بين السعودية والإمارات خلافات مكتومة دائما، ولكنها تُحل عادة بتكتم شديد، إلا أن اللافت في الأمر أن كثيرا من هذه الخلافات تظهر للعلن على هيئة تسريبات.
آخر هذه التسريبات كشفتها صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، عندما تحدثت عن تصاعد حدة الخلافات بين الإمارات والسعودية بشأن عدة ملفات، أبرزها اليمن والنفط وغيرها، وهو أمر قلل من شأنه مراقبون من كلا البلدين واعتبروه مجرد “اختلاف” في وجهات النظر وليس “خلافات”.
تقول الصحيفة إن كبار قادة البلدين ابتعدا عن المشاركة في الأحداث التي استضافاها مؤخرا بشكل مقصود، مستشهدة بما شهدته قمة لقادة الشرق الأوسط عقدت بأبوظبي في يناير/كانون الثاني الماضي، وغاب عنها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، رغم حضور حكام الأردن ومصر وقطر وعمان وغيرهم فيها.
وقبل ذلك بنحو شهر، لم يحضر كبار قادة الإمارات قمة صينية عربية رفيعة المستوى، عقدت في الرياض.
تشير الصحيفة إلى أن هذا التجاهل المتبادل، كشف عن تصاعد حدة الخلافات بين البلدين الجارين، واللذان سارا على مدى سنوات بخطى متقاربة بشأن السياسة الخارجية للشرق الأوسط.
وعلى الرغم من أن السعودية والإمارات لا تزالان حليفتان بشكل رسمي، إلا أنهما تباعدتا على عدة جبهات، حيث تنافستا على الاستثمار الأجنبي والنفوذ في أسواق النفط العالمية، واصطدمتا في تحديد اتجاهات حرب اليمن.
علاقة وثيقة
وقبل الحديث عن خلافات، يجب الإشارة إلى أن السعودية الإماراتية جارتان تعد علاقتهما التاريخية ودّية للغاية، وقد شهدت العلاقات بينهما في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز آل السعود تطورًا ملحوظًا في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
أسسا في مايو/أيار 2014 لجنة عليا مشترَكة برئاسة وزيرَي الخارجية في البلدين، وفي الشهر نفسه من عام 2016 جرى التوقيع على اتفاقية إنشاء مجلس تنسيقي في الأمور ذات الاهتمام المشترك.
وفي يونيو/حزيران عام 2018، أطلقت السعودية والإمارات “استراتيجية العزم”، التي تتضمن رؤية مشتركة للتكامُل اقتصاديا وتنمويا وعسكريا، عبر 44 مشروعا استراتجيا مشتركا.
وتعد العلاقات التجارية والاقتصادية بينهما هي الأكبر بين دول مجلس التعاون الخليجي، حيث السعودية هي الشريك التجاري العربي الأول والثالث عالميًّا للإمارات.
كما تأتي الإمارات في طليعة الدول المستثمرة في السعودية بقيمة إجمالية تزيد عن 34 مليار درهم، وهناك أكثر من 30 شركة ومجموعة استثمارية إماراتية تنفِّذ مشاريع كبرى.
في المقابل، تجاوزت الاستثمارات السعودية المباشرة في الإمارات 16 مليار درهم، كما يركز البلدان على استخدام التكنولوجيا المتقدمة لتعزيز النمو الاقتصادي كجزء من خطط التنمية الأوسع نطاقًا، خاصة عبر قطاعات الطاقة والاتصالات والسيارات والبناء.
ورغم كل هذه العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، إلا أن الخلاف الأخير بينهما، والذي ظهر على السطح مؤخرا، ليس الأول بين البلدين، وفي هذا التقرير يستعرض “الخليج الجديد” تاريخ الخلافات السعودية الإماراتية، وما آلت إليه في النهاية.
صراع النفوذ
يُعد تاريخ الصراع القَبَلي بين آل سعود وشيوخ الإمارات قديماً ومتجذّراً وحتى قبل قيام الدول نفسها، وهي صراعات نشأت على النفوذ والسيطرة والتبعية، وتطورت فيما بعد لأشكال أخرى من الخلافات على الأرض والحدود وحقول النفط.
ففي وثيقة سرّبها موقع “ويكيليكس”، في نوفمبر/تشرين الثاني 2010، نُقل عن الرئيس الإماراتي محمد بن زايد، قوله في يوليو/تموز 2006، إن “الإمارات وقطر خاضتا حروباً ضد السعوديين، والإمارات وحدها خاضت 57 معركة ضد السعودية خلال الـ250 سنة الماضية، السعوديون ليسوا أصدقائي الأعزاء وإنما نحتاج لأن نتفاهم معهم فقط”.
رسالة سرية أخرى، مؤرّخة بتاريخ 25 سبتمبر/أيلول 2005، تقول فيها السفيرة الأمريكية السابقة في الإمارات ميشيل سيسون، على لسان بن زايد، إن الأخير “وجّه لطمة” للقيادة السعودية الهرمة، قائلاً إن المملكة بحاجة إلى “نظام تقاعد”.
وثيقة مرسلة من السفارة الأمريكية في الإمارات، بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2009، تتحدث عن أن الخلفاء (الحكام الجدد) الإماراتيين الأصغر سناً يجدون أنفسهم على خلاف متزايد مع ما يعتبرونه “القيادة السعودية العجوز”.
وتُبين وثائق “ويكيليكس” المسربة أيضاً عن دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة أن بن زايد كان يستهزئ بالسعوديين ونظامهم السياسي سراً، وكان يسخر من تأتأة الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وينتقد جهله، كما أنه تحدث بسخرية عن المملكة، خاصة عندما وصف شعبها بالجهل والتخلف.
وتكشف وثيقة أخرى بتاريخ 25 يونيو/حزيران 2008، أن وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد، كان يحاول تحريض الأمريكيين ضد نظام الحكم في السعودية، وأن موقفه من الملك الراحل عبدالله “بالغ السلبية”.
وفي وثيقة تعود إلى 24 يناير/كانون الثاني 2007، يتبين أن بن زايد قال لمساعد وزير الخارجية الأمريكية نيكولاس بيرنز: “عندما زرتُ السعودية التقيتُ بقادة تتراوح أعمارهم بين 80 و85 سنة، وهؤلاء لم يسمعوا بالإنترنت إلا بعد أن جاوزوا السبعين عاماً، هناك فجوة كبيرة في السعودية”.
وحسب وثيقة أخرى تعود إلى 16 يونيو/حزيران 2004، فإن حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، قال للجنرال جون أبي زيد، قائد القوات الأمريكية في العراق، آنذاك، خلال اجتماع في أبوظبي: “نحن -أنا وبن زايد- عندما ننظر إلى أكثر من 100 كيلومتر أمامنا فإن القيادة السعودية لا تنظر لأكثر من كيلومترين فقط”.
خلاف حدودي قديم
يمكن القول إن الخلاف بين البلدين قديم قدم نشأة السعودية، فحين بدأت المملكة تضع حدودها من قبل مؤسسها عبدالعزيز آل سعود، فإنه تمدد تجاه أراضي الإمارات وقطر وعمان، فنشأ الخلاف.
أصل الخلاف كان واحة البريمي، وحُل الخلاف بأن أخذت الإمارات 6 قرى منها، ومُنحت سلطنة عمان 3 قرى.
أما السعودية، فقد أجبرت الإمارات عام 1974 بتوقيع اتفاقية جدة، وبموجب تلك الاتفاقية اعترفت السعودية بالإمارات كدولة، وفي المقابل حصلت المملكة على مجموعة من الأراضي الغنية بالنفط في الحدود بين البلدين.
فمثلًا حصلت على ساحل بطول 50 كيلو مترًا يفصل بين قطر والإمارات، وحصلت على حقل “شيبة” الذي يمتد جزء منه لداخل الإمارات، وحصلت على جزيرة الحويصات.
وحين استفاقت الإمارات بعد عقود وحاولت تصحيح الأمور، رفضت السعودية، لدرجة أنها منعت دخول الإماراتيين لأراضي المملكة؛ لأن بطاقة الهوية التي يحملونها تُظهر أراضي سعودية باعتبارها إماراتية.
وفي عام 1999 قاطعت الإمارات، بدعم عماني، مؤتمر وزراء الخارجية والنفط لمجلس التعاون في السعودية، لتعلن للمجلس أن الرياض لا تقاسمها عائدات حقل شيبة.
وحين مات مؤسس الإمارات الشيخ زايد آل نهيان، وتولى نجله خليفة، أثار موضوع الاتفاقية مرة أخرى عام 2004، قائلًا إن بلاده اضطرت لتوقيعها في ظرف استثنائي، وإنها اتفاقية ظالمة، لكن الجانب السعودي ردّ بالتمسك بها.
وتوترت العلاقات لاحقًا لدرجة أن السعودية منعت آلاف الشاحنات الإماراتية من دخول أراضيها، وأطلق زورقان إماراتيان النار على زورق سعودي واحتجزوا طاقمه السعودي.
الصراع في اليمن
وعلى الرغم من عدم خروج الخلاف بين السعودية والإمارات في اليمن إلى العلن بصورة رسمية، إلا أنه قد يكون الخلاف الأكثر حدة بين الجانبين، ويتجسد في تباين وجهات النظر حول مسار الحرب.
فالإمارات والسعودية تشكلان ما تبقى من “التحالف العربي”، والذي تشكّل بعد انقلاب الحوثيين في صنعاء في 2015.
إلا أن الخلاف واضحًا منذ الأشهر الأولى لهذا التحالف، فأبوظبي تضع ضمن أهدافها محاربة حزب “الإصلاح”، الذراع السياسية لجماعة الإخوان، والرياض تستضيف قيادات الحزب وتتعاون مع أذرعه العسكرية.
وفي عام 2017، وبإيعاز من السعودية، أصدر الرئيس اليمني السابق عبدربه منصور هادي، قرارًا بإقالة عيدروس الزبيدي محافظ عدن، رغم كونه من أبرز وأهم القيادات الجنوبية الموالية للإمارات.
بهذا الوقت، تضاربت مصالح البلدين في اليمن بشكل جلي، فأصبح كل منهما يدعم طرفاً لصالحه، إذ تدعم الإمارات المجلس الانتقالي الانفصالي في جنوب اليمن، وتطالِب السعودية بعودة الأوضاع في جنوب اليمن إلى سابق عهدها.
عام 2019، شكّل إعلان الإمارات عن تخفيض وانسحاب بعض قوّاتها في اليمن، نقطةَ خلاف جديد في الملف اليمني.
المصالحة مع قطر
كما كانت قمة العلا التي عُقدت في 5 يناير/كانون الثاني 2021، مؤشراً آخر على الخلاف، إذ غاب بن زايد عن القمة التي استضافها بن سلمان جنباً إلى جنب مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد.
وجاءت المصالحة مع قطر بعد 3 سنوات من القطيعة، من الرياض، على عكس رغبة أبوظبي التي ظلت لفترة تشن حملات عدائية ضد الدوحة، بينما تحظى العلاقة بين الرياض والدوحة بقدر أخف من العدائية، وبقدر أعلى من الاستقرار مقارنة مع سنوات الحصار.
فعلى الرغم من أن الإمارات كانت تتحكم بمواقف دول الحصار الثلاثة الأخرى (السعودية، البحرين، مصر) تجاه قطر، إلا أن المملكة عقب القمة بدأت تقارُبًا مع الدوحة، أشعر الإمارات بالقلق، وفق ما أوضحت صحيفة “فاينانشال تايمز”.
كما تعتبر الصحيفة أن عودة قطر إلى سابق عهدها في العلاقة مع السعودية ستُخسرها الكثير من نقاط القوة، وخصوصًا في التحالفات والاتفاقات الاقتصادية، وأيضًا في الدور السياسي في المنطقة، الذي يمكن أن تؤديه الدوحة في تقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران أو أنقرة، وهذا كله على حساب الدور الإماراتي الذي يبدو أنه يتراجع، خصوصًا بعد خطوة التطبيع الأخيرة مع إسرائيل.
معركة الاستثمارات
واحتدت المنافسة بين البلدين خلال الأعوام الماضية في جذب استثمارات الشركات الأجنبية الكبيرة، وبخاصة التي تملك مقراً إقليميا في منطقة الشرق الأوسط، حيث تسعى السعودية، لإعادة تنشيط خطتها الاقتصادية لرؤية 2030، الهادفة لتنويع اقتصادها المعتمد على النفط.
في الوقت نفسه، تسعى الإمارات إلى تسريع وتيرة دفعها لبناء قطاع التكنولوجيا لديها والابتعاد عن الصناعات المتباطئة مثل العقارات والبناء.
بظل حالة من التنافس المستعر بين الطرفين، أعلنت السعودية منتصف فبراير/شباط 2021، نيتها إيقاف التعاقد مع أي شركة أو مؤسسة تجارية أجنبية لها مقر إقليمي في المنطقة خارج المملكة، بدءاً من مطلع العام 2024.
صاحَب تلك القرارات العديد من التسهيلات التي تقدمها المملكة، من بينها إعفاء ضريبي لمدة 50 عاماً، والتنازل عن الحصص المحددة لتوظيف السعوديين -التي أثبتت أنّها عبء على الشركات- وضمانات بالحماية من اللوائح المستقبلية.
أوبك والنفط
الخلاف بين الرياض وأبوظبي كذلك امتد مؤخرا إلى منظمة “أوبك” التي تقودها السعودية، حيث ما زالت الإمارات مضطرة لأن تضخ في السوق أقل بكثير من مدى استطاعتها، وهو ما يضرّ بعائداتها من النفط.
ونقلت وسائل إعلام عن مندوبين في “أوبك” قولهم إن الإمارات تضغط منذ فترة للسماح لها بضخ المزيد من النفط، لكن السعوديين يمانعون.
واندلع خلاف سعودي إماراتي، مطلع يوليو/تموز 2021، وذلك بعد أن أوقفت الإمارات مشروع اتفاق يدعمه أكبر منتجين (السعودية وروسيا) لزيادة إنتاج منظمة “أوبك” مليوني برميل يومياً بحلول نهاية 2021، وتمديد بقية القيود القائمة إلى نهاية 2022.
واصطدم الإماراتيون مع السعوديين في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما قرر تحالف “أوبك+” وهي مجموعة تضم 13 دولة تضم أوبك و10 دول أخرى، بما في ذلك روسيا، خفض إنتاج النفط بشكل كبير لدعم أسعار الخام.
في العلن، أبدت الإمارات دعم خفض الإنتاج، لكن المسؤولين الأمريكيين قالوا إن الإماراتيين أخبروهم سرا أنهم يريدون ضخ المزيد تماشيا مع رغبات واشنطن، لكنهم (الإماراتيون) واجهوا مقاومة من السعودية.
مؤتمر غروزني
كما تسبب مؤتمر غروزني الذي عقد في أغسطس/آب 2016، بدعم من قبل بن زايد، لإعادة تعريف “أهل السنة والجماعة”، في موجة كبيرة من السخط والجدل، من السعودية وحلفائها على الجهات المنظمة والمشاركة في هذا المؤتمر، وعلى رأسها شيخ الأزهر أحمد الطيب وعلماء دين آخرون من دول إسلامية وعربية.
الهجوم السعودي على المؤتمر جاء بسبب بيانه الختامي، الذي اعتبر أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، مستثنياً السلفية والوهابية، الأمر الذي اعتُبر مؤشراً على نوع جديد من محاولات الإقصاء للسعودية.
وفي دليل على محاولة الإمارات إقصاء السعودية من حضور المؤتمر، تم تجاهل علماء الفكر السلفي من الحضور، ولم يتم تقديم دعوات للمشاركة فيه إلا لأحد دعاة السعودية المغمورين.
توتّرت حينها العلاقة بين الرياض وأبوظبي بشكل كبير، وعبرت السعودية عن غضبها منه، وهاجم كتّابها وشيوخها المؤتمر وداعميه، وردّت المملكة على المؤتمر بمؤتمر آخر سُمّي بـ”مؤتمر منى”، الذي عقد في مدينة مكة المكرمة، محذراً من أي تكتل “يفرق المسلمين”.