“قلة من الأحياء لديهم شراكة أوثق مع أجهزة المخابرات والأمن الأمريكية وأسرار أكثر عن محمد بن سلمان (…)، ومن هؤلاء الدكتور سعد”.. تمثل هذه العبارة من نص الدعوى التي رفعها ضابط المخابرات السعودي السابق “سعد الجبري” أمام القضاء الأمريكي ضد ولي العهد السعودي مربط الفرس في المآلات التي يستشرفها مراقبو شأن المملكة للقضية، خاصة في ظل اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
فبالتعاون الوثيق مع مسؤولين أمريكيين كبار في مشاريع مكافحة الإرهاب أثناء خدمته للحكومة السعودية، أصبح “الجبري” شريكا موثوقا يتم التماس معلوماته واستشاراته قبل اتخاذ قرارات مصيرية بشأن الأمن القومي للولايات المتحدة.
وعبر متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية عن ذلك بقوله إن “سعد الجبري كان شريكا مهما للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، وساعد تعاونه مع الولايات المتحدة في إنقاذ حياة الأمريكيين والسعوديين”، مشيرا إلى أن “العديد من المسؤولين الحكوميين الأمريكيين، الحاليين والسابقين، يعرفون سعد ويحترمونه”.
ويُنسب الفضل لـ”الجبري” في الإشراف على شبكة من المخبرين الذين كشفوا مؤامرة عام 2010 من قبل تنظيم القاعدة؛ تتعلق بإرسال قنابل مخبأة في طائرات شحن أمريكية متجهة إلى شيكاغو؛ ما أدى إلى إنقاذ مئات الأرواح، كما أنه تحول بمرور الوقت إلى “صندوق أسود” لأسرار سعودية غاية في الحساسية.
فإلى أي مدى تصل العلاقة بين قضية “الجبري” وبين نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة تأثرا وتأثيرا؟
صعد هذا السؤال لصدارة اهتمامات مراقبي الشأن الأمريكي خلال الأيام الماضية، وترتبط إجابته بالصورة الأوسع التي تعكسها القضية، وهي معركة القوة التي بدأت عندما أطاح الملك السعودي “سلمان بن عبدالعزيز” بولي العهد السابق “محمد بن نايف” من منصبه عام 2017، ثم وصمه بتهمة إدمان للمخدرات قبل 3 سنوات، وهي المعركة التي لم تنته حتى اليوم؛ إذ يقبع “بن نايف” رهن الإقامة الجبرية.
ولما كان “الجبري” من رجال “بن نايف”، تم عزله من منصبه (بمرتبة وزير)، بعد أن علم “بن سلمان”، بحقيقة لقائه مدير وكالة المخابرات المركزية السابق “جون برينان” مرتين، وإخباره إياه عن مكالمة بين “بن سلمان” والرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بشأن سوريا، طلب فيها الأول من الثاني التدخل عسكريا، رغم موقف السعودية الظاهري بدعم قوات المعارضة السورية المسلحة آنذاك، وفقا لما أورده موقع “ميدل إيست آي” البريطاني.
وغادر “الجبري” السعودية عندما بدأ “بن نايف” حملة ضغط في واشنطن، وأخبرته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بأنه أصبح هدفا؛ إذ حاول السعوديون استدراجه، لكنه رفض، وكان لديهم عملاء يبحثون عنه في الولايات المتحدة، وأرسلوا له فرقة قتل على طريقة اغتيال الكاتب الصحفي السعودي “جمال خاشقجي”.
بل إن “الجبري” بات أكثر خطورة بكثير على ولي العهد السعودي من “خاشقجي”؛ لأنه يعرف كثيرا من الأسرار “المحرجة”، بما في ذلك أن الملك “سلمان” وابنه غمسوا أيديهم في صندوق مكافحة الإرهاب التابع لوزارة الداخلية، وحصلوا على ما يصل إلى عشرات الملايين من الريالات السعودية شهريا.
ويرى مراقبون أن ذلك ما يقف وراء السيناريو الذي روجت له السلطات السعودية حول قصة اختفاء مليارات الدولارات من أموال مكافحة الإرهاب في عهد “الجبري”، وأنه مطلوب إعادته للمملكة لمحاكمته بتهمة الفساد.
وقد أورد “الجبري”، في صحيفة دعواه، أن ولي العهد السعودي هدده عبر “واتساب” في 10 سبتمبر/أيلول 2017 بأنه إن لم يعد إلى المملكة طوعا، فستتم ملاحقته بناءً على اتهامات مزعومة بارتكاب جرائم فساد، وهي الاتهامات التي رفضتها الشرطة الدولية عام 2018 واعتبرتها ذات دوافع سياسية.
ولم يعد لـ”الجبري” ما يخسره بعد احتجاز أولاده بالمملكة؛ ولذا فهو على استعداد لمواجهة النظام السعودي بشكل كامل، ومن هنا تأتي أهمية قضيته وارتباطها بما يمكن أن تسفر عنه انتخابات الرئاسة الأمريكية.
فالمرشح الديمقراطي “جو بايدن” سبق أن صرح بأنه سيعاقب القادة السعوديين على مقتل “خاشقجي”، وسيعمل على إنهاء مبيعات الأسلحة الأمريكية للسعوديين، وسيجعلهم “منبوذين” في حال فوزه بالانتخابات المقبلة. وفي ظل تأرجح العلاقة بين الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) فإن رحيل سيد البيت الأبيض الحالي سيعني استعادة الوكالة لدفة العديد من قرارات السياسة الخارجية للبيت الأبيض، وعلى رأسها العلاقة مع الرياض.
ويشير المحلل السياسي “خالد صفوري” إلى أن المستشارين التابعين لـ”بايدن” لا يتوافقون مع السياسة السعودية في العديد من الملفات؛ ولذا ستكون إدارة “بايدن”، في حال فوزه، أكثر حزما وصرامة مع السعودية من إدارة “ترامب”، وفقا لما نقلته شبكة “الجزيرة”.
وفي السياق، تواتر ثناء عملاء الاستخبارات الأمريكية السابقين، ومنهم “دانيال هوفمان”، على “الجبري” ودعوتهم للانحياز له.
ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن “هوفمان” قوله: “طوال سنوات عملي في وكالة المخابرات المركزية (..) لم أعمل أبدا مع أي مسؤول أجنبي لديه فهم أفضل لمكافحة الإرهاب من الجبري”.
وبدا من مواقف أعضاء الكونجرس أن أغلبهم يميل إلى صف “الجبري” أيضا، خاصة بعدما تدهور رصيد السعودية بمجلس النواب إثر فوز الديمقراطيين بانتخابات التجديد النصفي، وتخلي بعض النواب الجمهوريين عن دعم الرياض بعد فضيحة اغتيال “خاشقجي”.
ويكشف ذلك بوضوح رسائل بعث بها 4 من أعضاء مجلس الشيوخ إلى “ترامب”، في يوليو/تموز الماضي، وصفوا فيها “الجبري” بأنه “حليف وصديق وثيق للولايات المتحدة”، وقالوا إن واشنطن لديها “التزام أخلاقي بفعل ما في وسعها للمساعدة في تأمين حرية أبنائه”.
ولعل ذلك ما يفسر سعي “بن سلمان” الحثيث لإعادة “الجبري” إلى السعودية أو اغتياله على غرار “خاشقجي”، وهو ما أكدته صحيفة الدعوى أمام القضاء الأمريكي، التي أوردت أن عناصر من “النمر”، وهي فرقة عمليات خاصة تابعة لولي العهد السعودي، وصلوا إلى كندا لهذا الغرض وكانوا يحملون معهم حقيبتين من أدوات القتل، واصطحبهم مرشد من نفس الدائرة التي قام مسؤولها بتقطيع جثة “خاشقجي” في قنصلية المملكة بإسطنبول.
وفي السياق، ألمحت قناة “فوكس نيوز” الأمريكية، المقربة من “ترامب”، إلى أن “بن سلمان” يخطط حاليا لـ”إرسال عملاء لدخول كندا برا عبر الولايات المتحدة للقضاء على الجبري نهائياً وإلى الأبد”.
بالمقابل، يفيد مراقبون للشأن الأمريكي بأن “ترامب” يعمل على “تعليق” جميع مطالبات الإدارة السعودية بالتدخل لصالح “بن سلمان” للحصول على أكبر “تمويل” سعودي ممكن خلال الفترة المقبلة.
ويشير “صفوري”، في هذا الصدد، إلى أن “ترامب” يتعمد عدم إعارة قضية “الجبري” أي اهتمام إعلامي حاليا؛ لانشغاله بقضايا تتعلق بمستقبله السياسي مع قرب الانتخابات من جانب، ولأسباب تتعلق بمستقبل علاقته بـ”بن سلمان” حال فوزه بولاية ثانية في البيت الأبيض من جانب آخر.
هذا الأسلوب طالما استخدمه “ترامب” لابتزاز “بن سلمان” عبر وساطة صهره ومستشاره “جاريد كوشنر”، وهو ما صرح به علنا في أكثر من 6 مناسبات إعلامية، مشيرا إلى أن السعودية لم تكن لتبقى لولا “حماية الولايات المتحدة”.
وسبق لـ “ترامب” أن وصف السعودية، في حملته الانتخابية عام 2016، بـ “البقرة الحلوب” في إشارة واضحة إلى نيته اعتصار “ضرع” التمويل الآتي من المملكة حتى آخر قطرة.
وإزاء هذه المعادلة، يضغط “بن سلمان” بورقة نجلي “الجبري” (عمر وسارة) ويستخدمهما كرهينتين، فيما يضغط الأخير بورقة الوثائق الحساسة التي يمتلكها، والتي تشير مصادر مطلعة إلى أن ضابط الاستخبارات السعودي السابق ضمّن محتواها بفيديو أعطى نسخة منه لمقربين كي ينشروها في حال المساس به، وفقا لما نقله “الخليج الجديد” عن مصادره.
ويراهن “بن سلمان” في حسم هكذا صراع على دعم “ترامب” حتى فوزه بولاية ثانية بالبيت الأبيض، وبالتالي استمرار معادلة “صفقات السلاح الخيالية مقابل انحياز الإدارة الأمريكية للرياض”، فيما يراهن “الجبري” على ما يمثله من مركز ثقل لدى مؤسسات الدولة الأمريكية العميقة، لا سيما الاستخبارات.
لكن ماذا لو خسر “بن سلمان” رهانه؟ تنقل وكالة “رويترز” عن مصدرين سعوديين، اشتراطا عدم الكشف عن هويتهما، أن حملة تشنها حسابات مؤيدة لـ”بن سلمان” عبر “تويتر” حاليا تهدف إلى التأثير في الرأي العام قبل الإعلان المتوقع عن اتهامات بالفساد ضد “بن نايف” و”الجبري”.
وقال أحد المصدرين إن مساعدي ولي العهد السعودي “يسرعون الحملة” قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ تحسبا لفقدان “ترامب” منصبه؛ بما يعني أن “بن سلمان” سيكون بموقع من “يدير الخسائر” محاولا الخروج بأقل كلفة ممكنة من انكشاف تفاصيل ما يمتلكه “الجبري” من وثائق ومعلومات.
أما في حال فوز “ترامب” بولاية ثانية، فإن فاتورة الدعم السعودي لصفقات السلاح الأمريكية ستكون باتجاه صعودي على الأرجح، رغم معاناة اقتصاد المملكة منذ انهيار أسعار النفط وتداعيات أزمة وباء كورونا، التي أدت إلى تفاقم مديونية الحكومة السعودية بصورة غير مسبوقة.
ولن يكون لولي العهد السعودي خيار على الأرجح سوى قبول هكذا صفقة مقابل “صمت” ترامب على خزانة أسرار “الجبري”؛ بما يعني أن “بن سلمان” بانتظار خيارين أحلاهما مر.
ولذا يرى الكاتب والمحلل السياسي “محمد الشوك” أن بارقة الأمل الوحيدة للسعودية أمام كلفة المواجهة الصّفرية بين “الجبري” و”بن سلمان” هي إعادة ترتيب البيت من جديد ليتولّى القيادة بها من هو أجدر وأقدر؛ لكي تسترجع المملكة وزنها واتّزانها وتلعب دورها المحوري، مشيرا إلى أنه “لا وجود للمملكة مستقبلا بوجود بن سلمان على عرشها.. هما متضادّان ينفي أحدهما الآخر”.