لا تتوقف المملكة العربية السعودية عن تلقي الضربات وتجرّع الإهانات، جرّاء القيادة الرعناء لولي العهد، والحاكم الفعلي للبلاد، محمد بن سلمان. مشكلات السعودية كثيرة ومتعددة المستويات.
منها ما هو داخلي، كالانقسام الحاد داخل الأسرة الحاكمة، وإعادة اعتقال أمراء كبار من آل سعود، والبطش بالناس والاعتداء على القبائل وأراضيها.
ومنها ما هو خارجي، كما في استمرار تورّط السعودية في اليمن، والذي دخل عامه السادس، دون أن تتمكّن من هزيمة الحوثيين، بل وانكشاف عمقها أمام هجماتهم القاتلة.
أبعد من ذلك، تجد الرياض نفسها رهينة لدى “حليفها” الإماراتي المشاكس، والذي يخلق لها المشكلات في جنوبي اليمن، وتحديداً في عدن، أين المقر المفترض لـ”الحكومة الشرعية” المدعومة منها.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فإن المعركة النفطية المدمرة التي خاضتها المملكة مع روسيا بدءا من شهر مارس/ آذار الماضي، وأدّت إلى إغراق الأسواق العالمية بالنفط، وبالتالي تراجع أسعارها بشكل كارثي، خصوصاً في ظل جائحة كورونا، وتراجع مستويات الطلب، ترتب عليها هبوط حاد، في الشهر نفسه، في احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي السعودي إلى أدنى مستوى تصل إليه في تسع سنوات.
كما سجلت المملكة عجزاً قيمته تسعة مليارات دولار في الربع الأول من العام الجاري، في حين تشير التوقعات إلى ارتفاع العجز في الناتج المحلي الإجمالي هذا العام إلى 50 مليار دولار، مقارنة بـ35 مليار دولار العام الماضي.
أضف إلى ذلك أن الرياض اضطرت هذا العام، أيضاً، إلى سحب 27 مليار دولار من أصولها الخارجية، لتنخفض إلى 464 مليار دولار، وهو أقل مستوى لها منذ عام 2011.
ومع أن المملكة، ضمن مجموعة “أوبك”، توصلا إلى اتفاق مع روسيا (أوبك +)، منتصف الشهر الماضي، لتخفيض الإنتاج بمقدار 9.7 ملايين برميل يومياً، عامين، والمفترض أن يدخل حيز التنفيذ اليوم (الأول من مايو/ أيار)، إلا أن ذلك لن يعني تعافياً سريعاً في أسعار النفط إلى المستوى الصحي الذي يحتاجه اقتصاد المملكة.
الدليل أن الرياض ستضطر لسحب خمس مليارات أخرى من أصولها الخارجية، ويتوقع أن تطلب قرضاً بقيمة 60 مليار دولار إضافية هذا العام، جرّاء تراجع الإيرادات النفطية جرّاء الجائحة، وتوقف العمرة، وربما الحج، وتداعيات تفشّي عدوى كورونا داخلياً.
المفارقة في هذا السياق، أنه على الرغم من الصورة القاتمة سعودياً، لا يبدو أن ثمَّة بوادر على أن المملكة في وارد إعادة النظر في سلوكها الأرعن، وتصرّفاتها المدمرة، بل هي ماضية في سياساتها الداخلية التأزيمية، وسياساتها الخارجية التصعيدية.
ولأن بن سلمان يبدو عاجزاً عن إدراك الخراب الذي يحدثه إقليمياً ودولياً، فإن هذا استدعى لطمة توبيخ من واشنطن، إذ أطلق أعضاء في الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ الأميركي، الغاضبون من إغراق سوق النفط وتداعيات ذلك على الشركات النفطية المحلية الأميركية، تحذيراتٍ له بأن الولايات المتحدة قد تعيد النظر في العلاقة “التحالفية” بين بلديهما.
ووصل الأمر حداً بالغ الإهانة، في أواخر شهر مارس/ آذار الماضي، وذلك عندما أجرى 13 من الشيوخ الجمهوريين مكالمة هاتفية مع السفيرة السعودية في واشنطن، ريما بنت بندر، هدّدوها فيها، بشكل مباشر، ليس بإعادة النظر في العلاقات الاستراتيجية المشتركة فحسب، بل حتى العمل على تقويضها.
تبعت ذلك مكالمة أخرى مع وزير النفط السعودي، ونجل الملك، عبد العزيز بن سلمان، سمع فيه الرسالة التوبيخية نفسها، وتهديداً بعرض مشروع قانون ينص على سحب جميع القوات الأميركية وأنظمة الدفاع الصاروخية من السعودية، ما لم تقم الرياض بدور بنّاء في إعادة الاستقرار إلى أسواق النفط.
وجرّاء تلك التهديدات، اضطرت السعودية إلى التفاوض مع روسيا، مرغمة، وهو ما أفضى إلى اتفاق منتصف الشهر الماضي (إبريل/ نيسان).
لم تتوقف الإهانات الأميركية للسعودية عند هذا الحد، فاليوم يطالب الشيوخ أنفسهم، والذين ينتمي أغلبهم إلى ولايات تنتج زيتاً صخرياً، بأن تحوّل الرياض مسار عشرين ناقلة نفط بحرية عملاقة، محمّلة بحوالي 40 مليون برميل نفط، متجهة إلى موانئ خليج المكسيك الأميركية.
خشية أن تغرق السوق الأميركية، المتخمة أصلاً، وتنهك صناعة النفط الصخري الأميركي وتكاد تقضي عليها. ويطالب هؤلاء الرئيس، دونالد ترامب، بإلغاء عقود الشراء تلك، والتي وقعت في شهر مارس/ آذار الماضي.
بالنسبة لترامب وأعضاء مجلس الشيوخ المعنيين، يرتبط الأمر بالانتخابات أولاً، إذ إن بعضهم، وترامب نفسه، يواجهون انتخابات صعبة في نوفمبر/ تشرين الثاني في ظل ركود اقتصادي عميق جرّاء جائحة كورونا.
وآخر شيء يريده ترامب، والشيوخ الجمهوريون، هو إضافة قرابة تسعة ملايين أميركي عاملين في قطاع النفط الصخري في ولايات محسوبة عليهم، إلى أكثر من ستة وعشرين مليون أميركي آخر دخلوا دائرة البطالة في الأسابيع الماضية. بمعنى ثمّة تداخل بين السياسة والاقتصاد هنا.
ورغم أن أميركا هي أكبر منتج عالمي للنفط في السنوات الأخيرة، إلا أنها تستورد بنسبٍ كبيرة من الخارج، سواء لناحية نوعية الخام وجودته، أم لناحية أسعاره، إذ إن تكلفة إنتاج النفط الأميركي أعلى من تكلفته في دول “أوبك” وروسيا.
ولأن الحياة الاقتصادية تباطأت إلى حد كبير في العالم كله بسبب وباء كورونا، وتوقفت الطائرات والمصانع والأعمال والحركة، فقد أصبح هناك فائض في النفط الأميركي، ولا يوجد مشتر له.
وجرّاء التنافس السعودي – الروسي الذي أغرق السوق العالمية بالنفط، وتهاوي أسعاره، لم تعد الشركات الأميركية قادرةً على المنافسة داخلياً. وترتب على ذلك أنها لم تعد تستطيع توفير طاقة تخزينية تستوعب نفطها الكاسد، وبالتالي سيكون البحث عن تخزين خارج مخازنها الذاتية مكلفا جدا.
ولذلك حدث الانهيار الفظيع قبل عدة أسابيع، عندما هبط سعر برميل النفط الأميركي إلى قرابة – 38 دولاراً. بمعنى أن تكلفة التخلص من النفط، بخسارة، بالنسبة للشركات الأميركية المنتجة كانت أقل من تكلفة تخزينه.
ومع أن الولايات المتحدة تملك مخزوناً استراتيجياً يبلغ قرابة 800 مليون برميل، وتحاول إدارة ترامب تعزيزه بنفط الشركات الأميركية في مسعى إلى مساعدتها، لكن قدرتها محدودة، إذ يرفض ديمقراطيون في الكونغرس دعم تلك الشركات التي بالغت شركات مالية في الاستثمار فيها من دون أفق اقتصادي واضح، وهي مرتبطة إلى حد كبير بالجمهوريين.
هنا لم يبق أمام الجمهوريين، وصدرت إشارات عن ترامب في هذا الصدد، إلا أن يميلوا على “الحيط الواطي”، أي السعودية، مهدّدين إياها بسحب القوات الأميركية، وترك المملكة مكشوفة في مواجهة إيران، وربما تذكير بن سلمان بأن ترامب هو ولي نعمته، وهو من جاء به.
وهكذا، قد تجد الرياض نفسها، قريباً، في حيص بيص، وهناك معلوماتٌ أنها بدأت فعلياً بالبحث عن مشتر آخر للأربعين مليون برميل نفط، وثمَّة معلومات أخرى أنها تتوسل الآن للشركات المالكة للناقلات البحرية الحاملة لنفطها إلى أميركا أن تتحول إلى مخازن طافية له، حتى تجد مشترياً جديداً، لكن تلك الشركات ترفض تجميد ناقلاتها في أعالي البحار.
الشركات النفطية الأميركية جشعة طمّاعة، وترامب انتهازي مُبْتَزٌّ عديم الأخلاق. ولكن لماذا نلومهما، وعندنا في العرب، دولة كالسعودية، رهنت مصيرها لنزوات زعيم جامح، يظن الدنيا مناطحة قرون!؟
منذ يوم ارتقاء بن سلمان سلم السلطة، وترامب يبتزّه ويبتزّ قوت الشعب السعودي. تغرق المملكة في الأزمات، ومع ذلك ما زال الطامح بالمُلك، ولو على أشلاء بلاده، يثير الفساد والقلاقل فيها، وفي الإقليم كله، كما في اليمن وسورية وليبيا والسودان.
مقابل المملكة هناك إيران المحاصرة التي تنافسها في تبديد أرصدتها المتآكلة، وقوت شعبها المتهالك، في سبيل زرع الموت والفوضى في سورية ولبنان والعراق واليمن.
إنه تناطح التيوس عندنا، في حين يترقب الذئب إنهاك بعضها بعضاً.