منذ بدأت عاصفة القمع في السعودية قبل أكثر من سنة، بدأت تطفو على السطح حملات شعبوية تحريضية تُجرِّم ماتعتبره “حياداً”، وتُحرِّض ضد ماتصفه وقوفاً في المنتصف، فعصفت بالمجتمع السعودي ريحٌ مكارثية شديدة الوطأة لم تستثنِ أحداً أو مجموعة إلا نالت منهم بطريقة تخالف قواعد الأخلاق وقواعد السياسة في الوقت نفسه.
وفي ثنايا تلك الحملة، لاحظتُ أن الهامش الذي حقَّقه الناس خلال العقد الماضي من خلال تفاعلهم وضغطهم، بدأ بالضيق والتململ، ولاحظتُ أن أكبر ضحية في تلك الحملات التي تمتد حتى اليوم، هو المجال العام.
المجال العام، هو تلك المساحة التي حفرها الناس بتجربتهم ونشاطاتهم الحرة ونقاشاتهم وتفاعلاتهم مع الناشطين المختلفين في القطاع الديني والثقافي والاقتصادي والسياسي، والأهم في المجال العام أنه ليس مجالاً حكوميّاً بمعنى أنه ليس دائرة حكومية ولا وزارة، وأن الناشطين والفاعلين فيه ليسوا موظفين حكوميين ولا مُعَينين من قِبل جهة معينة تُنصِّبهم متى شاءت وتعزلهم متى أرادت، ولكنهم شريحة واسعة متنوعة من الشعراء والفقهاء والتجار والعلماء والحرفيين. وإذا أراد حاكم أو سياسي أن يتحرش بشخصية فرضت نفسها في المجال العام فإنه يتحرش بالمجال العام نفسه، ويحاول أن يسيطر عليه ويغلق منافذ التنفس الطبيعية فيه.
ولذلك، فإن أهم صفتين تجعلان شكلاً معيناً من أشكال القمع يستهدف المجال العام هما:
أولاً: إلغاء كل الجالسين في المنتصف بين المجال الخاص (البيت مثلاً) وبين المجال الحكومي (الوزارة مثلاً)، وبالتالي إشعال الحرب على كل أحد يريد تأسيس علاقة مباشرة مع المجتمع لاتمر عبر الدولة ولاتتوقف عند البيت.
ثانياً: الاستهداف المتعدد والمحدد أيضاً لمن لايقبل الرضوخ، لأن عدم الرضوخ معناه أن الشخصية التي تقبل التحدي تقف مباشرة أمام السياسي الذي يريد إغلاق هذا المجال العام وتحويله إلى مزرعة شخصية لحاشيته.
في التاريخ الإسلامي القديم، كان نموذج الإمام أحمد بن حنبل فريداً وملهِماً، ليس بسبب شخصية الإمام أحمد الفقهية والعلمية فحسب، بل بسبب موقفه تجاه قضية “خلق القرآن” التي تجاوزت التحدِّي الفقهي والسنِّي لعلم الكلام، إلى صراع بين المجال العام الذي يمثِّله أحمد بن حنبل الذي يريد أن يرفض فكرة “خلق القرآن” في مسجده وحلقته، وبين المأمون الذي يريد استخدام سلطته السياسية لفرض رأيه ومذهبه.
منذ عقود طويلة، وموضوع “محنة الإمام أحمد” يحتلُّ مكاناً مهمّاً ومميزاً في أروقة البحث الحديث.
البحوث الحديثة الاستشراقية والعربية حاولت دراسة المحنة من أوجهٍ مختلفة؛ لأن موضوع “خلق القرآن” له بعد ديني مدرسي خاض فيه المختلفون جدلاً عاليَ الأهمية عند كثير منهم، فبعض الباحثين درسوا المحنة من جهة سياسية واجتماعية لفحص علاقة “الديني بالسياسي”، وبعضهم من جهة أخرى حاول دراسة دور الفقهاء في السياسة والاجتماع (المجال العام).
جاءت دراسات بعض العرب مثل فهمي جدعان ومحمد الجابري بافتراضات مسبقة حول “عقلانية” الاعتزال، ومحاولة تقديم الأقلية الاعتزالية كرواد العقل والفكر الحر والتنوير المبكر في الإسلام؛ لذلك، جاءت هذه الدراسات لتنفي دور الاعتزال في ترسيخ الطغيان السياسي وفرض الرأي الديني وتديين المجتمع بشكل فجٍّ في قضية مُخْتَرعة.
وبشكل منحاز حاولت دراسة جدعان والجابري غسل أيدي الفكر الاعتزالي من دماء أهل الحديث ومحاولة تزويقها، وتقديم الاعتزال كما قدمه بعض المستشرقين من قبلُ كمدرسة عقلانية حرة خارجة عن المألوف وناسفة لكل ما اعتبروه “اتجاهاً جموديّاً نقليّاً تلقينيّاً”.
المعتزلة هنا كأقلية محدودة نخبوية جدّاً ليس لها رصيد شعبي ولاحضور أو دعم عام مقابل الأغلبية الساحقة من مدارس الفقهاء المختلفة، ورغم قلة الإنتاج الذي وصل ونجا من التراث المعتزلي، فإن اهتمام بعض المستشرقين والباحثين بهذا الإنتاج وقراءته ودراسته ومحاولة تقديمه بشكل ترويجي طغى على دراسة الواقع العام للمجتمع الإسلامي بمدارسه المختلفة ومذاهبه المؤثرة وتراثه المتعدد.
وفي ملاحظة صادمة وطريفة في ذات الوقت، يرى إدوارد سعيد أن اهتمام الاستشراق بفكر بعض الأقليات شبه المنقرضة في التاريخ الإسلامي -مثل رواد فكرة وحدة الوجود- هو جزء من محاولة طمس المعالم العامة للفكر الإسلامي والتراث الإسلامي أو التشويش عليه والشغب على مدارسه الأساسية، من خلال التركيز على بعض الشخصيات التي خرجت بشكل فجٍّ عن السياق العام. وإدوارد سعيد يضرب لهذا مثلاً مهمّاً بدراسة ماسينيون الطويلة جدّاً للحلاج؛ إذ يرى فيها محاولة ماكرة من ماسينيون لتجاهل التيار العام في الإسلام وإلغاء الفكرة الأساسية فيه من خلال التركيز على الحلاج.
المهم، حينما نعود إلى قصة المحنة نجد أن المجال الأهم فيها هو دور الإمام أحمد نفسه ودور أتباعه، وهو الشيء الذي لم يأخذ ذات القدر من الاهتمام والبحث على يد بعض المستشرقين إلا مؤخراً جدّاً، ولعل أهم بحث تم تقديمه في هذا السياق هو دراسة “نمرود هيرفيتز” التي كتبها قبل أكثر من عشر سنوات حول المحنة ثم ألَّف فيها كتاباً تُرجم مؤخراً إلى العربية.
فكرة هيرفتز الأساسية تقول بأن الإمام أحمد مارس نضالاً أسَّس فيه لمبدأين أساسيين تقريباً:
الأول: رفض وصاية الدولة دينيّاً على الأمة والعلماء؛ فالأمة تعايشت مع مذاهب ورؤى وعقائد تبنت مدارس مختلفة في الإسلام ما دامت تلك المذاهب لم يتم فرضها على الناس، خصوصاً حينما تستفزُّ التيار العام.
الثاني: ترسيخ -أو ربما تأسيس- المجال العام في المجتمع الإسلامي، ذلك المجال الذي يخوض فيه العلماء والفقهاء والباحثون دون وصاية الدولة ودون سيطرتها ودون رقابتها وشروطها الجاهلة. وهذا يعني أن هؤلاء العلماء لم يكونوا مُعَينين من قِبل السياسي، ولا موظفين لديه، ولا عاكفين عند بلاطه أو سائلين أُعطياته؛ فهم لهم مدارسهم المستقلة وأوقافهم التي تُؤَمِّن لهم -حتى- الاستقلال الاقتصادي عن السياسي.
هذا الطرح، اهتمَّ به أكثر من باحث وقدَّموا دور الإمام أحمد بشكل غير تقليدي تجاوز طرح أكثر الباحثين الحداثيين العرب في العقود السابقة من أحمد أمين إلى فهمي جدعان والجابري.
ضمن دراسة هيرفتز وآخرين، أحمد بن حنبل أسَّس بطريقته الخاصة “مجالًا عامّاً” أصرَّ فيه على استقلال “مؤسسات المجتمع المدني” عن تحكم السياسي، وحاول تأمينها ضد تدخُّل السلطة في التعليم والبحث الديني، ولم يكن يرسِّخ دور الفقهاء السياسي كما يرى بعض الباحثين، ولكنه رسَّخ دور الفقهاء والعلماء في المجال العام كمؤسسات رقابة مستقلة تمارس دورها العلمي خارج وصاية السياسي، وكان ذلك انتصاراً مهمّاً أشار فيه الباحثون إلى عراقة المؤسسات المستقلة عن السياسي في المجتمع الإسلامي ودور العلماء والفقهاء في حماية ذلك الاستقلال الاجتماعي والعلمي والديني، ودور قيمٍ وقواعدَ إسلامية وفقهية في تأمين دور مستمر ومطَّرد للعلماء والفقهاء في المجال العام، حافظ فيه هؤلاء العلماء والفقهاء على دورهم في حماية “الإسلام الشعبي” وحماية القيم الدينية من تدخُّل السياسي.
بالطبع، لن يكون بوسع مقال متواضع مثل هذا الحديث عن بحوث مختلفة حول المحنة والدراسات المختلفة في هذا المجال، ولكن دراسة هيفتز وآخرين تقدِّم قراءة مهمة ومختلفة لدور الإمام أحمد والمحنة، قراءة لم تنحَز -هذه المرَّة- لليد الملطخة بالدماء.