منذ بداية حرب أوكرانيا، أكد المحللون السياسيون أن انتصار روسيا سيؤدي إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، وإنهاء هيمنة الولايات المتحدة على العالم التي استمرت لأكثر من 3 عقود.

وأشار هؤلاء إلى العلاقات الاقتصادية القوية للسعودية مع الصين وعلاقة ولي العهد الأمير “محمد بن سلمان” الوثيقة مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” كدليل على التوجه فعليا إلى نظام متعدد الأقطاب، تنهي فيه الرياض اعتماداها الحصري على واشنطن وتقترب من المعسكر الصيني الروسي.

لكن من المشكوك فيه أن تفوز روسيا بانتصار تام، بالنظر إلى المقاومة الأوكرانية والدعم العسكري الأمريكي الهائل لكييف.

ولكن بغض النظر عن كيفية انتهاء الحرب، فمن غير المرجح أن يتطور مثل هذا النظام العالمي في الوقت الراهن. وبالرغم من العلاقات المتوترة بين السعودية والولايات المتحدة في بعض الأحيان، فمن غير المرجح أن ينفصل البلدان عن بعضهما البعض.

 

علاقات معقدة

ومنذ خمسينيات القرن الماضي، ظهرت التوترات بين السعودية والولايات المتحدة في عدة مناسبات.

ورفضت واشنطن مساعدة الرياض في النزاع على واحة البريمي. واعترفت إدارة الرئيس “جون كينيدي” بجمهورية اليمن عندما أطاح انقلاب عام 1962 بالنظام الملكي، بدلاً من دعم التمرد المرتبط بالسعودية هناك.

كما أن واشنطن فشلت في الدفاع عن المملكة عندما قصفت الطائرات المصرية قرى حدودية سعودية.

وقطعت السعودية إمدادات النفط عن الغرب عند اندلاع حرب الأيام الستة عام 1967 وفي حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973.

ومع ذلك، نجح البلدان دائمًا في تسوية خلافاتهما.

واليوم، تشهد علاقتهما فتورا مرة أخرى. وتشعر السعودية بالإحباط من الولايات المتحدة لاتهامها الرياض مرارًا بانتهاك حقوق الإنسان، وعدم الوفاء بالتزاماتها الأمنية، ومحاولة فرض رأيها على إنتاج النفط وفقا للمصلحة الأمريكية حتى لو على حساب السعودية.

وفي الماضي، تعامل البلدان مع خلافاتهما خلف الأبواب المغلقة في الغالب. ومع ذلك، أدى انتقاد “جو بايدن” الصارخ للقيادة السعودية خلال حملته الرئاسية إلى مزيد من الخلاف العام عندما تولى “بايدن” منصبه.

على سبيل المثال، أعربت الرياض عن اهتمامها بالانضمام إلى مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، معتقدة أن هذا قد يخفف من الضغط الأمريكي على الرياض لتغيير سلوكها.

وفشلت زيارة “بايدن” إلى السعودية في يوليو/تموز الماضي في تخفيف حدة التوتر.

وقال إن الولايات المتحدة لن تتخلى عن الشرق الأوسط لصالح الصين وروسيا وإيران، لكن في اجتماعه مع ولي العهد، ضغط “بايدن” مرة أخرى بشأن تورط السعودية في حرب اليمن وقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي”.

 

دخول الصين على الخط

بعد 5 أشهر من زيارة “بايدن”، قام الرئيس الصيني “شي جين بينج” بزيارته الثانية إلى السعودية خلال 6 سنوات. وليس للصين مصالح سياسية أو أمنية في الشرق الأوسط، لذا فإن انتشارها هناك يركز على التجارة.

وفي عام 2021، صدّرت الصين بضائع إلى دول مجلس التعاون الخليجي تجاوزت قيمتها 87 مليار دولار. وبلغت الصادرات إلى السعودية 30 مليار دولار.

لكن بالنسبة لبكين، لا تقارن التجارة مع الشرق الأوسط، وكذلك روسيا، بعلاقتها مع الولايات المتحدة.

ووصلت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة واليابان في عام 2021 إلى 577 مليار دولار و 166 مليار دولار على التوالي.

وفي نفس العام، استوردت روسيا ما قيمته 68 مليار دولار من البضائع من الصين. لذلك من غير المعقول أن تتخلى بكين عن تجارتها مع واشنطن، أو أوروبا الغربية، لصالح الشرق الأوسط وروسيا.

ولم تعرب الصين عن دعمها للغزو الروسي لأوكرانيا وكانت تفضل الإبقاء على الوضع الراهن فهي لا تريد أن ترى القوة الروسية تتعزز أو تضعف، لأن الضعف الروسي سيؤثر سلبًا على مكانة الصين في مواجهة الولايات المتحدة،

والقوة الروسية ستزيد من استقطاب النظام العالمي، وتزعزع استقرار طرق التجارة البحرية وتعيد إحياء التوترات الروسية الصينية.

ولا تزال الصين اقتصادًا صاعدًا، وتطمح إلى توسيع التعاون الاقتصادي مع جميع دول العالم، خاصة أن مبادرة الحزام والطريق الطموحة فقدت زخمها، وتم استبدالها بخطة بكين الجديدة، “مبادرة التنمية العالمية”، التي تتقاطع مع رغبة السعودية في التركيز على التنمية المستدامة.

وينظر السعوديون، الذي يكافححون لإنجاح “رؤية 2030″، إلى الصين على أنها مفتاح تحقيق النمو الاقتصادي دون الاعتماد على الهيدروكربونات.

وتريد السعودية تقنيات متقدمة يمكن أن توفرها الصين دون قيود، لأن بكين ليس لها مصالح سياسية أو أمنية في المنطقة. كما أن أنشطتها الاقتصادية لا تمس المصالح الاقتصادية لدول أخرى في المنطقة.

 

تراجع النفوذ الروسي

بالنسبة لموسكو، فقد تضاءلت قيمتها كحليف بسبب أدائها السيئ في أوكرانيا، فقد تحولت الحرب إلى قضية مكلفة لجيشها، ويدرك الكرملين الآن أن أهدافه الأولية المتمثلة في الاستيلاء على كييف وتنصيب حكومة موالية لروسيا لا يمكن تحقيقها.

وتحاول موسكو حاليا تعزيز موقفها التفاوضي من خلال إجراءات مثل تنظيم استفتاءات لضم 4 مناطق شرقية، والتهديد باستخدام الأسلحة النووية، وتصعيد تعبئة قواتها في أوكرانيا.

وتعلمنا الصراعات الكبرى مثل هذا الصراع أن تمجيد الماضي غالبًا ما يكشف عن نقاط ضعف كبيرة يخفيها القادة السياسيون والعسكريون عن الجمهور للحفاظ على الروح المعنوية الجماعية.

ونتيجة النكسات العسكرية الروسية، بدأت الدعاية الروسية تستحضر الأمجاد التاريخية لروسيا والتراث التاريخي القيصري والسوفييتي.

ومع ذلك، فإن التقدم الذي أحرزه الجيش الأوكراني يهدد بتقويض النفوذ الروسي في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى.

وسيكون لخسارة روسيا تداعيات جيوسياسية عميقة، لا سيما على النظام الدولي، حيث سيشدد الغرب الخناق على الصين التي ستجد نفسها في وضع لا تحسد عليه، ما يدفعها إلى إعادة النظر في دورها على الساحة الدولية، كما إن الهزيمة يستؤدي اضطرابات داخل روسيا، بالنظر إلى فشل النخبة الحاكمة في إيجاد مخرج من الأزمة.

لكن لا يمكن احتواء روسيا إلا من خلال كسر التحالف بين موسكو وطهران، والذي يدعم الجناح الروسي الناعم في جنوب القوقاز ويعيق اختراق الولايات المتحدة لهذه المنطقة الغنية بالنفط والغاز.

وقد يؤدي تقسيم التحالف إلى إحياء خط أنابيب الغاز نابوكو، وهو مشروع تمت الموافقة عليه في عام 2009 ويهدف إلى إمداد أوروبا بالغاز الطبيعي من بحر قزوين عبر أذربيجان وتركيا.

وقد أحبطت روسيا الصفقة في عام 2013 من خلال الضغط على أذربيجان وتركمانستان للانسحاب. ومع ذلك، بعد أن قطعت روسيا إمدادات الغاز إلى أوروبا ردًا على العقوبات الغربية، هناك اهتمام متجدد الآن بخط الأنابيب.

تبحث دول الاتحاد الأوروبي عن مصادر بديلة للطاقة لخفض التكاليف والسيطرة على معدلات التضخم المرتفعة بشكل خطير، خاصة في ألمانيا، حيث وصل التضخم إلى أعلى مستوى له منذ أكثر من 70 عامًا.

كما أن نفوذ روسيا في الجمهوريات السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى آخذ في التضاؤل.

وبالرغم من العلاقات الاقتصادية والسياسية الجوهرية مع الكرملين، لم تنحاز دول آسيا الوسطى إلى روسيا في التصويت في الأمم المتحدة لإدانة الحرب في أوكرانيا.

إن عدم تدخل موسكو في المواجهات الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان، وكذلك الاشتباكات الحدودية بين قيرغيزستان وطاجيكستان، يُظهر تراجعها في مجال نفوذها التقليدي بسبب انشغالها بأوكرانيا.

وفي الوقت نفسه، أدت حملة التجنيد التي قامت بها، والتي حشدت ما لا يقل عن 300 ألف مجند للقتال في أوكرانيا إلى ظهور الانقسامات العرقية حيث تم حشد الأقليات بما في ذلك المهاجرين من آسيا الوسطى إلى الخطوط الأمامية.

ومع فشل الكرملين في أوكرانيا، فقد الجيش الروسي مصداقيته، وفقد “بوتين” مكانته كحليف مهم لقادة العالم الآخرين.

وبغض النظر عن النتيجة، فإنها لن تبشر بعالم متعدد الأقطاب. على العكس من ذلك، سيؤدي ذلك إلى تراجع سريع للنفوذ الروسي في أوراسيا.

 

لا بدائل أمام السعودية

كثيرا ما شاب السياسة الخارجية السعودية فترات من المواجهة مع القوى الإقليمية والدولية، لكن عادة ما تبع ذلك مصالحة.

وعملت السعودية باستمرار على تحسين العلاقات مع جيرانها ومع القوى الخارجية بعد كل نكسة. وفي الواقع، تكمن قوة السياسة الخارجية السعودية في قدرتها على الصمود أمام المصالح المتغيرة.

وحتى قبل الحرب العالمية الثانية، اختار مؤسس السعودية الحديثة الملك “عبد العزيز” تماشي المملكة مع القوة العالمية الصاعدة، الولايات المتحدة، على حساب الإمبراطورية البريطانية المتدهورة.

وأخبر مستشاريه أن الولايات المتحدة شريك وبريطانيا صديقة، وأن الشريك له الأسبقية دائمًا على الصديق. وربما يقدّر “بن سلمان” القادة الصينيين والروس كأصدقاء، لكن الولايات المتحدة تظل الشريك الاستراتيجي الأهم لبلاده.

ويمكن أن تساهم الصين في خطط التنمية الاقتصادية للسعودية – والتي لا تعارضها الولايات المتحدة – لكن لا يمكن أن تقدم بكين أو موسكو نفس المزايا الأمنية التي يمكن أن تقدمها واشنطن.

علاوة على ذلك، تعمل كل من الصين وروسيا على توسيع العلاقات مع أكبر منافس للرياض، إيران، في حين أن الولايات المتحدة عازمة على احتواء الأنشطة الإقليمية للجمهورية الإسلامية. لذلك ستستمر السعودية في التحالف مع الولايات المتحدة لسنوات قادمة.