برغم التحول “الظاهري” الكبير في منظومة تعامل السعودية معهن، تعاني النساء خلال فترة حكم ولي العهد محمد بن سلمان من أوضاع متناقضة بين مزاعم التمكين مقابل انتهاك حقوقهن.
وترفع السعودية لافتة “تمكين المرأة” الذي لم يتعد رسميا، السماح لها بقيادة السيارات، وربط حقوق الإنسان بالنسبة للنساء بالمساواة في الأجور والصحة والتعليم، دون حقوقهن في حرية الرأي والتعبير.
جاء الحكم القاسي ضد الناشطة السعودية “سلمى شهاب” بالسجن 34 سنة ومنع السفر 34 مثلها (أي عقوبة مدتها 68 سنة) بسبب تغريدات على تويتر، مثال فاضح على هذه الازدواجية أو التناقض بين شعارات “تمكين المرأة” وواقع اعتقال وسجن عشرات النساء.
وقائع التعذيب المروّع التي سبق أن نقلتها صحيفة واشنطن بوست الأميركية في 19 فبراير/شباط 2019، ضد الناشطات في السعودية، لم تردع السلطات، ولا تزال مستمرة، وفق ما روته ناشطات خرجن من السجون ومنظمات حقوقية.
استغربها ناشطون قالوا إن “أبو جهل” في عهد النبي محمد صلي الله عليه وسلم، لم يفعلها لأنه كان يقول “حتى لا تقول العرب أننا نروع نساء محمد”، فكيف يحدث هذا التوحش مع النساء الآن بلا دين ولا قيم ولا عادات ولا قانون ولا رجولة؟ وفق تعبيرهم.
حالة شهاب التي انتقدت منظمات حقوقية عالمية الحُكم عليها بسبب تغريداتها، غريبة لأن هذه العقوبة القاسية هي أطول فترة حكم في حملة القمع التي يشرف عليها ابن سلمان منذ خمس سنوات، وفق ما قال موقع بي بي سي البريطاني في 18 أغسطس/آب 2022.
كانت سلمى شهاب تعمل على إكمال الدكتوراة في المملكة المتحدة، وحين عادت إلى السعودية لزيارة عائلتها استدعيت بعد أسابيع قليلة من زيارتها، ليجري اعتقالها ومحاكمتها لاستخدامها تويتر في التعبير عن آرائها.
تشمل جرائمها المزعومة استخدام موقع ويب “لإثارة الاضطرابات العامة” و”مساعدة أولئك الذين يسعون إلى زعزعة الأمن المدني والوطني من خلال متابعة حساباتهم على تويتر” وإعادة تغريد تغريداتهم.
تطبيق الوشاية
أهمية حالة “شهاب” أن اعتقالها كشف عمليات التصعيد الإلكتروني للجان ابن سلمان والجهات الأمنية لمن يكتب على مواقع التواصل عبر تطبيق “كلنا أمن” الذي يعتبر حقبة جديدة من الوشاية والاستبداد الرقمي والمراقبة الجماعية للسعوديين.
“تطبيق الوشاية السعودي” هذا، كما أسمته صحيفة “الغارديان” البريطانية 17 أغسطس 2022، مكن السلطة من القمع الرقمي للمواطنين السعوديين بما فيهم النساء على المستوى المحلي والدولي.
الغارديان كشفت أن تطبيق “كلنا أمن” هو السبب وراء التبليغ عن شهاب ومن ثم اعتقالها والحكم عليها بعد عودتها إلى السعودية لزيارة أسرتها.
وتُظهر مراجعة تغريدات وتفاعلات الشهاب، طالبة الدكتوراه في جامعة ليدز، أنها تلقت رسالة من شخص يستخدم حسابًا سعوديًا في 15 نوفمبر 2020 بعد أن نشرت تغريدة انتقادية ردًا على منشور حكومي سعودي بشأن عقد نقل عام جديد.
لاحقا، أخبر المستخدم شهاب أنه أبلغ عنها على التطبيق السعودي، المسمى “كلنا آمن” للإبلاغ عن الجرائم الذي أصدرته سلطات النظام على هواتف آبل وأندرويد، وبعد شهرين جرى القبض عليها، وفق تقرير “الغارديان”.
منظمة هيومن رايتس وواتش كشفت أيضا أن “الحكومة السعودية تستخدم بعض المواطنين للمشاركة في مراقبة المنتقدين على الإنترنت، من خلال تطبيق الهاتف السعودي – كلنا أمن- كأداة للإبلاغ عن أي نوع من الانتقادات”.
ذكرت أن الحكومة السعودية “معروفة بقمع المعارضة العامة ولديها سجل مؤكد في محاولة اختراق المنصات التكنولوجية، واستخدام تكنولوجيا مراقبة إلكترونية متقدمة، للتجسس على المعارضين”.
والغريب أن ما أدى لسجن سلمى شهاب في 15 أغسطس 2022 هو أنها انتفضت عبر تويتر بتغريدة دفاعًا عن فلسطين وشعبها ضد التطبيع، فاهتز عرش ابن سلمان الذي يسعى للتطبيع مع إسرائيل وحكم عليها بالسجن 34 سنة.
لفت نظر من أبلغ عنها أن شهاب كانت تضع في حسابها العلم السعودي مع الفلسطيني، كما كتبت تغريدات تدعم حزب الله وتنتقد ضمنا محاربة بلادها (السعودية) لإيران في اليمن، بينما طهران تتصالح مع واشنطن بالاتفاق النووي.
قال: “نظرت إلى حسابك … التقطت صورة وأرسلتها إلى تطبيق (كلنا آمن)، إذا كنت في السعودية، أتمنى أن يتم ترحيلك إلى فلسطين الحبيبة”!.
وتنتمي سلمى شهاب إلى الأقلية الشيعية في السعودية، وتدرس للحصول على درجة الدكتوراة في جامعة ليدز وهي مُحاضرة في جامعة الأميرة نورة في الرياض.
وسبق أن ظهرت على شاشة التلفزيون السعودي في معرض الكتاب بالرياض، وقالت إن القراءة عن التاريخ والدين يمكن أن تساعد في تجميع الفصائل المختلفة في البلاد، ربما في إشارة إلى الانقسام بين السنة والشيعة في المملكة.
ويسمح تطبيق “كلنا أمن” للمواطنين والمغتربين بتقديم تقارير أمنية وجنائية تتعلق بالاعتداءات والتهديدات وانتحال الهوية والابتزاز واختراق حسابات وسائل التواصل والتشهير والاحتيال والجرائم الجنائية الأخرى والتقارير الأمنية.
“إصلاحات” قمعية
وأطلقت وزارة الداخلية السعودية التطبيق في عام 2018، لتمكين المواطنين من الإبلاغ عن انتهاكات الخصوصية على الإنترنت، لكنه عمليا يجعل ابن سلمان يحول الشعب إلى مخبرين وجواسيس، وضعاف نفوس ينزلقون في الوحل الذي أعده لهم.
وقد كشف كبير الباحثين في معهد “سيتزن لاب” الكندي لموقع بي بي سي في 18 أغسطس 2022 عن “قمع رقمي” تعرضت له الناشطة سلمى شهاب.
أوضح أنه جرى اعتقالها بعد أن هددها أحد المتصيدين عبر الإنترنت، وأبلغ السلطات السعودية بتغريداتها من خلال تطبيق “كلنا أمن”.
الحكم على شهاب أطلق موجة جديدة من الانتقادات لنظام ابن سلمان تقارن بين ادعائه تحقيق إصلاحات منها تمكين المرأة وبين الفظائع التي يرتكبها نظامه ضد النساء خصوصا.
صحيفة التايمز البريطانية نشرت في 18 أغسطس تحذر: “لا تنخدع بابن سلمان وادعائه بالإصلاحات”، فهو يدير نظاما قمعيا يصور نفسه على أنه مركز للحداثة، بينما يعامل مواطنيه بوحشية، فقط لأنهم يطالبون بحقوقهم.
ذكرت أن ولي العهد صعد إلى الصدارة بعد الوعد بالإصلاحات، وفي مقابلة تلو الأخرى تعهد بحماية حرية التعبير وكبح استخدام عقوبة الإعدام، لكن أفعاله تظهر هذه الوعود بأن تكون حيلة دعائية خادعة.
صحيفة نيويورك تايمز قالت في 19 أغسطس إن “الغرب يضحك على نفسه حين يردد ما يزعمه ابن سلمان عن حرية المرأة في السعودية”.
أكدت أنه من الصعب على ابن سلمان أن يناقش حرية المرأة بينما تحاكم حكومته النساء والرجال المعارضين على أنهم إرهابيون، ويدعي منحهن حق قيادة السيارة بينا يحبسهن ويعذبهن لأنهن طالبن بحق التعبير.
ذكرت أن “منطق ابن سلمان متناقض، فهو يخشى أن يكون للمرأة سلطة كبيرة، لكن في الوقت نفسه يريد استخدام لافتة تمكينها” وواقع المجتمع السعودي يحجبه سيل من آلة إعلام النظام السعودي الذي يلمع صورته.
حذرت من أنهم “يعتقلون الأشخاص بسبب الحديث فقط، ويدفعونهم للوشاية على بعضهم البعض بدعوى الرقابة الذاتية، حتى أنه لم يعد بإمكان أي صحفي أن يتواصل مع بعض الناس كي لا يتعرضوا للأذى”.
وقالت مجلة نيوزويك الأميركية في 19 أغسطس إن الحكم القاسي ضد سلمى شهاب يظهر أن ابن سلمان بدأ بمضاعفة القمع في ظل الإفلات من العقاب، وهذا الحكم الفظيع قد يكون الأول في نمط جديد من وحشيته.
وفي تقرير آخر نشر في 22 أغسطس، نقلت نيوزويك عن ناشطين سعوديين أن الرئيس الأميركي جو بايدن “شجع حكام المملكة بزيارته للسعودية على تصعيد حملتهم لقمع المعارضين”.
قالوا إن وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان تجرأ خلال زيارة بايدن جدة (في يوليو/تموز 2022) وبرر استهداف المعارضين وأي نوع من المعارضة بأن هؤلاء “إرهابيين”
نقلت “نيوزويك” عن الناشطين “لينا الهذلول” و”عبد الله العودة” تأكيدهم أنهم حذروا من أن زيارة بايدن إلى المملكة ستشجع ولي العهد على تصعيد حملة قمع المعارضة.
وقالت “الهذلول” إن الحكم القاسي على شهاب يظهر بوضوح أن ولي العهد “يشعر بالجرأة ويعرف أنه يستطيع مضاعفة القمع في ظل الإفلات من العقاب”، وحذرت من أن “حكم شهاب الفظيع قد يكون الأول في نمط جديد”.
وبين “العودة” أن قضية شهاب هي “بداية لموجة أكبر وحملات قمع أكثر وحشية”، و”ذنب الضحايا هذه المرة يقع على عاتق أولئك الذين شجعوا محمد بن سلمان وأعطوه كل ما يريد لفعل ذلك: الشرعية والإفلات من العقاب”.
انتقادات حقوقية
وكشف منظمة Freedom Initiative في 19 أغسطس أنه أثناء اعتقال شهاب جرى استجوابها من قبل خمسة ضباط مختلفين، بسبب نشرها على تويتر لدعم الناشطة لجين الهذلول.
وكذلك مشاهدتها للمعارض السعودي عمر بن عبد العزيز على موقع يوتيوب، وهددها الضباط بالعنف، وضايقوها لفظياً، ووجهوا إهانات لوالدتها.
كما واجهت شهاب انتهاكات وتهديدات ومضايقات أثناء الاحتجاز داخل سجون السعودية، وسلطت الضوء على تصاعد حملة ابن سلمان لقمع المعارضة داخل المملكة.
ذكرت أنه خلال المحاكمة قالت المدعية العامة إن الحكم الأصلي الصادر ضدها في البداية (6 سنوات) كان “متساهلاً للغاية”، وأنه يجب الحكم عليها بموجب قوانين الجرائم الإلكترونية ومكافحة الإرهاب في السعودية.
وبناءً على ذلك، حكمت المحكمة الجزائية المتخصصة بسجنها 28 عاماً وفقاً لقانون مكافحة جرائم الإرهاب وتمويله؛ وعاماً واحداً بناءً على قانون الجرائم الإلكترونية؛ و5 سنوات إضافية بناء على تهم ليس لها عقوبة محددة، وبمجموع 34 سنة سجن.
ذكرت أن شهاب قالت للقاضي إنه جرى حبسها في زنزانة انفرادية لمدة 285 يوماً، لإجبارها على الإدلاء بأقوال كاذبة أو الاعتراف بتعاطفها مع جماعة الإخوان المسلمين، وأثناء احتجازها حُرمت من زيارة عائلتها، ومن تمثيل محام لها.
وقالت منظمة العفو الدولية في بيان 18 أغسطس إنه لم يكن ينبغي على السلطات السعودية إدانة سلمى شهاب في المقام الأول.
وأن زيادة عقوبتها من 6 إلى 34 عاماً بعد محاكمة جائرة يُظهر أن السلطات تنوي استخدامها لتكون مثالًا وعبره للمعارضين ضمن حملتها الصارمة على حرية التعبير.
وشددت على أنه: “يجب على السعودية أن تنهي حملتها القمعية التي لا هوادة فيها ضد أي شخص آخر يجرؤ على التعبير عن آرائه بحرية، كما يجب على السلطات الكف عن مساواة حرية التعبير بالإرهاب وتجريم المعارضة”.
وقالت منظمة هيومن رايتس وواتش 19 أغسطس إن “وتيرة القمع في المملكة تزايدت عقب تخفيف العزلة الدبلوماسية عن ابن سلمان، والحكم الفظيع الصادر بحق سلمى شهاب؛ يشير إلى أن السلطات السعودية تعمل الآن بكامل قوتها لسحق المعارضة بكل أشكالها”.
وأكد مكتب حقوق الإنسان في الأمم المتحدة أنه يشعر “بالفزع من الحكم القاسي على شهاب بسبب تغريداتها وإعادة التغريدات حول القضايا السياسية وحقوق الإنسان في السعودية”، ودعا لإلغاء الحكم والإفراج عنها فوراً دون شرط.
وطالبت جامعة ليدز البريطانية التي تدرس فيها الطالبة حكمة المملكة المتحدة بسرعة التدخل لمطالبة السعودية بإطلاق سراح “سلمى”.
ودعت النائب العمالية عن منطقة ليدز سنترال البريطانية “هيلاري بن”، وزيرة الخارجية ليز تروس للتدخل مؤكدة أن المملكة المتحدة لديها “واجب” للضغط من أجل الإفراج عن سلمى شهاب لأنها كانت تعيش في بريطانيا واحتُجزت بالسعودية.
وقالت “بن” في رسالة إلى “تروس”: “كيف تدعي السعودية تحسين حقوق الإنسان وإصلاح البلاد وتحرير المرأة، ثم ترسل امرأة إلى السجن لتعبيرها عن آرائها على تويتر”، بحسب ما نشرت الغارديان في 21 أغسطس.