لا يعيد التاريخ نفسه دائمًا ولكن تتشابه بعض الحالات. وعند دراسة العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية من منظور تاريخي، يصاب المرء بالدهشة من كيف أن الرئيسين الديمقراطيين “جون إف كينيدي” و”جو بايدن” نظرا في البداية إلى السعودية كشريك إشكالي، لكنهما أعادا تقييم ذلك الموقف مع مرور الوقت، وسعا الرئيسان لاحقا إلى توثيق العلاقات مع الرياض.

ويسلط ذلك الضوء على طبيعة العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والسعودية، بالرغم من الانتقادات العلنية للمملكة التي يطلقها بعض المسؤولين الأمريكيين رفيعي المستوى بين الحين والآخر. لقد مرت 6 عقود منذ رئاسة “جون كينيدي” وأصبح الشرق الأوسط مكانا مختلفا كثيرًا عما كان عليه في أوائل الستينات، لكن أوجه التشابه لا تزال قائمة.

في أوائل الستينات من القرن الماضي، اعتقد “كينيدي” أن قوى القومية العربية، ممثلة في رئيس مصر الكاريزمي “جمال عبدالناصر”، ستشكل مستقبل السياسة في الشرق الأوسط، وأن من الأفضل للولايات المتحدة رعاية هذا القائد وأيديولوجيته للحفاظ على نفوذها في المنطقة، وإلا فإن السوفييت سيكونون المستفيدين الرئيسيين من القومية العربية.

وكانت مشكلة “كينيدي” هي أن هذا الجهد في التقارب مع “عبدالناصر” واجه معارضة شديدة من السعوديين الذين رأوا “عبدالناصر” خصمهم الإقليمي الرئيسي.

وبحلول خريف عام 1962، دخلت السعودية ومصر في صراع مرير على اليمن، الذي انزلق إلى حرب أهلية مريرة. قدمت مصر دعمها السياسي والعسكري للقوات الجمهورية التي أعلنت “الجمهورية العربية اليمنية”، بينما دعم السعوديون النظام الملكي.

وفي ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، اعترف “كينيدي” بالجمهورية اليمنية ليس فقط للتقارب مع “عبدالناصر”، ولكن أيضًا لأنه يعتقد أن الجمهورية اليمنية تمثل مستقبل الحكومة اليمنية. وساعد قرار “كينيدي” على مواكبة السوفييت الذين اعترفوا بالفعل بالجمهورية كحكومة شرعية لليمن.

وأثار قرار “كينيدي” غضب السعوديين، خاصة أن الطائرات العسكرية المصرية كانت قصفت الأراضي السعودية بالقرب من الحدود اليمنية. ولاحقًا في عام 1963، اضطر “كينيدي” إلى طمأنة السعوديين بأن واشنطن ما زالت تدعمهم، وأرسل سربًا من الطائرات العسكرية الأمريكية إلى السعودية للقيام بدوريات في المجال الجوي السعودي وردع أي هجمات عدائية.

ولكن ما سبب هذا الانقلاب في السياسة الأمريكية؟ لقد أصيب “كينيدي” بخيبة أمل متزايدة من “عبدالناصر”، الذي لم يخفض علاقاته مع الاتحاد السوفييتي، كما عزز الرئيس المصري – ولم يخفّض – التدخل العسكري المصري في اليمن. وواجه “كينيدي” معارضة متزايدة لسياساته من قبل الأردنيين والإسرائيليين والبريطانيين.

لكن ربما الأهم من ذلك أن السعوديين بدأوا في الضغط على شركة “أرامكو”، التي كانت آنذاك عبارة عن تجمع نفطي مملوك لأمريكا، لتقليص امتيازها الكبير في المملكة. ونتيجة لذلك، حث المسؤولون التنفيذيون في شركات النفط الأمريكية البيت الأبيض على استرضاء الرياض على حساب القاهرة.

ووفقًا للمؤرخ “دوجلاس ليتل”، اعتقد “كينيدي” أن المشكلة الرئيسية للمملكة لم تكن تهديد الناصرية ولكن عدم رغبتها في إجراء الإصلاحات التي تطلبها واشنطن. وأشار البعض إلى أن “كينيدي” قال لمساعده “روبرت كومر” إن السعوديين “يمثلون الأمس بدلاً من الغد”. ومع ذلك، أشار مساعد “كينيدي” إلى أن الرئيس الأمريكي كان “على استعداد لتجاوز هذه العقبات الأخلاقية” بسبب الاستثمار النفطي الأمريكي الضخم في المملكة.

وبالمثل، بعد أن وعد الرئيس “بايدن” بتحويل السعودية إلى “دولة منبوذة” بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان ودورها في حرب اليمن، يبدو الآن أنه مستعد للتراجع عن هذه السياسة بشكل كامل وإعادة توثيق العلاقة مع السعودية والوصول بها إلى مستوى مختلف.

وردًا على الانتقادات الواسعة لزيارته إلى السعودية من قبل مجتمع حقوق الإنسان (بالإضافة إلى بعض زملائه الديمقراطيين)، أكد “بايدن” في مقال رأي في “واشنطن بوست” أنه “ما زال ملتزما بوضع حقوق الإنسان والحريات على جدول أعمال زياراته الخارجية”. وذكر أيضًا أنه فرض عقوبات على الفريق السعودي المتورط في مقتل الصحفي “جمال خاشقجي”، وأنه سيستمر في “عدم التسامح مع التهديدات والمضايقات الخارجية ضد المعارضين والنشطاء من قبل أي حكومة”.

ومع ذلك، أشار “بايدن” في مقال الرأي نفسه إلى السعودية باعتبارها “شريكًا استراتيجيًا لمدة 80 عامًا” ومضى في الإشارة إلى أن الرياض “ساهمت في استعادة الوحدة بين دول مجلس التعاون الخليجي، ودعمت الهدنة الحالية في اليمن، وتعمل الآن مع الخبراء الأمريكيين للمساعدة في استقرار أسواق النفط”.

بعبارة أخرى، يدرك “بايدن” مثل “كينيدي” أن السعودية تتطلب إصلاحات سياسية أساسية. لكن مثل سلفه، لا يزال “بايدن” غير راغب في تعريض العلاقات الثنائية المهمة للخطر. في الواقع، يبدو أن العوامل الاقتصادية تفوقت مرة أخرى على المعتقدات الشخصية لدى الرئيس حول حقوق الإنسان.

واليوم، تعد “أرامكو” كيانا مملوكا للسعودية التي لديها نفوذ هائل على سوق النفط العالمية بسبب قدرتها على زيادة الإنتاج بسرعة. وحتى الآن، رفضت القيادة السعودية التجاوب بشكل كبير مع المطالب الأمريكية بخفض أسعار النفط، ويبدو أن الدافع هو إظهار استيائها من انتقادات “بايدن” السابقة للمملكة والاعتقاد المتزايد بأن الإدارة الأمريكية الحالية لم تعرب عن دعم كافٍ للرياض.

كما في أوائل الستينات، أظهر السعوديون أنه لا يزال بإمكانهم اللعب بورقة النفط لصالحهم. ويبدو أن رحلة “بايدن” إلى المملكة هي السعر الذي طلبه السعوديون قبل زيادة إنتاج النفط.

ولكي نكون منصفين لإدارة “بايدن”، فقد ساهم تواصلها الأخير مع السعوديين في الهدنة المستمرة في اليمن. ويجب اعتبار ذلك بحد ذاته إنجازًا مهمًا للسياسة الخارجية ولكن كما اكتشف “كينيدي”، من الواضح أن انتقاد السعودية ونظامها السياسي باعتباره من بقايا الماضي يجب أن يكون له حدود في السياسة الخارجية، فقد أثبتت الاعتبارات الاستراتيجية والاقتصادية نفسها مرة أخرى.