يلقي الخلاف النفطي بين السعودية وروسيا الضوء على نهج المملكة طويل الأمد للتحوط في رهاناتها، وهي استراتيجية اكتسبت أهمية إضافية في الوقت الذي يتعامل فيه الخليج مع احتمال أن يتغير الهيكل الأمني في المنطقة بشكل جذري.
وسعت المملكة، على الرغم من التركيز الأساسي على العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة، إلى تقسيم بيضها على عدد من السلال من خلال إقامة علاقات عسكرية واقتصادية أوثق مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومؤخرا مع روسيا والصين.
وجاءت الاستراتيجية السعودية نتيجة تزايد الشكوك حول مصداقية الولايات المتحدة كحليف وضامن أمني، الأمر الذي مكّن الصين من فتح أول مرفق إنتاج دفاعي لها في المملكة لتصنيع الطائرة الصينية بدون طيار من طراز “سي إتش-4” أو “قوس قزح”، وكذلك المعدات المرتبطة بها.
وتشبه الطائرة الصينية طائرة “إم كيو-9” الأمريكية المسلحة التي رفضت واشنطن بيعها للمملكة.
ويأتي استعداد السعودية المفاجئ لتقويض استراتيجيتها التحوطية عبر تحدي رفض روسيا الاستمرار في مواءمة مستويات إنتاجها مع مستويات منظمة البلدان المصدرة للنفط “أوبك” بعد استسلام المملكة للضغوط الأمريكية للحصول على منظومة “ثاد” الدفاعية الصاروخية من شركة “لوكهيد مارتن” الأمريكية بدلا من منظومة “إس-400” الروسية.
وكان الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” قد أجرى آخر محاولة لبيع المنظومة للملكة في سبتمبر/أيلول الماضي، بعد أن فشلت البطاريات الأمريكية من طراز باتريوت في الكشف عن هجمات الطائرات بدون طيار والصواريخ على اثنين من منشآت “أرامكو”، مما أدى إلى تدمير نصف طاقة الإنتاجية للملكة.
وتأتي المفاجأة من قرار “بن سلمان” بمواجهة روسيا من أنه يهدد العلاقات مع القوة الوحيدة التي قدمت خطة أمنية إقليمية كانت ستسمح للمملكة بالتحوط في رهاناتها مع الحفاظ على علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة.
لكن القرار مدفوع بالرغبة في خفض أسعار النفط بشكل حاد في محاولة لإجبار روسيا على تنسيق مستويات إنتاجها مع “أوبك” من جديد بالشكل الذي يضمن ارتفاع الأسعار للمستويات التي تطمح إليها السعودية.
وفي نهاية المطاف، كان اختيار ولي العهد مدفوعا بالعامل الاقتصادي بدلا من الأمني.
وأجبرت أسعار النفط المنخفضة المملكة على الاقتراض من الأسواق المالية الدولية. ويعد سعر 80 دولارا للبرميل هو السعر الذي تحتاجه المملكة لموازنة ميزانيتها. وهو أيضا السعر الذي يحتاجه “بن سلمان” لتمويل خططه الطموحة لتنويع الاقتصاد السعودي.
وقد يكون “بن سلمان” وضع نفسه في زاوية ضيقة حتى لو أثبتت حساباته صحتها بقدرة المملكة على الفوز في حرب الأسعار والإنتاج، وأن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” سيرى في خطوة الانتقال من الحماية الأمنية الأمريكية الأحادية للخليج إلى ترتيب أمني متعدد الأطراف جائزة أهم من أي شيء آخر.
وفي وقت سابق، فشلت السعودية في معالجة مخاوف المستثمرين الأجانب من خضوع اكتتاب “أرامكو” لأهواء ونزوات النخبة الحاكمة في المملكة.
وربما أثبتت حرب الأسعار مع روسيا أسوأ مخاوف المستثمرين بعد استغلال قدرات “أرامكو” وإنتاجها لمساعدة “بن سلمان” في مقامرته.
وقد أثبت ذلك للمستثمرين أن أسوأ مخاوفهم بشأن “أرامكو” كانت حقيقة. وقال مسؤول سعودي مطلع على أعمال “أرامكو” إن خطط الشركة وقراراتها تستند إلى سلوك “بن سلمان” الشخصي الخاطئ.
وقد لا يعاني “بن سلمان” عواقب حرب النفط فقط، لكنه قد يجد صعوبة أكبر في استعادة ثقة المستثمرين.
ومن المحتمل أن تكون النكسة التي تعرضت لها شركات النفط الصخري الأمريكية أيضا مؤقتة (تحتاج إلى سعر مرتفع نسبيا وهو السبب الذي جعل روسيا مستعدة لخوض حرب مع السعودية) كما كان واضحا في عام 2014، عندما ضخت السعودية كميات هائلة من النفط لإخراج المنتجين الأمريكيين من السوق.
وقال “تيلاك دوشي”، أستاذ الطاقة في جامعة سنغافورة الوطنية، إن “حرب أسعار النفط، إلى جانب صدمة الطلب الناجمة عن كوفيد-19 ستضر منتجي النفط في كل مكان”.
وإذا كان قرار ولي العهد مدفوعا باعتبارات محلية، فإن قرار “بوتين” نفس الأمر.
وفوجئ “بوتين” بشراسة رد السعودية على الإلغاء الروسي لاتفاقية “أوبك+”، ما دفع موسكو إلى الدعوة إلى العودة إلى المستويات المتفق عليها في الربع الأول من هذا العام.
لكن ينبغي أن يدرك “بن سلمان” أنه يواجه خصما روسيا قد يثبت أن لديه النفس الأطول.