العاصفة التي تواجهها السعودية إزاء موقف الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة جو بايدن، المتحفظ على سياساة الرياض إقليميا ومحليا، أتاحت فرصة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإحداث مزيد من التقارب مع ولي عهد السعودية محمد بن سلمان.
ففي الوقت الذي عانى فيه ولي العهد السعودي من أنه “منبوذ دوليا”، منذ اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018، تميزت علاقة ابن سلمان وماكرون حتى في أحلك اللحظات، ما ظهر بشدة في 30 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه.
فعلى هامش قمة مجموعة العشرين التي أقيمت في الأرجنتين، وجد ابن سلمان نفسه معزولا عن جميع القادة والرؤساء، إذ تجنب معظمهم التقاط الصور أو الحديث معه بشكل منفرد، إلا ماكرون الذي تقرب منه، وعقد معه محادثة لنحو 5 دقائق، طمأنه خلالها بأنه سيتعامل مع قضية خاشقجي، بينما اكتفى ولي العهد بالابتسام.
الرئيس الفرنسي، الذي ركز اهتمامه على دعم ابن سلمان، لم يرفع عيناه عن السوق السعودية، ورغبته في توغل الشركات الفرنسية داخل المملكة، والسعي إلى فتح أفق جديد في نطاق التعاون العسكري وبيع الأسلحة الفرنسية للنظام السعودي بأي طريقة ممكنة، حتى لو كان ذلك مخالفا لحقوق الإنسان.
الرياض منبوذة
ماكرون يغازل “الرياض المنبوذة”، هكذا أوردت مجلة “إنتيليجنس أونلاين” الفرنسية المعنية بشؤون الاستخبارات في حديثها عن طبيعة العلاقة بين الجانبين في الآونة الأخيرة.
وذكرت المجلة في تقريرها الصادر يوم 10 مارس/ آذار 2021، أن “الرئيس إيمانويل ماكرون يستعد للقيام برحلة إلى السعودية في منتصف مايو/ أيار القادم، في زيارات تهدف لتمكين فرنسا من تفعيل دبلوماسيتها الاقتصادية”.
وأضافت: “صناعة الدفاع الفرنسية تخطط للاستحواذ على جزء من الحصة السوقية التي وجدت بفضل قرار إدارة بايدن القاضي بوقف توريد المعدات العسكرية اللازمة لدعم جهود الرياض الحربية في اليمن”.
وذكرت أن “حكومة ماكرون تضع عينها على المشاريع السعودية في مجالات المياه، وتدوير النفايات، والإنشاءات، والطاقة النووية”.
وفي 27 يناير/ كانون الثاني 2021، علقت إدارة جو بايدن بيع أسلحة ومقاتلات إف 35 للسعودية. وفي 27 فبراير/ شباط 2021، أكدت مديرة المخابرات الوطنية الأميركية، أفريل هاينز، أن تقرير المخابرات عن تورط ولي العهد السعودي، في مقتل الصحافي جمال خاشقجي سيؤدي إلى تحديات جدية في العلاقة بين البلدين.
وهي النقطة التي يعول عليها ماكرون صاحب العلاقات المتميزة بمحمد بن سلمان في إحداث نقلة نوعية بين الرياض وباريس.
خصوصية العلاقة
بدت العلاقة بين ماكرون وابن سلمان متميزة إلى حد كبير منذ البدايات, ومن ذلك اللقاء التاريخي بينهما في 9 أبريل/ نيسان 2018.
إذ أقام ماكرون حفل عشاء مبهر للأمير، واختار مكانه بعناية شديدة، في بهو متحف اللوفر على الضفاف الشمالية لنهر السين في باريس وسط أكثر من مليون عمل فني ما بين لوحة زيتية وقطعة أثرية. ومن المعروف أن اللوحات والآثار تستهوي الأمير الشاب.
كما حرص الرئيس الفرنسي على أن يكون العشاء منفردا حتى دون حضور المترجمة الرسمية، وذلك للتعبير عن الأهمية التي يوليها للعلاقة الشخصية مع ولي العهد، بحسب البيان الصادر عن قصر الإليزيه.
وكما ساند ماكرون ابن سلمان في النبذ الذي واجهه عقب مقتل خاشقجي، حفظ ولي العهد البادرة للرئيس الفرنسي، ورد الجميل عندما تعرض الأخير لحملة مقاطعة واسعة من العالم الإسلامي بسبب الرسوم المسيئة للدين الإسلامي، والنبي محمد عليه الصلاة والسلام.
وفي 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، نشرت صحيفة لوبينيون الفرنسية أن الرئيس ماكرون تلقى حليفا غير منتظر في الحرب على “الإسلاميين”، بعد حصوله على دعم من الرياض.
وأضافت أن إعلان ذلك الدعم قد تم عبر محمد العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي والمستشار الديني لولي العهد السعودي.
وشهد يوم 14 يوليو/ تموز 2020، إطلاق الرياض نسخة فرنسية من موقعها الإخباري “آراب نيوز” لتحسين صورتها التي شوهت لدى الرأي العام الغربي بسبب قضية اغتيال خاشقجي، ويرتبط ذلك الحدث بالتواصل المستمر بين الإليزيه وقصر الحكم في الرياض.
وقالت صحيفة لوموند الفرنسية إن “محمد بن سلمان اختار تدشين موقع إخباري بلغة موليير ليتزامن مع احتفال فرنسا بيومها الوطني”.
وذكرت أن “هذه الوسيلة الجديدة هي النسخة الرقمية باللغة الفرنسية لموقع الصحيفة الإنجليزية آراب نيوز، التي تمتلكها العائلة الحاكمة بالسعودية، كما أنها بوابة السعودية الجديدة كما يريدها ولي العهد محمد بن سلمان”.
خطط ماكرون
تصدير الأسلحة من أبرز إستراتيجيات ماكرون في علاقته بابن سلمان، ورغم انتهاكات الرياض في حرب اليمن، وقيام بعض الدول مثل ألمانيا بحظر تصدير أسلحتها للمملكة، فإن باريس كانت مختلفة، ففي 9 مايو/ أيار 2019، أعلنت وزارة الدفاع الفرنسية موافقتها على صفقة أسلحة جديدة للسعودية.
وفي نفس العام أشار تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري) أن مبيعات فرنسا من السلاح للسعودية ارتفعت بنسبة 50 بالمئة.
وفي 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أكد موقع “سبوتنيك” الروسي، أن “فرنسا والسعودية تعملان على توقيع اتفاقيات لإبرام صفقات أسلحة”.
وأضاف “بدأت فرنسا إستراتيجية جديدة لتصدير السلاح للسعودية والذي كانت تتولاه شركة (أو.دي.ايه.اس)”، وذكر أن “المملكة أبرمت عقودا ضخمة مع الشركات الفرنسية المتخصصة بتصنيع الأنظمة الدفاعية (داسو – تاليس)”.
ليست الأسلحة وحدها هي من يحكم التعاون بين ماكرون وابن سلمان، فهناك خطط أعمق للتعاون من أبرزها “الوكالة الفرنسية لتطوير محافظة العلا”.
إذ يعمل الجانب الفرنسي على مشروع السياحة الثقافية، تحت قيادة “الهيئة الملكية لمحافظة العلا”، وهو مشروع يعد جزءا من رؤية ولي العهد لإستراتيجية التنمية الاقتصادية، تحت عنوان (رؤية 2030).
وقد وقع مع ماكرون اتفاقية وصفها الإعلام السعودي بالتاريخية في 10 أبريل/ نيسان 2018، أسندت بموجبها تطوير المحافظة للوكالة الفرنسية. وبحسب الإعلام الفرنسي فإن زيارة الموقع القديم للعلا ستكون إحدى المعالم البارزة في رحلة ماكرون إلى المملكة خلال شهر مايو/ أيار 2021.
وسيطلب من ابن سلمان، مساعدة الشركات الفرنسية، أمثال “أكور” و”إيجيس” و”فيراندي”، في الفوز بالعقود السعودية المتعلقة بالمشروع.
ويذكر أن “الوكالة الفرنسية لتطوير محافظة العلا”، تقع تحت رئاسة الفرنسي جيرار ميستراليت، بينما تتولى شركة العلاقات العامة الفرنسية “هافاس” مسؤولية الاتصالات للوكالة.
وقد عملت آن صوفي براديلي، مستشارة ماكرون لشؤون الاتصالات الدولية، سابقا على عقد “الوكالة الفرنسية لتطوير محافظة العلا”.
وبحسب ما نشر موقع ميديا بارت الإخباري الفرنسي، في 10 مارس/ آذار 2021، تتكون لجنة إدارة “الوكالة الفرنسية لتطوير محافظة العلا” من كبار الموظفين الحكوميين الفرنسيين، بمن في ذلك كريستوف فارنو، الرئيس الحالي لدائرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بوزارة الخارجية الفرنسية، وكريستوف بوريس، نائب مدير الشؤون المالية متعددة الأطراف في وزارة المالية الفرنسية.
وهي من أبرز دلائل التعاون بين ماكرون وابن سلمان، الذي أعطى الفرنسيين حقيبة امتيازات واسعة كمكافأة على حسن تعاون رئيسهم مع الأمير الشاب في طموحاته الجامحة بداية من حكم المملكة وصولا إلى لعب دور عالمي وإقليمي بارز.