بقلم/ سعدية مفرح – كاتبة وصحفية وشاعرة كويتية
الليلة التي جمعتنا فيها الشاعرة فوزية أبو خالد حول اسم الشاعر علي الدميني قبل رحيله بأيام قليلة، شعرت أنها ستكون ليلة وداعية. كنت أعرف الظروف الصحية التي يمرّ بها رحمه الله، من خلال تواصلي مع فوزية.
ولهذا تردّدت قليلا قبل المشاركة في تلك الأمسية التي شارك فيها كثيرون من أصدقاء الشاعر وزملائه ومحبيه عبر منصّة زوم من بلدان كثيرة.
وفي النهاية، حسمت أمري على أمل أن تكذّبني الظنون، وأن تكون الليلة احتفاء بشاعر يقاوم المرض ويغلبه، كما فعل دائماً في كلّ مقاوماته الكثيرة في الشعر والحياة.
قرأت في الأمسية التي خيّمت عليها أحزان شفيفة بعضاً من شهادةٍ كنت قد نشرتها سابقاً عن علاقتي به، وكيف بدأت عبر قصيدته “الخبت”، وكيف كان لقاؤنا الأخير مبللاً بدموع الخذلان على زمن عربي بئيس، تُغتال فيه الأمنيات القديمة.
قرأت الشهادة بحضور الجميع وغياب الشاعر، لكن عزائي أنه سبق أن قرأها في الكتاب الذي أصدره نادي المنطقة الشرقية الأدبي في السعودية العام 2015، تكريما له بعنوان “الطريق إلى أبواب القصيدة”.
بعد انتهاء أمسية تطبيق زوم، أرسلت إليّ فوزية أبو خالد رسالة تطلب مني تسجيل الشهادة بصوتي مرة أخرى، بسبب عدم وضوح التسجيل الأول لخلل فني، خصوصا أنهم ينوون نشر الأمسية على منصّة يوتيوب كاملة.
وعدتها بذلك، ثم سألتها عن صحة الدميني، فكتبت لي كلمات تقطر حزنا وتفجّعا، ما جعلني أهون عليها، وأتردّد مجدّدا في تسجيل الكلمة التي فهمت أن أبا عادل لن يسمعها كما كنت أظن.
وتحوّلت ليلة التكريم العابر للدول والقارّات عبر الإنترنت إلى ليلة وداع مبكّر لشاعرٍ كان في طريقه إلى الذهاب الأخير، وأسئلتي المعلقة بقيت بلا أجوبة عن نفع ما نكتب على هامش الرحيل الكبير للراحلين. أما أننا نكتب لأنفسنا، حتى نستعين بالكلمات على مقاومة الشعور باللاجدوى من كل شيءٍ، سيصل إلى نهايته المحتومة دائماً؟
كتبت كثيراً في السنوات الأخيرة عمّن فقدتهم من أهلي وأصدقائي وأحبابي ومعارفي .. حتى أصبح الموت قريباً جداً مني، وصارت شواهد القبور تشير إليّ بأحرف اسمي كلما زرت المقبرة. ومع هذا لم يغادرني شعور المفاجأة الفاجع عند سماع خبر الموت القريب. وهذا الخبر يصل إليّ الآن، حيث رحل أحد أهم شعراء ذاكرتي، وأحد أنبل من عرفت في حياتي كلها.
رحل بعد ترك أثره الكبير الذي يرى ولا يزول كعادته عند كل مفصلٍ من مفاصل حياته، إذ تشظّت كما يليق في دروب النضال الوطني والحقوقي، ومسارات النص الجديد، وهموم الكتابة بكلّ خياراتها المنحازة للتجريب والتجديد.
في كتابه البديع “زمن للسجن .. أزمنة للحرية” سجّل علي الدميني بعضاً من تفاصيل رحلته الشاقّة ما بين السجن والحرية، لأنّه أراد البقاء حرّاً دائماً، حتى خارج أسوار القصيدة.
وربما لهذا رفض أن تكون رحلته منتهية بأي خيار، فعندما أرسل إليّ نسخة من الكتاب، وقال لي بمرحه الحيي: “كتبت عن لقائنا الأول، ابحثي عن اسمك بين الكلمات” قلت له ممتنّة: “يا بختي .. لا أريد من التاريخ أكثر من هذا” فنهرني بغضب حقيقي هذه المرّة، وهو يقول: “المستحيل يستحق الانتظار يا بنت”!
لا أدري إن كان الدميني قد بقي منتظراً للمستحيل حتى آخر أيامه أم لا، لكنّ “الخبت” قصيدته التي طوّفت في سياقات الشعر العربي الحديث كله، احتفظت بقدرتها على توليد الأسئلة المستحيلة:
“لا تقرب الأشجار، غافلني الفؤاد فمسّها، وهبطت
من عالي شيوخ قبيلتي أرعى جراحي
هذا بياض الخبت، أهمزُ مهرتي للبحر
أرسنها إلى قلبي، فتجتاز المسافة
حجرٌ على رمل المسيرة، هودجٌ، حِملٌ،
وأغصانٌ من الرمان، هل تقفز؟”
ومن المثير الآن أن نكتشف، بعد مراجعة محطات الرحلة الشاقّة للدميني في نهاياتها، أنّها كانت دائماً قفزاً مستمرّاً على جمرٍ مستعرٍ تحت رماد أبيض!