده، لا سيما عندما يدرك أنه لا طريق للعودة إلى بلاده، فينسى السبب الذي جاء لأجله ألا وهو الصدع بالحق والدفاع عن المظلومين بعيداً عن الاعتقال والبطش.
وتابعت ترف: “في لحظة ضعف قد يلجأ الإنسان إلى العودة للوطن ويبدأ بمعاناة جديدة مع السلطات وانتقام المستبد الذي لا بد منه مهما أبدت السلطات من تسامح، ولذلك ينبغي على الناشط أن يكون واعياً بكل ما سيعتريه من تحديات وأن يعلم أن ليس ثمة مغريات، فقط عمل وجد واجتهاد”.