أثبتت الأشهر الماضية أن تغيير الإدارة الأمريكية له تأثير كبير على السياسة السعودية. وربما لم يكن ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” ليسارع إلى مصالحة مع الدوحة أو فتح قنوات اتصال مع إيران عبر العراق، في حال فاز “دونالد ترامب” بولاية ثانية كرئيس للولايات المتحدة.
وكانت هناك حالة من الذعر في الرياض بعد تهديد الرئيس الأمريكي الحالي “جو بايدن” بمعاملة السعودية على أنها “دولة منبوذة” ومحاسبتها على مقتل الصحفي “جمال خاشقجي”.
ورغم استياء حلفائه في أبوظبي والقاهرة، سارع “بن سلمان” لرفع الحصار عن قطر عبر قمة “العلا”. ثم تحرك ولي العهد للإفراج عن الناشطة في مجال حقوق المرأة “لجين الهذلول” والتي كانت سببا في انتقادات دولية للقيادة السعودية.
وبدلا من مقاومة سياسات “بايدن” غير المواتية في اليمن وإيران، اختار “بن سلمان” الانسجام معها. وتعاونت الرياض مع المبعوث الأمريكي الجديد إلى اليمن، الذي تم تعيينه في فبراير/شباط، للإشراف على العملية السياسية في اليمن. كما فتح “بن سلمان” قنوات اتصال مع طهران عبر بغداد لاستكشاف تعزيز العلاقات الثنائية.
ومع ذلك، في حين كان لإدارة “بايدن” تأثير كبير على تعامل السعودية بشأن عدد من القضايا، فلا يمكن أن يُعزى التحول السعودي في السياسة الخارجية إلى إدارة “بايدن” فقط. وتعتبر هذه الفكرة ساذجة لأنها تنفي الفاعلية المهمة للديناميكيات المحلية، ليس فقط في الأحداث الإقليمية، ولكن أيضا في السياسة الأمريكية نفسها.
وتشجعت السعودية لتغيير سياستها نتيجة التغيرات في البيئة الإقليمية التي تبدو اليوم مختلفة تماما عما كانت عليه في عام 2011 مع اندلاع الربيع العربي الذي أثار سياسة خارجية سعودية أكثر عدوانية. وقد تغيرت خطوط الصدع في المنطقة عن تلك التي تم رسمها خلال الربيع العربي، ما أتاح للمملكة المزيد من الخيارات ومساحة أكبر للمناورة.
وفقدت قطر الأمل في كسب المزيد من النفوذ في مصر عبر “الإخوان المسلمون”، واعترفت بحكومة الرئيس “عبدالفتاح السيسي” باعتبارها “السلطة الشرعية في مصر”. وأصبحت قناة “الجزيرة” أكثر هدوءا فيما يتعلق بالسعودية ومصر، حيث تسعى الدوحة إلى توسيع العلاقات مع البلدين.
وتراجع الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” عن بعض الامتيازات التي منحها للمعارضة المصرية وخاصة في المجال الإعلامي. والأن، أصبح حزب النهضة التونسي على وشك الانهيار فعليا، في حين أن أكثر رموز الربيع العربي شهرة وهو الرئيس المصري السابق المنتخب ديمقراطيا “محمد مرسي” توفي بالفعل في محبسه.
وإضافة إلى التحولات الإقليمية، بدأت السردية في سوريا تبتعد عن “قصة الثورة”، حيث يبدو أن “الأسد” أقوى من قبل وإن تضاءلت سلطته بشكل كبير عن الوضع قبل الثورة. وفي الوقت نفسه، أصبحت مكاسب الربيع العربي في اليمن من الماضي، حيث يبدو أن البلاد تتجه نحو تسوية بوساطة الولايات المتحدة والتي ستتضمن إما تقسيم البلاد بين شمال حوثي وجنوب انفصالي، أو حكومة وحدة هشة بدون سلطة حقيقية.
وسابقا، اعتبرت السعودية الربيع العربي، وبالتالي قطر، تهديدا وجوديا لكن لم يعد هذا هو الحال الآن. ويعني ذلك أن مصالح المملكة مع الدول الإقليمية لم تعد تحددها ديناميكيات الربيع العربي، وهو ما يتيح الآن مساحة أكبر للعمل لاستعادة العلاقات والشراكات والتحالفات القديمة.
ولا يوجد مثال أكبر على ذلك في الآونة الأخيرة من زيارة سلطان عمان “هيثم بن طارق” إلى الرياض في أوائل يوليو/تموز، والتوترات بين ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” ونظيره الإماراتي “محمد بن زايد”.
سلطنة عمان
وكانت زيارة السلطان “هيثم بن طارق” إلى الرياض هي الأولى من نوعها لزعيم عماني منذ أكثر من 10 أعوام. وبينما لم تبرز التوترات خلال هذه الفترة الممتدة، كان هناك انزعاج لا يمكن إنكاره من الرياض بشأن إصرار مسقط على الحياد في قضايا مثل حرب اليمن وحصار قطر.
ورفض السلطان الراحل “قابوس” الانجرار إلى الاستقطاب الإقليمي. وحتى عندما بدأ الاقتصاد العُماني يتأثر بانخفاض أسعار النفط ثم جائحة “كوفيد-19″، ظل كل من السلطان “قابوس” وخليفته السلطان “هيثم” على موقفهما وتمسكا بحياد عُمان، بل قاوما أي مساعدة اقتصادية خارجية مرتبطة بقيود سياسية.
ومع رفع الحصار عن قطر، تحسنت العلاقات الثنائية بين الدوحة والرياض وسعيا نحو تسوية سياسية في اليمن، كما لم تعد السعودية مهتمة بالضغط على عُمان لاتخاذ موقف ما. وبدلا من ذلك، أبدت الرياض اهتماما بالتعاون مع مسقط في القضايا ذات الاهتمام المشترك. ولتأمين حل سياسي في اليمن، تحتاج الرياض إلى التواصل بشكل فعال مع الحوثيين، وتعتبر عُمان هي الدولة الخليجية الوحيدة القادرة على القيام بذلك بحكم حيادها وعلاقاتها مع الحوثيين طوال فترة الصراع.
ولتوسيع الفرص الاقتصادية للسعودية وإيجاد بديل لمضيق هرمز المضطرب، تحتاج الرياض إلى علاقات أوثق مع مسقط لأن الطريق السريع الذي يمر عبر الربع الخالي (على وشك الاكتمال) سيختصر وقت السفر البري بين البلدين بأكثر من 16 ساعة ويوفر الفرصة للشركات السعودية لاستخدام ميناء الدقم العماني للتصدير إلى العالم، وبالتالي تجاوز مضيق هرمز.
بمعنى آخر، تمكن السلطان “هيثم” من زيارة الرياض ومناقشة المصالح المشتركة من زاوية العلاقات الثنائية المتبادلة دون الاضطرار إلى مواجهة أي من الضغوط التي كانت سمة مميزة للتحالف السعودي الإماراتي على مدى العقد الماضي.
سوريا
وتخلت السعودية عن الثورة السورية ضد نظام “الأسد” عام 2015. وفي ذلك الوقت، أصبحت السياسة السعودية معطلة بشدة بسبب الصراع الداخلي على الخلافة الذي أدى إلى انتقال ملف سوريا من “بندر بن سلطان”، ثم “متعب بن عبدالله”، ثم “محمد بن نايف”، ليصل أخيرا إلى “محمد بن سلمان”.
وفي الواقع، يُزعم أن “بن سلمان” منح الدعم السعودي للثورة السورية في البداية قبل أن يدعو في نهاية المطاف الروس لإنقاذ نظام “الأسد” قبل الانسحاب بالكامل.
ومع ترسيخ “الأسد” لسلطته بشكل متزايد، بدأت الرياض في متابعة عملية مصالحة مؤقتة تهدف إلى إعادة تأهيل دمشق مرة أخرى داخل الحظيرة العربية. وتحدث “بن سلمان” بعبارات أكثر تركيزا على قضية العرق فيما يتعلق بحلفاء إيران، ما يشير إلى رؤية طويلة المدى لدق إسفين بين طهران وحلفائها من خلال استبدال الروابط الطائفية بقواسم عرقية مشتركة مع حوافز مالية.
لكن الأهم من ذلك، أن السعودية أصبحت مقتنعة أكثر من أي وقت مضى بأن الفوضى في لبنان لا يمكن حلها بدون تعاون دمشق. وأصبحت الرياض محبطة بشكل متزايد بسبب عدم قدرتها على احتواء التحالف بين الرئيس اللبناني “ميشال عون” و”حزب الله”، الذي منع حليف السعودية رئيس الوزراء السابق “سعد الحريري” من تشكيل حكومة في لبنان. وحتى مع الجهود الدبلوماسية المنسقة لواشنطن وباريس والرياض خلال الشهر الماضي لتسليم السلطة إلى حكومة “الحريري”، تمسك تحالف “عون” و”حزب الله” بموقفهما.
ولطالما أكد المسؤولون السوريون سرا أنه لا يمكن تأمين المصالح السعودية حتى تتعلم الرياض العمل مع دمشق. ولا تتوافق المصالح السورية في لبنان بالضرورة مع إيران، وبالتالي تفكر الرياض بشكل متزايد في فوائد المصالحة مع سوريا، والتي لا تمنعها حاليا سوى واشنطن المترددة.
إيران
لا يعد “بن سلمان” أول زعيم سعودي يبدأ محادثات مع إيران. وتم تنفيذ العديد من المبادرات في عهد الملك “عبدالله”، وكثيرا ما كان المسؤولون السعوديون ينظرون إلى الرئيس الإيراني السابق “علي رفسنجاني” كصديق. ومع ذلك، فإن ديناميكيات الانخراط السعودي الحالي مع إيران هذه المرة مختلفة تماما عن تلك التي حكمت مبادرات الملك “عبدالله”.
وأظهر “بايدن” عزمه على تأمين اتفاق نووي جديد مع إيران بغض النظر عن مخاوف حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. وتم تفسير مقاربة واشنطن للمفاوضات في المنطقة على أنها عرض من الولايات المتحدة للاعتراف بمكاسب السياسة الخارجية الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ومن وجهة نظر الرياض، تخلت الولايات المتحدة عن السعي لاحتواء إيران فيما تسعى الآن إلى إنشاء إطار إقليمي للتعاون لا يمكن أن يأتي إلا على حساب دول الخليج الأخرى.
وبالرغم من ذلك، أصبح المسؤولون السعوديون مدركين تماما للإحباط المتزايد في واشنطن من مقاربة طهران للمفاوضات. ويحرص “بايدن” على ألا يُنظر إليه على أنه يستسلم لإيران لذلك يتجنب المحادثات المباشرة حتى يتأكد من أن الرأي العام لن يراه على أنه يشرف على “هزيمة” أمريكية أخرى في المنطقة.
ومع ذلك، تواصل الميليشيات المدعومة من إيران استعراض قدراتها العسكرية من خلال استهداف القواعد الأمريكية في العراق، وتأكيد قوتها ونفوذها على بغداد. وفي هذا السياق، وجد “بن سلمان” نفسه عن غير قصد وثيق الصلة بواشنطن لذلك خفف “بايدن” العداء العلني للرياض.
وفي عرض آخر للعلاقات الدافئة، وصل شقيق “بن سلمان” الأصغر ونائب وزير الدفاع، “خالد بن سلمان”، إلى واشنطن في أوائل يوليو/تموز للقاء كبار المسؤولين الأمريكيين لمناقشة الوضع الأمني في المنطقة، وخاصة إيران. علاوة على ذلك، سمح “بايدن” بتمديد الحرب في اليمن من أجل منع الحوثيين من الاستيلاء على مأرب وإجبارهم على التخلي عن طموحاتهم في الحكم الذاتي في الشمال.
وبحسب ما ورد، تفكر إدارة “بايدن” في التدخل في قضية المحكمة الخاصة برئيس المخابرات السعودية السابق “سعد الجبري”، لمنع إفشاء الأسرار. وكانت القضية مصدرا لكثير من الصداع والقلق لدى ولي العهد السعودي.
الإمارات
ويعد أهم تحول في السياسة الخارجية السعودية هو علاقتها مع الإمارات. وانبثقت أركان العلاقة في شكلها الحالي من الربيع العربي. وكانت الرغبة المتبادلة في سحق الربيع العربي، متبوعة بدعم الإمارات لصعود “بن سلمان” إلى السلطة، قد عززت التحالف ومكنته من النجاة من أي خلافات سياسية.
ومع ذلك، مع ابتعاد خطوط الصدع في المنطقة عن الربيع العربي، لم تعد الأسس التي دعمت التحالف ثابتة كما كانت من قبل. وأثبت “بايدن” أنه أقل عداوة للسعودية مما كان متوقعا، بينما بدأت الإمارات مواجهة مشاكل متزايدة بشأن ممارسات الضغط في واشنطن.ومن هنا تغيرت أولويات المملكة.
وفي اليمن، أصبحت فائدة عُمان في تحقيق أهداف السعودية أكثر جاذبية من سياسة الإمارات التي قوضت هدف الرياض الأصلي المتمثل في منع الحوثيين من ترسيخ أنفسهم في المحافظات الشمالية.
وفيما يتعلق بإيران، فإن كلا من قطر وسلطنة عُمان مهيأة لتسهيل الحوار الذي يحتاجه “بن سلمان” من أجل الانخراط في مفاوضات واشنطن مع طهران.
وعلى الصعيد الاقتصادي، أصبحت الإمارات منافسا أكبر حيث تشعر الرياض بالقلق من عدم إقبال الشركات على تأسيس مقارها في السعودية وتفضيلها دبي كقاعدة لعمليات الشرق الأوسط. كما يهدد تطبيع الإمارات للعلاقات مع إسرائيل محاولة “بن سلمان” لجعل السعودية مركزا تكنولوجيا في المنطقة.
لذلك بدأت الرياض في التصرف من جانب واحد بشأن عدد من القضايا التي أزعجت صانعي السياسات في الإمارات. ولا يعني ذلك أن التحالف مهدد بالانهيار في المدى المنظور.
ومع ذلك، هناك وعي متزايد في أبوظبي بضرورة إعادة تشكيل التحالف. وكشف الخلاف الأخير حول اتفاق “أوبك+” عن التصورات السائدة في السعودية حيث ما تزال ترى نفسها زعيمة المنطقة وترى الإمارات شريكا أصغر. وقد رفضت الإمارات ذلك بشكل قاطع، حيث سعت إلى استعراض عضلاتها علنا في الآونة الأخيرة لتأكيد مصالحها على حساب الرياض.
ومع ذلك، فإن زيارة ولي عهد أبوظبي “محمد بن زايد” إلى الرياض في منتصف يوليو/تموز تشير إلى أن هناك مخاوف حقيقية من أن السعودية لم تعد تعتبر التحالف مع الإمارات جزءا لا يتجزأ من سياستها الخارجية كما تفعل الأخيرة. وربما يكون هذا أهم تطور في السياسة الخارجية السعودية بما يحملة من تداعيات شاملة على المنطقة.