في أكتوبر/تشرين الأول 2017، أطلق ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” مشروع المستقبل الجديد، وأعلن رؤيته التي تحرك التنمية الاقتصادية السعودية في عصر ما بعد النفط.
ويعد المشروع، الذي اكتسب بعد ذلك اسم “نيوم”، فكرة جديدة على السعوديين، فهي بعيدة كل البعد عن فكرة الأمير “محمد الفيصل” عام 1977 لسحب جبل جليدي بوزن 100 مليون طن إلى الصحراء لحل مشكلة نقص المياه.
لكن في حين حطمت الطفرة النفطية أحلام “الفيصل” الجليدية، أقنع انهيار النفط “بن سلمان” بأن مستقبل الرخاء السعودي يكمن في صناعات أخرى، بل حتى في مدينة مستقبلية يعتقد أنها سوف تتكلف 500 مليار دولار.
حالة نيوم
والفكرة وراء المدينة هي تركيز التنمية، وبالتالي تعزيز تراكم الثروة وضمان استدامة النمو، وستضم المدينة مجتمعات متكاملة تتكون من مجموعات اقتصادية مجهزة بمرافق حديثة تقدم الخدمات واللوجستيات، بالإضافة إلى الأحياء السكنية.
ويجادل السعوديون بأن المدن الاقتصادية مثل “نيوم” لها ميزة تنافسية لأنها تجذب رأس المال للاستثمارات الذكية، إلى حد كبير لأنها تتطلب أنظمة رقمية وتكنولوجية متقدمة.
وسيركز المشروع، الذي يغطي أكثر من 26 ألف كيلومتر مربع بالقرب من الأردن ومصر، على الطاقة المتجددة وتحلية المياه والنقل وإنتاج الغذاء وتصنيعه والعلوم التقنية والرقمية والتصنيع المتقدم ووسائل الإعلام والاستجمام.
وكجزء من إطار “رؤية 2030″، تهدف “نيوم” إلى تحويل السعودية إلى نموذج ثقافي يستحق المحاكاة.
ويقوم صندوق الاستثمار العام السعودي، الذي يمتلك المشروع، بتسويقه على أنه إنجاز تكنولوجي حديث للغاية لا يوجد في أي مكان آخر على وجه الأرض.
وتشير الجهود الترويجية أيضا إلى أن 70% من سكان العالم سيتمكنون من الوصول إلى المدينة في أقل من 8 ساعات، وذلك بفضل جسر الملك “سلمان” الذي سيربط “نيوم” بأفريقيا وأوروبا عبر سيناء.
وباعتباره منطقة استثمارية فريدة من نوعها، فإن المشروع معفي من القوانين والأنظمة السعودية، مثل الضرائب والجمارك وقوانين العمل، وبالتالي فهو مصمم لجذب المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر.
ومن المقرر تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع عام 2025، وسيستغرق استكماله من 30 إلى 50 عاما.
لكن مدينة “نيوم” تخلق تحديا بالضرورة بقدر ما هي طموحة، ولدى المملكة أسباب مقنعة للبحث عن مصادر جديدة للإيرادات، وتمثل صادرات النفط 87% من إجمالي الصادرات و70% من الميزانية و46% من الناتج المحلي الإجمالي.
ومن المتوقع أن يقلل ظهور مصادر الطاقة البديلة، مثل السيارات الكهربائية، من الطلب على الهيدروكربونات بشكل كبير بحلول عام 2025.
ومن المتوقع أن تنخفض عائدات النفط بنسبة 33% في عام 2020، و25% في عام 2021. وبالتالي، فإن الاقتصاد عرضة للتقلبات في السوق، وسيظل ذلك قائما طالما تعتمد الممكلة بشكل كبير على النفط.
وحتى الآن، يستمر اتساع عجز الميزانية، ما يؤدي إلى مزيد من الاقتراض ومستويات مفرطة من الديون، وتجاوز عجز الميزانية الأخيرة 100 مليار دولار.
وفقدت المملكة أكثر من ثلث احتياطياتها الأجنبية منذ عام 2014، ووقع أكبر انخفاض في مارس/آذار من هذا العام، بخسارة 24 مليار دولار. ويعاني القطاع العام تخمة في الوظائف، ولا معنى للنفقات العسكرية الضخمة للبلاد، لأنها غير قادرة على الدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية.
ويعد التنويع الاقتصادي أمرا ضروريا؛ لأنه يقلل من العواقب المالية لتقلب الطلب على الهيدروكربونات وأسعار النفط غير المستقرة، وربما تكون المدن الاقتصادية طريقة الرياض لتمكين القطاع الخاص، والحل الذي طال انتظاره لمعضلة التنمية.
وفي الواقع، تعتزم المملكة في “نيوم” تحقيق ما حاولت تحقيقه في 10 خطط سابقة وفشلت فيه، وهو التنمية الاقتصادية.
وبدأت خطة التنمية الخمسية الأولى للرياض، التي تهدف إلى تحويل المملكة إلى دولة رفاهية، عام 1970، وركزت خطط التنمية الثانية والثالثة على بناء البنية التحتية للتنمية الاقتصادية.
ومن الخطة الرابعة إلى التاسعة من خطط التنمية، في الفترة من 1985 إلى 2014، أكدت المملكة على توظيف القوى العاملة والتركيز على تنمية الموارد البشرية.
وواجهت جهود الحكومة مقاومة بسبب التفضيل العام للبحث عن عمل في القطاع العام والنفور من العمالة اليدوية أو الماهرة وأي منصب يتحمل مسؤولية اتخاذ القرارات.
ومهدت خطة التنمية العاشرة، في الفترة من 2015 إلى 2019، الطريق لبدء مشروع “نيوم”، وحددت النية في تحويل المملكة إلى مركز لوجستي دولي، وإطلاق مبادرات اقتصادية كبرى دون المساس بالقيم والمبادئ الإسلامية الأساسية.
وتمشيا مع الطلب العام المتزايد، والضغوط الدولية من أجل التغيير السياسي، شددت الخطة على أهمية المواطنة والانتماء الوطني، وتعزيز مبادئ العدالة والمساواة، وحماية حقوق الإنسان وفقا للشريعة الإسلامية.
وبُنيت الخطة العاشرة على مبادئ الخطط السابقة، أي استكشاف وتطوير فرص التنويع الاقتصادي، والاستثمار في المحاصيل الأقل كثافة في استخدام المياه، وتطوير قطاع صيد الأسماك، وزيادة كفاءة الموارد البشرية، وتفعيل دور المدن الاقتصادية، وعودة رأس المال المهاجر للاستثمار في القطاعات الإنتاجية.
كما أنها مبنية بشكل خاص على الأفكار المقدمة في خطتي التنمية السابعة والثامنة، التي أدركت أن المدن يمكن أن تخلق التنمية الاقتصادية التي تحتاجها الرياض.
ويتجسد ذلك في إنشاء مدينة الملك “عبدالله” الاقتصادية شمال جدة عام 2005 بتكلفة تقدر بنحو 100 مليار دولار.
وتضمن مخطط المشروع بناء ميناء حاويات ووادي صناعي، وكان من المتوقع أنه سيوفر مليون وظيفة، وتركز المدن الاقتصادية الأخرى المخططة في منطقة الحدود الشمالية ومنطقة جيزان على الزراعة وتعليب الطعام والتدريب المهني والتخزين.
واقترحت الحكومة أن تخدم المدن الاقتصادية في مكة والمدينة الحجاج أثناء أداء الشعائر الدينية، مع توفير التسوق الراقي، لكن هذه المدن إما تعثرت أو ضمرت.
الخيال العلمي
وتعد “نيوم” مشروعا عالي التقنية يهدف إلى توفير حلول تقنية قائمة على المعلومات المتقدمة، لكن نجاحه مشكوك فيه في بلد يسجل درجات منخفضة في المؤشرات الرئيسية للاقتصاد القائم على المعرفة.
وانتقد “جمال خاشقجي”، على سبيل المثال، مشاريع “بن سلمان” الضخمة، داعيا إياه إلى إطلاق مشاريع أصغر للفقراء في الرياض وجدة بدلا من المساعي المعقدة التي لا تفيد العمال المحليين، وقد تم قتل “خاشقجي” داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وتخضع المملكة أيضا لرقابة داخلية شديدة للغاية، وتحد من المواد المسموح لمواطنيها بالوصول إليها عبر الإنترنت، وتتأكد من أن تكون الاتصالات بطيئة دائما.
ويعد التدفق الحر وغير المنقطع للمعلومات أمرا حاسما في تطوير التفكير المستقل والنقدي الذي ينظر إليه التعليم السعودي الرسمي اليوم باستخفاف، ولا يمكن أن تزدهر “نيوم” في بيئة قمعية سياسيا ومغلقة ثقافيا.
ثم هناك مشكلة التمويل المزعجة، وأعلن وزير المالية السعودي مؤخرا أن البلاد ستنفذ إجراءات مؤلمة لخفض النفقات العامة، نظرا للانخفاض الكبير في عائدات النفط بسبب جائحة الفيروس التاجي.
وأدى إعلان الوزير إلى انخفاض حاد بأكثر من 7% في سوق الأسهم السعودية، ودفع الركود النفطي غير المسبوق وكالة “موديز” إلى تخفيض نظرة السعودية من مستقرة إلى سلبية.
ومن الصعب أن نتصور أن السعوديين يمكنهم جذب الاستثمارات الأجنبية للمشاركة في “نيوم” في ظل الظروف المالية والاجتماعية والسياسية القائمة، وحتى لو استطاعوا، فإن “نيوم” مثل سراب في الصحراء.
ولا يختلف المشروع بشكل أساسي عن المبادرات المماثلة في الإمارات وقطر، ويعد ميناء جبل علي في دبي وميناء حمد في الدوحة ميناءين عالميين، ولدى البلدين شركات طيران دولية رائدة لا تستطيع “نيوم” التفوق عليها.
وعلى عكس ترويج السعودية لـ “نيوم” كموقع يمتد في 3 قارات، فإن موقعها، المحاط بمساحة شاسعة من الصحراء القاحلة، ليس له قيمة فريدة.
وسوف يشل المشروع الاقتصاد الأردني المتعثر، ويدمر قطاع السياحة، وكذلك المنتجعات المصرية في جنوب سيناء. بعبارة أخرى، يعد مشروع “نيوم” أكثر من لازم بالنسبة للشرق الأوسط، ويتجاوز بكثير ما تحتاجه المنطقة.
وتعد المخاطر المرتبطة بتنفيذ المشروع عالية، ونتائجها غير متوقعة، ويعتبر مخطط “نيوم” غير قابل للاستمرار ويمكن حتى اعتباره كارثيا.
وبالنسبة لإدخال سيارات الأجرة آلية القيادة والروبوتات القادرة على أداء أي مهمة فإنه يبطل الادعاء بأن “نيوم” ستخلق ملايين الوظائف.
وتحتاج المملكة إلى استيراد جميع التقنيات المطلوبة لتحويل “نيوم” إلى حقيقة، وهو أمر مكلف للغاية لجعل المشروع ممكنا، خاصة مع فوائد غير واضحة.
ولا تفيد الخطة السكان المحليين، الذين تجبرهم الحكومة على إخلاء الأراضي اللازمة للمشروع، وفي الآونة الأخيرة، قتلت قوات الأمن أحد سكان قبيلة الحويطات لأنه رفض التخلي عن منزله والانتقال.
باختصار، يعد “نيوم” مجرد مشروع مستوحى من الخيال العلمي، ويبدو أنه متأثر بالمجتمعات المسورة التي بنتها الشركات الأمريكية والبريطانية في المملكة لإبقاء أفرادها غير محتكين بالسكان المحليين.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أمر “بن سلمان” باعتقال مئات من الأمراء ورجال الأعمال السعوديين البارزين بتهم مثل غسل الأموال واختلاس الأموال العامة والفساد.
وأعلن في وقت لاحق عن استرداد 50 مليار دولار لخزائن الدولة، والمساهمة ظاهريا في مشاريع التنمية مثل “نيوم”، وتوقع الحصول على مبلغ مماثلة قبل إغلاق ملف “ريتز كارلتون”.
والآن، توجد القليل من الأدلة على أن “نيوم” تتقدم باستثناء بناء 5 قصور ملكية عملاقة يخدمها مطار خاص و10 منصات لطائرات الهليكوبتر.