افتتح السعوديون، الأربعاء، مؤتمرهم السنوي في الرياض، الذي أُطلق عليه رسميا اسم “مبادرة مستقبل الاستثمار”، لكن يُشار إليه على نطاق واسع باسم “دافوس الصحراء”.

ولطالما أزعج هذا اللقب المسؤولين عن المنتدى الاقتصادي العالمي، وحدثه المميز في دافوس بسويسرا؛ لأنهم، مثل كثير من الجهات في العالم، مهتمون بحماية علامتهم التجارية، ولم يرغبوا في الانخراط بأي أنشطة مع السعودية وولي عهدها في السنوات الأخيرة، على خلفية الانتهاكات الحقوقية، خاصة جريمة قتل الصحفي “جمال خاشقجي”.

لكن هذا التوجه يقترب من نهايته، فعلى نحو متزايد، تعود الأمور إلى ما كانت عليه سابقا في الرياض؛ حيث تشارك مجموعة كبيرة من الهيئات والشخصيات، حاليا، في مؤتمر “دافوس الصحراء” لهذا العام، بما يشمل بورصة وول ستريت، وعمالقة الأسهم.

إذ ولت الأيام التي ظل فيها عمالقة المؤسسات المالية في العالم بمنأي عن المملكة؛ خوفا من تكاليف تلطخ سمعتهم جراء الارتباط بولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” المتهم بإعطاء أوامر قتل “خاشقجي” عام 2018، لكن يبدو أن المستثمرين الآن قرروا أن هناك صفقات مع المملكة يتعين عليهم القيام بها.

فهم يراهنون على أن الالتزام المعلن بمحاسبة السعودية من قبل منظمات حقوق الإنسان والصحفيين ونواب أمريكيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي “لن يكون مبالغا فيه”، وقد يكونون على حق.

وفي واشطن، هناك توقع عام بأن السعوديين سيمرون بوقت عصيب مع إدارة “جو بايدن” الجديدة، فخلال الحملة الانتخابية، تعهد “بايدن” ونائبته “كمالا هاريس” بأن يعيدوا تقييم علاقة أمريكا بالمملكة، وإنهاء دعم بلدهم للحرب السعودية في اليمن، والتأكد من أن أمريكا لا تتخلي عن قيمها مقابل بيع الأسلحة أو شراء النفط.

وبعد أن أدى اليمين كرئيس في وقت سابق من هذا الشهر، أوفى “بايدن” بهذا الوعد عندما جمد -مؤقتا على الأقل- مبيعات الأسلحة إلى السعودية، التي أقرها سلفه “دونالد ترامب”.

 

حليف إشكالي

فالسعودية بالنسبة للولايات المتحدة حليف إشكالي، إذ شن ولي عهدها، في السنوات الخمس الماضية، حملة عسكرية عقيمة في اليمن أسفرت عن مقتل وجرح عشرات الآلاف من الأشخاص، وأشرف على فريق اغتيال “خاشقجي”، وعلى عمليات الاعتقال والإساءة بحق الإصلاحيين السعوديين، وقاد حصارا على قطر (الشريك الأمني المهم للولايات المتحدة).

 

وهناك أيضا تساؤلات حول السعودية ودور مواطنيها في هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن.

صحيح أن “بن سلمان” أشرف على إصلاحات اجتماعية مهمة في المملكة أدت إلى تحسين حياة مواطنيه، لكن هذا لا يقلل من الرغبة في تحميل السعوديين المسؤولية عن تجاوزاته العديدة.

لكن قد يكون القيام بذلك أصعب مما يبدو عليه الأمر.

إذ لم تكن هناك فرصة على الإطلاق في أن يشطب مجتمع الأعمال العالمي السعودية من حساباته.

ومن المؤكد أن الرؤساء التنفيذيين ظلوا بعيدا عن المملكة لفترة من الوقت، لكن حتى في ذروة الغضب من جريمة القتل الوحشية لـ”خاشقجي”، بقيت المملكة مكانا هاما يعتقد مجتمع الأعمال أنه يمكنهم كسب المال فيه.

وبما أن هذا كان الشرط الذي لا غنى عنه للممولين والاستشاريين وشركات النفط، اضطر “بن سلمان” إلى قضاء بعض الوقت في “منطقة العقاب”، لكنه لم يُنبد بشكل كامل دوليا.

نعم، يعاني السعوديون من مجموعة واسعة من المشاكل الاقتصادية، وغياب الحكمة بالدخول في مشاريع تفاخر مثل مدينة “نيوم”، لكن لا يزال لديهم أكبر اقتصاد بالشرق الأوسط؛ ما يجعل المملكة شريكا جذابا لأولئك الذين حضروا إلى الرياض للمشاركة في “دافوس الصحراء”.

 

قيود الجغرافيا السياسية

وهناك حجة يجب طرحها وهي أن مجرد رغبة قادة الأعمال في التزاوج مع السعوديين لا يعني أن الحكومة الأمريكية ملزمة بفعل الشيء نفسه. وهذا صحيح إلى حد ما، لكن هذا لا يعني أيضا أن واشنطن ببساطة حرة في أن تفعل ما تشاء؛ فهي تواجه قيود الجغرافيا السياسية.

ففي نفس الوقت الذي كان فيه قادة الصناعة يتصافحون في الرياض، كان الجيش الأمريكي يعزز وجوده في السعودية تحسبا لاندلاع صراع مع إيران.

إذ يرى المخططون العسكريون الأمريكيون المملكة شريكا مهما في سياسة الولايات المتحدة إزاء إيران، والتي تشمل إعادة الانضمام إلى الاتفاق النووي لعام 2015، أو التفاوض على صفقة جديدة.

ولإنجاح أي من الخيارين، ستحتاج إدارة “بايدن” إلى الرياض لدعم الصفقة؛ ما يعني أنه سيتعين على المفاوضين الأمريكيين أن يكونوا حساسين إزاء المخاوف السعودية.

ويرتبط الأمر أيضا بالحرب في اليمن، فالسعوديون عالقون في حرب عقيمة هناك، وهم بحاجة ماسة إلى الخروج، ولا شك أن السعوديين سيحتاجون إلى مساعدة الأمريكيين في هذا الخروج في شكل تعزيز أمن الحدود، والأنظمة الدفاعية.

وإذا أفرجت الاستخبارات الأمريكية عما لديها من معلومات بشأن مقتل “خاشقجي” كما يطالب العديد من النواب الديمقراطيين فقد يؤدي ذلك إلى ضجة دولية، حال تم توجيه اتهام صريح لـ”بن سلمان”؛ ما قد يجبر أولئك الذين يحضرون حاليا “دافوس الصحراء” على البقاء بعيدا عن المملكة لبضع سنوات أو ربما أكثر، لكنهم سيجدون طريق عودتهم إلى المملكة طالما أنهم يحسبون أن القيام بذلك لا يزال مفيدا لأعمالهم.

ويعيب النقاشات في الولايات المتحدة بشأن مساءلة السعودية على قتل “خاشقجي” والانتهاكات الحقوقية الأخرى غياب التقدير للعواقب المحتملة، فمن الضروري تقييم تكاليف وفوائد مثل هذا النهج. فقد يرفض السعوديون العمل مع الولايات المتحدة بشأن اتفاق نووي جديد مع إيران، أو حتى يحاولون تقويض الاتفاق، وقد يتشجع السعوديون على الانجراف أكثر نحو منافسي الولايات المتحدة؛ الصين وروسيا.

وأخيرا، قد لا يهتم صانعو السياسة في الولايات المتحدة بالمخاطر السلبية لمحاسبة السعوديين، إذ لا تزال موارد الطاقة من الخليج العربي مهمة للولايات المتحدة، لكن ليس كما الحال من قبل؛ ما يقلل من الإلحاح المرتبط منذ فترة طويلة بالشرق الأوسط وأهمية العلاقات الوثيقة مع دول مثل السعودية، وبناءً على ذلك قد لا تكون المخاطر عالية؛ ما يمنح فريق “بايدن” مساحة أكبر للمناورة.