نادرا ما يعترف الدبلوماسيون بالفشل، لكن هذا هو بالضبط ما فعله وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان”.. هكذا سلطت مجلة “إيكونوميست” البريطانية الضوء على مؤشرات التحول في موقف الرياض من نظام الرئيس السوري بشار الأسد، مشيرة إلى تصريحات أدلى بها بن فرحان بمؤتمر ميونخ للأمن في 18 فبراير/شباط الجاري.
وذكرت المجلة، في تقرير ترجمه “الخليج الجديد”، أن بن فرحان، رد على سؤال حول شائعات مفادها أن المملكة قد تغير موقفها من نظام الأسد، بالتلميح إلى أن عزلة الرئيس السوري تقترب من نهايتها، قائلا: “هناك إجماع متزايد على أن الوضع الراهن غير قابل للتطبيق”.
وأورد التقرير أن السعودية أنفقت، على مدى العقد الماضي، عشرات المليارات من الدولارات للإطاحة بنظامين معاديين، هما نظام الأسد في سوريا، ونظام الحوثيين في اليمن، لكنها على وشك الاعتراف الرسمي بفشل المحاولتين في الأشهر المقبلة.
ولا يعود هذا التحول إلى تقارب بين السعوديين وخصومهم، بل إلى تصور مفاده أن المملكة، مثل بعض جيرانها الخليجيين، أصبحت ترى بشكل متزايد أن بقية العالم العربي “مصدر إزعاج ممل”.
كان السعوديون من أوائل المؤيدين للانتفاضة ضد الأسد، وبدأوا في إرسال الأسلحة والأموال إلى المعارضين السوريين عام 2012.
وحتى بعد انتصار الأسد رفض السعوديون إعادة العلاقات معه، أو السماح له باستئناف دوره في جامعة الدول العربية، التي تم تعليق عضوية سوريا فيها عام 2011.
لكن السعوديين لم يعودوا مصرين على ذلك، وهو ما عبر عنه بن فرحان في مؤتمر ميونيخ مشيرا إلى أن ما يقوله دبلوماسيون خليجيون آخرون على انفراد هو أنه “لم يعد هناك أي طريق واضح لإزاحة الأسد”.
وأضاف قائلا: “لدينا جميعًا سياسات، لكن ليس لدينا أي استراتيجية لتنفيذ تلك السياسة (..) لا يوجد طريق نحو تحقيق الأهداف القصوى”.
وإزاء ذلك، يعتقد دبلوماسيون أن السعودية يمكن أن تعلن عن تقارب مع سوريا في قمة جامعة الدول العربية المقبلة، والتي عادة ما تُعقد في مارس/آذار.
أما في اليمن، فالتغيير المتوقع في سياسة السعودية أكبر بكثير، حسبما تشير إليه المجلة البريطانية، لافتة إلى أن البلد المجاور للمملكة في حالة اضطراب منذ انتفاضة 2011 ضد علي عبدالله صالح، ديكتاتوره القديم، وأثبت بديله عبدربه منصور هادي، عدم قدرته على الحفاظ على تماسك الوطن، ما ترك فراغًا، ملأه الحوثيون.
ففي أواخر عام 2014، سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء، ثم الحديدة، الميناء الرئيسي على البحر الأحمر، وبحلول مارس/آذار 2015 وصلوا إلى مدينة عدن الجنوبية، وهرب “هادي” على متن قارب.
ودفع ذلك السعوديين للتدخل على رأس تحالف عربي، لتستمر عملية “عاصفة الحزم” العسكرية 8 سنوات غير حاسمة، وأغرقت اليمن في أزمة إنسانية، إذ يُقدر أن 19 مليون يمني بحاجة إلى مساعدات غذائية للبقاء على قيد الحياة؛ وأن ثلاثة أرباع اليمنيين يعيشون تحت خط الفقر.
كانت الحرب مكلفة للسعوديين أيضًا، إذ أنفقت المملكة عشرات المليارات من الدولارات، وتشير بعض التقديرات إلى أن كلفة الحرب في الفترات الأشد قتالا تصل إلى مليار دولار في الأسبوع.
ولذا يتفاوض السعوديون حاليا على صفقة تسمح لهم بالانسحاب من اليمن، ربما يتم توقيعها في الأشهر المقبلة، وربما في مدينة مكة المكرمة قرب عطلة رمضان، التي تبدأ هذا العام في أواخر مارس/آذار.
الصفقة لن تزيل الحوثيين من السلطة ولن تنهي الحرب الأهلية، لكنها ستمنح السعودية تأكيدات بأن الحوثيين سيتوقفون عن الهجوم بالطائرات المسيرة والصواريخ عبر الحدود.
وتنقل “إيكونوميست” عن أحد المراقبين اليمنيين المحبطين وصفه لهكذا صفقة بقوله: “إنها تمنح الحوثيين أكثر مما كانوا يتصورون”.
وتشير المجلة البريطانية، في هذا الصدد، إلى أن الدبلوماسيين الخليجيين يعبرون الآن عن أولويات سياستهم الخارجية للسنوات القادمة بالإشارة إلى العلاقات الاقتصادية مع الدول النامية، وتوحيد الجهود من أجل محاربة تغير المناخ، ولا يفضلون الحديث عن جيرانهم العرب، وإذا فعلوا فإنهم يصفون المنطقة بأنها “عبء”.
وبسبب إحباطهم من الفساد المستشري في لبنان، قطع السعوديون الأموال عن عملائهم التقليديين، ويترددون في ضخ المزيد من الأموال في مصر، التي تكافح الآن خلال الانهيار الاقتصادي الثاني لها منذ عام 2016.
ولذا فإن استعادة العلاقات مع الأسد لا تعني أن السعوديين سيضخون الأموال لإعادة بناء سوريا المدمرة، كما أن إنهاء حربهم في اليمن لا يعني أنهم سيبذلون الكثير لتمويل جهود إعادة الإعمار، والتي يقدر البنك الدولي كلفتها بنحو 25 مليار دولار.
فالعديد من المسؤولين السعوديين يسمون الحقبة القادمة بأنها عصر “السعودية أولاً”، أي عصر إنفاق الأموال في الداخل وتقليص تشابكات السياسة الخارجية، خاصة تلك الفاشلة.