عبد الإله الحازمي
خاص: روى البخاري في صحيحه عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: (اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم). سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
هذا المدخل ليس احتجاجاً بالقدر على الواقع المؤلم لبيئات العمل المختلطة الذي أعيشه وإخواني الشباب اليوم، وإنما هو تذكير بحقيقة أكدتها نصوص الشارع الحكيم، وهو كذلك عزاء لي ولإخواني الشباب في بيئات العمل المختلطة التي لا يستطيع كثير منا فيها للتغيير سبيلاً سوى بإنكار القلب، والأهم عندي أنه منطلق لإثارة بحث مسألة خطيرة نعيشها معاشر الشباب ثماني ساعات يومياً دون وجود معالجة جديدة للموقف الشرعي منها في ظل المستجدات العاصفة التي تمر بها بلادنا اليوم !
لن أوجه اللوم في هذه الأسطر لأي أحد، ولذا فما ستقرأه أيها المبارك ليس سوى محاولة لإضاءة شمعات بدلاً من لعن الظلام، كما أنني لن أستسلم إن شاء الله لضعفي وقلة بضاعتي من العلوم الشرعية، وما يقتضيه ذلك من عدم التصدي لهذه النازلة العظيمة، لأنني لن أقرر في هذه الأسطر أحكاماً شرعية جديدة وأنا لا أملك أدوات الاجتهاد، وإنما سأذكر بمسلمات، وأثير تساؤلات، وأحرك أطراف المياه الراكدة وحسب.
كلنا يحس بأن السنوات القريبة الماضية قد تآكلت فيها تدريجياً مسلّمة الفصل بين الجنسين في بيئات العمل الحكومي والأهلي حتى لا تكاد تجد وزارة أو هيئة أو شركة تعتمد تخصيص أقساماً مستقلة لكل من الجنسين إلا ما ندر، بعد أن كان الوضع هو العكس تماماً!
وجميعنا أصبح يسمع الآن مصطلحات تمكين المرأة ومساواتها بالرجل في بيئة العمل والأجور وتعزيز حقوقها وبرامج الدعم والرعاية الموجهة لها، بدلاً عما قررته الشريعة من أسس للعلاقة بين الجنسين جاءت اعتباراً لما للذكر من خصائص جسمية ونفسية تختلف عن الأنثى، كما قال ربنا جل وعلا: {وليس الذكر كالأنثى}، وغاب أو غُيّب عنا ما أولاه الشرع المطهر من عناية عالية جداً بتنظيم العلاقة بين الذكور والإناث دلت عليها نصوص شرعية كثيرة، منها قول الله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}، وقوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن}، وقوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب}، وقوله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن}، وقول النبي r: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)، وقوله r: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)، وقوله r: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)، وقوله r في صلاة الجماعة: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، وغيرها من النصوص المقررة لغلق أبواب افتتان الرجال بالنساء، وهي النصوص الشرعية التي كانت مستنداً لواقع بيئات العمل الذي كنا نعيشه قبل سنوات!!
ما مضى ليس من باب شجب الواقع و(الحلطمة)، وإنما هو تذكير لنفسي وللناسي أو الغافل من إخواني الشباب بالمحكمات الشرعية في هذا الباب، ومدخل للحلول الشرعية للتعامل مع هذا الواقع الصعب التي سأوجزها في نقاط ست:
أولها: أن مسؤولية تغيير منكرات بيئات العمل واجب على كل مؤمن، وهذا الواجب أساسه قول النبي r: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وعلينا ألا ننسى أن موقفنا مع هذه المنكرات ليس واحداً في كل مكان وزمان، فقد يواجه الواحد منا منكراً لا يستطيع تغييره إلا بأن ينكره بقلبه، بينما تكون ظروف المنكر الآخر مواتية لإنكار اليد أو اللسان، والله تعالى هو المطلع على القلوب، وهو سبحانه وحده من يعلم صدق من اكتفى بإنكار القلب لمنكر معين وهو قادر على إنكاره باللسان أو اليد، فلنستحضر مراقبته لنا في حياتنا ثم وقوفنا بين يديه يوم القيامة للسؤال، ولنعد للسؤال جواباً وللجواب صواباً.
الثانية: احرص أخي الشاب على اختيار بيئة العمل الأقل إشكالاً في العلاقة بين الجنسين، ولا يكن معيارك الوحيد للإقدام على العمل في جهة ما هو تميز الحوافز الوظيفية لديها فحسب، فأنت مسلم مأمور بالبعد عن فتنة النساء، فإن قلت لمن أترك هذا المكان وأنا أرى في نفسي أهلية لنفع المسلمين من خلاله، أو وجدت في نفسك قوة على مواجهة هذه الواقع، فلا تستقل برأيك المجرد واستفت من تثق بعلمه ودينه في الإقدام على الدخول على هذه الفتنة.
الثالثة: بادروا يا شباب إلى الزواج، فهو أكبر عاصم بإذن الله من الزلل، إذ يؤلمني جداً أن أرى من بين زملائي في العمل الذين أتعرض وإياهم إلى هذه الفتن من لا يزال أعزباً وقد بلغ عمره الثلاثين فضلاً عن الأربعين أو أكثر، فدينك أيها الحبيب هو رأس مالك، وأيامي وأيامك في هذه الدنيا محدودة، فلا تعرض نفسك لفتنة الحرام ولو بالنظر، وربنا جل وعلا قد فتح لنا أبواب الاستمتاع الحلال الذي نؤجر عليه إذا احتسبنا ذلك.
الرابعة: لنحرص على التحلي بآداب الشرع في التعامل مع النساء من عدم الخلوة، وغض البصر، وعدم الخضوع بالقول، ولنتذكر أننا نحن من يصنع شخصياتنا أمام الغير خصوصاً زميلات العمل، فمنا من يفتح بتساهله في التواصل المجال للفتيات الضعيفات لمزيد من الضعف والخضوع، ومنا من يرسم لهن حدود العلاقة المختلطة التي نحن مجبرون عليها بشكل واضح.
الخامسة: قد يبتلي الله أحداً منا معاشر الشباب بمسؤولية قيادية في عمله يكون له فيها قرار أو جزء من القرار في رسم حدود العلاقة بين الجنسين في الإدارة أو القسم أو الوحدة، وحينها فنلتق الله ما استطعنا، ولنجتهد في تقليل مجالات الاختلاط في أداء الأعمال قدر المستطاع سواءً في الدوام اليومي أو الاجتماعات أو المقابلات الشخصية أو المشاريع وغيرها، ولنجتهد في استخدام وسائل الاتصال الحديثة كالبريد الإلكتروني أو الاتصالات الهاتفية أو تقنيات الاجتماع عن بعد لتسيير جميع الأعمال التي تكون المرأة طرفاً فيها حسب طبيعة كل عمل، وتذكر أيها الشاب المدير بأني وإياك أحوج ما نكون إلى أي عمل صالح قد تثقل به موازيننا عند الله تعالى، ويكون سبباً في رحمة الله بنا ودخولنا الجنة ولو كان تحويل اجتماع حضوري مختلط إلى اجتماع عن بعد خوفاً من الله تعالى.
السادسة: قد تصل هذه الكلمات إلى عين مسؤول كبير ولاه الله مسؤولية بيئات العمل تحتوي على ما لا يراه مباشرة مما لا يرضي الله تعالى، فإليه أقول كان الله في عونك، وتذكر دائماً بأنك مسؤول عن هذه الرعية، وكلنا نقدر ما تعانيه من ظروف قهرية أحياناً، إلا أنني أعلم أنك تسطيع تغيير هذا المنكر ولو باليسير أو اليسير جداً جداً، فبيدك الكثير مما تستطيع فعله وأقله سكوتك عن أذية من يريد الإصلاح منا معاشر الشباب.
وفي الختام.. فقد يقول أحد الشباب لماذا ركزت حديثك إلينا فقط؟ وأين الفتيات من هذه المسؤولية الشرعية؟ فأقول إن للفتيات في بيئات العمل المختلطة بالشباب وقفات مختلفة في مقام آخر قريب بإذن الله، فاللهم عونك وهدايتك، ويا رب أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وثبتنا على دينك واقبضنا إليك غير مبدلين.