فشلت إدارة “بايدن” في تنفيذ أي من تهديداتها بشأن مساءلة السعودية، ويبدو أنه ليس هناك نية لفرض أي تكاليف على حكومة المملكة. فقد ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأسبوع الماضي أن الإدارة الأمريكية تراجعت عن تهديداتها التي أطلقتها بعد خفض إنتاج “أوبك+” في أكتوبر/تشرين الأول.
وبالفعل، هدأ غضب البيت الأبيض بشأن الخفض بعد فترة وجيزة من انتخابات التجديد النصفي، ومنذ ذلك الحين سارعت الإدارة في تلبية الطلبات السعودية.
مغازلة السعودية رغم قرار “أوبك+”
وصلت الإدارة الأمريكية إلى حد الضغط ضد “قرار سلطات الحرب” الجديد بشأن اليمن، والذي كان من الممكن أن يفرض إنهاء الدعم المتبقي من المخابرات الأمريكية للحرب في اليمن. وقد عملت الإدارة الأمريكية مع المسؤولين السعوديين على منع هذا الإجراء.
وهكذا، ففي عهد “بايدن”، لا تستخدم الولايات المتحدة نفوذها للضغط على السعودية فقط، لكنها تمارس أيضًا ضغطًا على أعضاء الكونجرس لإرضاء السعوديين.
وفيما يبدو بعيدًا عن هدف “إعادة ضبط” العلاقة مع السعودية (المعلن من المسؤولين الأمريكيين سابقا)، فإن الولايات المتحدة تستسلم للضغط السعودي ولا تفعل شيئًا للرد حتى عندما تتصرف حكومتها مباشرة ضد المصالح الأمريكية.
وكانت هناك لحظة في الخريف الماضي بدا فيها الأمر كما لو أن ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” قد أفرط في مناهضة “بايدن” والديمقراطيين في الكونجرس، لدرجة تجعله يدفع الثمن على ذلك.
فقد ناقض خفض إنتاج النفط اتفاقًا سريًا أبرمته الولايات المتحدة والسعودية في وقت سابق من العام، كما أن هذا القرار أفاد روسيا وسط الحرب المستمرة في أوكرانيا، وجاء قبل انتخابات التجديد النصفي مباشرة، لذلك بدا أنه مصمم ليغضب الإدارة الأمريكية وحلفاءها.
وبالرغم من كل ذلك، انتهى الأمر بالإدارة الأمريكية إلى السير في الطريق الأقل تصعيدا. ومن خلال زيارته إلى السعودية في الصيف الماضي، أشار “بايدن” إلى أن الحكومة السعودية يمكن أن تفلت من العقاب، وأكد التراجع في الأشهر القليلة الماضية أن الولايات المتحدة لن تعاقب السعودية أبدًا على أي شيء.
وفيما بدا حدثًا ملائمًا لوقته، أدى تحذير سعودي من هجوم إيراني “وشيك” في نوفمبر/تشرين الثاني إلى زيادة التعاون الأمريكي السعودي في الأسابيع التي تلت النزاع حول تخفيض الإنتاج. وفيما لم يحدث الهجوم مطلقًا، وربما لم يكن ليحدث أصلًا، إلا أن التحذير عمل على صرف انتباه الإدارة الأمريكية عن خلافاتها السابقة مع الحكومة السعودية.
ويتفاخر مسؤولو الإدارة الأمريكية الآن بأن استعراض الولايات المتحدة لقوتها في المنطقة منع الهجوم، وقال “كولن كال” وكيل وزير الدفاع لشؤون السياسات: “نعتقد أن الجمع بين التبادل الاستخباري السريع وإعادة التموضع [للأصول العسكرية] هو ما جعل الإيرانيين يتراجعون”.
وفي حين أن هذا ممكن، فربما هناك تفسير آخر يكمن في أن كلًا من الحكومة السعودية والأمريكية بالغتا في تصوير التهديد المحتمل للمملكة لتحويل الانتباه بعيدًا عن الصدع في العلاقة، وتوجيهه نحو إيران.
رسالة خطيرة
يعد تعميق التعاون العسكري مع السعودية هو الخطأ الذي يجب أن تتجنبه الولايات المتحدة، سواء كان هدف هذا التعاون هو ملف اليمن أو إيران.
وعلى الولايات المتحدة أن تبحث عن طرق لتقليل وإنهاء المساعدة العسكرية التي تقدمها للسعوديين، بما في ذلك مبيعات الأسلحة، حتى لا تعد شريكا في جرائم السعودية، كما إنه ضروري لتصحيح الاستثمار المفرط للموارد الأمريكية في الشرق الأوسط.
ولا ينبغي أن تشرع الولايات المتحدة في “مشاريع عسكرية واستخباراتية جديدة”، وإنما ينبغي عليها بدلاً من ذلك أن تقلص انخراطها العسكري في المنطقة.
ولسوء الحظ، يمكن للحكومة السعودية الآن أن تطمئن إلى أنه ليس لديها ما تخشاه من الكونجرس أو إدارة “بايدن”. وبغض النظر عما قد يقوله أي أحد في واشنطن بشأن انتهاكات الحكومة السعودية وجرائم الحرب التي ترتكبها، فلا توجد أي عواقب عملية أبدًا.
لقد تعلم “بن سلمان” خلال كل من إدارة “ترامب” و”بايدن” أنه يمكنه تجاوز أي رد فعل عنيف لأنه يمكنه الاعتماد على دعم الولايات المتحدة الموثوق بغض النظر عن عدد المعارضين الذين يقتلهم وبغض النظر عن عدد المدنيين الذين تقتلهم قواته ووكلاؤه في اليمن .
ولم تجعل التهديدات الفارغة بالعقاب ولي العهد إلا أكثر تعجرفًا وازدراءً للولايات المتحدة حيث يسارع مسؤولو الولايات المتحدة إلى “طمأنته” في كل مرة يقوض فيها المصالح الأمريكية.
ومن المحتمل أن يجعل هذا ولي العهد أكثر تهورًا في المستقبل، مما يجعل كبح انتهاكاته أكثر صعوبة. وتواجه الولايات المتحدة قيادة سعودية خطيرة وقمعية بشكل متزايد، وتعتقد هذه القيادة أن بإمكانها تجاهل طلبات واشنطن فيما تحصل على الدعم غير المشروط.
وتعد السعودية مثالا رئيسيا على كيفية تسبب السياسة الأمريكية في سلوك أسوأ وأكثر زعزعة للاستقرار، وقد وصف أستاذ العلوم السياسية “باري بوسن” ذلك بـ”القيادة المتهورة”؛ موضحا أن يقين الدول التابعة بدعم الولايات المتحدة يوصلهم لأن يتصرفوا بشكل غير مسؤول وخطير على افتراض أن الولايات المتحدة سوف تنقذهم وتحميهم من عواقب أفعالهم.
وكما أوضح “بوسن” في كتابه “ضبط النفس” فإن “الشعور بالاطمئنان بشأن دعم الولايات المتحدة، تجعلهم لا يبالون بالسياسات التي تلحق الضرر السياسي بالولايات المتحدة، مما قد يتسبب في تكاليف عسكرية حقيقية”.
علاقة مكلفة للغاية
وهكذا فإن العلاقة أحادية الجانب بين الولايات المتحدة والسعودية لا تضر المصالح الأمريكية فحسب، بل إنها تعرض المنطقة المحيطة لخطر أكبر حيث يتم تشجيع الحكومة السعودية على التصرف بشكل أكثر عدوانية.
ربما كانت المعاملة التفضيلية الممنوحة للسعودية أكثر منطقية لو كانت دولة تابعة يُعتمد عليها ومفيدة في تعزيز المصالح الأمريكية، لكن الحكومة السعودية ليست هكذا؛ فهي اعتمادية من الناحية الأمنية وتعتبر عبئًا، وأصبحت الحرب التي تشنها على اليمن منذ ما يقرب من 8 سنوات وصمة عار مزعزعة للاستقرار وورطت الولايات المتحدة في جرائمها.
وأصبحت العلاقة أحادية الاتجاه تقريبًا حيث تتوقع وتطلب الدولة التابعة الحماية والأسلحة والدعم، وتوفر الولايات المتحدة كل ذلك تلقائيًا دون أن تحصل على أي شيء في المقابل.
ولطالما كانت العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية علاقة تبادلية، لكن كثيرا ما كانت تخرج واشنطن خاوية الوفاض ومثقلة بالتزامات إضافية. وعادة ما تسمى المعاملة التي يستفيد منها طرف واحد فقط بالاحتيال، وهذه هي الطريقة التي يجب أن ينظر بها إلى العلاقة مع الرياض.
لم يتوقع أحد أن يجعل “بايدن” السعودية دولة “منبوذة” كما وعد من قبل، لكن تصميمه على التعامل مع السعودية كأن شيئًا لم يحدث كان أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبها خلال العامين الماضيين.
وبسبب هذا الخطأ، أصبح خطاب “بايدن” بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان محط سخرية، مما يهدد مصالح الولايات المتحدة. وسوف تندم إدارة “بايدن” على تفضيلها العودة إلى النهج السابق في الشرق الأوسط مع استمرار الحكومة السعودية في الاستفادة من موقفها المتساهل