عريب الرنتاوي – كاتب صحفي أردني
أهداف ودلالة توقيت هجوم بندر غير المسبوق على فلسطين
ماذا تعني “خلاصات” الأمير بندر واتهاماته في اللحظة الفلسطينية والإقليمية الراهنة؟
لا أحد “رسميا” من قادة الخليج تجرأ يوما على تبني رؤية إسرائيل وروايتها للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
أول مرة يتمحور الخلاف حول المسألة الفلسطينية حصرا واختلافات حول “التطبيع” والحل النهائي و”شرعية القيادة” الفلسطينية!
انتقال سعودي من دعم التطبيع إلى قيادته ومن “نرضى بما يرضى به الفلسطينيون” إلى “نتبنى ما يتوافق عليه الأميركيون والإسرائيليون”.
لا يساور الأمير وفريقه شكٌ بأن تاريخ المنطقة تصنعه السعودية والإمارات والبحرين لكن شواهد الأحداث وتطورات الأزمات بالإقليم تقول غير ذلك تماما.
* * *
هي ليست المرة الأولى، التي يبلغ فيها الشرخ الفلسطيني ـ الخليجي إحدى ذراه غير المسبوقة، بيد أنها المرة الأولى التي تندلع فيه الأزمة، والقيادة الفلسطينية في أدنى درجات ضعفها وعزلتها.
وهي المرة الأولى، وهذا هو الأهم، الذي يتمحور فيها الخلاف حول المسألة الفلسطينية حصرا، وتتناسل عنه اختلافات حول “التطبيع” ومضمون الحل النهائي لهذه المسألة، و”شرعية القيادة” الفلسطينية ذاتها.
لقد عرفت العلاقات الفلسطينية ـ الخليجية مراحل مدّ وجزر على امتداد السنوات الستين الفائتة، بيد أنها دارت في معظمها حول “عناوين إقليمية” من نوع:
العلاقة مع جمال عبد الناصر، تحالفات الحرب الباردة، الموقف من الثورة الإسلامية في إيران، حرب الخليج الثانية وغزو العراق للكويت، وغيرها من عناوين وقضايا دارت في “محيط” القضية الفلسطينية وليس في “مركزها”.
ووقعت جميعها بوجود قيادة فلسطينية “تاريخية” غير مطعون في “شرعيتها”، والأهم أن إسرائيل لم تكن حاضرة، علنا على الأقل، في قلب الجدل والخلاف.
فلا أحد “رسميا” من قادة الخليج، تجرأ يوما، على تبني الرؤية والرواية الإسرائيليتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولا أحد علانية، برّأ إسرائيل من مسؤوليتها عن تعثر مسارات الحل واستطالة أمد الصراع، لا أحد منهم ألقى باللائمة على الفلسطينيين، عن المآلات التي انتهت إليها قضيتهم.
اليوم، يخرج الأمير بندر بن سلطان، مُتمِما و”مُعَمِّقا”، ما كان بدأه عدد من ممثلي الدول الثلاث والناطقين باسمها، لتقديم “جردة حساب” عن عقود من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والعلاقات الفلسطينية ـ الخليجية، لتتركز الاتهامات، بصرف النظر عن صدقيتها، على جملة من العناوين: “الفلسطينيون جاحدون وناكرون للجميل”، الفلسطينيون امتهنوا سياسية “تبديد الفرص”، والفلسطينيون انحازوا دوما لـ”الجانب الخطأ من التاريخ”.
ماذا تعني “خلاصات” الأمير بندر واتهاماته في اللحظة الفلسطينية والإقليمية الراهنة؟ ومن هي “القوى المنتصرة” اليوم والتي تمثل “الجانب الصواب من التاريخ” ليتخندق الفلسطينيون في معسكرها، محتفظين لأنفسهم بـ “مسافة أمان” عن “القوى المهزومة” التي يتشكل منها “الجانب الخطأ من التاريخ”؟
لا يساور الأمير وفريقه الشك، بأن التاريخ الجاري للمنطقة، إنما تصنعه السعودية والإمارات والبحرين، مع أن شواهد الأحداث وتطورات الأزمات المفتوحة في الإقليم، تقول بغير ذلك تماما!
لكننا لن نتوقف عند هذه المسألة، وسنبقى في موضوع هذه المقالة، إذ ما على الفلسطينيين–حسب الأمير– سوى “مباركة” اتفاقيات “التطبيع” التي أجرتها هذه الدول سرا وعلانية، مستكثرا عليهم حقهم في نقد هذه الاتفاقات المبرمة قبل إنجاز “حل الدولتين”، مستهجنا قولهم إنها تتعارض مع نص وروح مبادرة السلام العربية، التي تعود “ملكيتها الفكرية” لبلاده، وحين كان الأمير في ذروة تألقه ونفوذه في مؤسسات صنع القرار في الدولة السعودية.
ولأن اتفاقيات التطبيع جميعها، لم تخل من تثمين متكرر لـ”صفقة القرن”، باعتبارها الإطار الأنسب للحل النهائي، فإن رفض الفلسطينيين للمبادرة، وانتقاد الدول التي قبلت بها، يُظهر مرة أخرى، وفقا للأمير، أنهم اختاروا “الجانب الخطأ” من التاريخ.
مع أن الأغلبية الساحقة من دول العالم، وأكثر من نصف الطبقة السياسية الأميركية، وحتى الخطاب الرسمي لدولة مثل السعودية (خطاب الملك تحديدا)، لم تَرُقه “المعايير” التي نهضت عليها “الصفقة”.
ولم ير فيها طريقا للسلام العادل والدائم، وفضّل عليها “مرجعيات عملية السلام” و”قرارات الشرعية الدولية” و”حل الدولتين” و”مبدأ الأرض مقابل السلام” ووجوب إنهاء الاحتلال كمتطلب مسبق للسلام والتطبيع في إسرائيل والدول العربية والإسلامية.
القبول بصفقة القرن، ومباركة مسارات التطبيع، هو الطريق الذي يقترح الأمير على الفلسطينيين سلوكه، إن هم أرادوا التموضع في “الجانب الأصوب” من التاريخ!
ولأنه يدرك أن أحدا منهم، لن يقبل بسلوك هذا الطريق، انتقل إلى “منصّة أعلى” لتصويب سهامه على قيادتهم “غير الشرعية”، واتهامهم تعسفا، بالاصطفاف بالمحور “الخطأ”: التركي ـ الإيراني.
والحقيقة أن هذا “القصف العشوائي” على الفلسطينيين من دون تمييز، يعكس “فقدان صبر وحكمة” قادة دول خليجية، ترسّخ لديهم الاعتقاد خلال العقود الفائتة، أن أحدا من دول المنطقة وفواعلها الرئيسين، لن يكون بمقدوره تحدي مواقفهم وسياساتهم!
وأن بمقدورهم رفع “أمزجتهم” و”حساباتهم” السلطوية، إلى مصاف السياسات العليا ومتطلبات الأمن القومي، التي لا تجوز مناقشتها أو الاعتراض عليها.
فما بالك حين يصدر هذا الاعتراض، عن سلطة ضعيفة، لا سلطة لها، وترزح منذ سنوات طوال تحت نير الاحتلال والحصار؟
لقد استكثر الذين لم يتوانوا عن استدراج رئيس حكومة على رأس عمله إلى ديارهم، وإهانته وإرغامه على تقديم استقالته “على هواء” ذات المحطة الفضائية التي أطل منها الأمير بندر، لقد استكثر هؤلاء على الرئيس عباس، التصريح بموقفه الرافض للصفقة واتفاقات التطبيع.
يعرف الأمير بندر أن تركيا وإيران ليستا في خندق واحد، ربما تنظر بلاده وبعض حلفائها، لهاتين الدولتين على أنهما كذلك، بيد أن العالم بأسره يدرك أن لكل منهما، حسابات تكتيكية تتطابق حينا ومصالح استراتيجية تتفارق في أغلب الأحيان.
ويدرك العالم كذلك، أن السلطة والمنظمة، لا تحتفظ بالحد الأدنى من العلاقات مع إيران، وأنهما تنظران لطهران بوصفها “عامل عدم استقرار” في المشهد الفلسطيني الداخلي.
كما ويدرك العالم، بأن السلطة والمنظمة، ليستا مرتاحين أبدا، للعلاقات “الخاصة والمتميزة” التي تربط تركيا بـ”حماس” والإخوان المسلمين عموما، وأنهما مرتابتان من التحرك القطري، المدعوم تركيا، على خط الأوضاع في غزة.
لكن الإصرار على الزج بجميع الفلسطينيين في الخندق التركي الإيراني، رغم أنوفهم، يشبه إلى حد كبير، “سحب الغطاء” عن سعد الحريري وتيار المستقبل، بحجة “تردده” في إعلان الحرب على “حزب الله” و”الثنائي الشيعي”، حتى وإن أدت خطوة كهذه، إلى ضياع لبنان وغرقه في أتون حرب أهليه قد لا يخرج منها أبدا!
على من “يتشاطر” بندر وفريقه، ولماذا يظنون أنهم بمجرد خروجهم للملأ، على هذا النحو الصلف والاستفزازي، سيكونون قادرين على إقناع العالم بصحة اتهاماتهم وسردياتهم؟
لنصل بعد ذلك كله، إلى بيت القصيد المُستبطن في مرافعات بندر وإخوانه: إن لم تقبل القيادة بصفقة القرن وتبارك اتفاقات التطبيع، وتستحدث القطع والقطيعة مع “حماس”، طاوية صفحة المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية، فإنها ستكون فاقدة للشرعية، وليست ذات شأن irrelevant، وستتحمل وحدها، وزر ضياع القضية الفلسطينية وتصفيتها، وقد تضاف إلى قائمة طويلة تضم: “الحوثي، الحشد الشعبي، حزب الله، وجماعة الإخوان المسلمين”.
قد يقال، وما حاجة الأمير بندر لشن حملة شعواء على الفلسطينيين قبل أسابيع قلائل من الانتخابات الأميركية التي تحمل في طيّاتها، احتمالات “انقلاب المشهد” الأميركي، ومجيء إدارة ديمقراطية ستطوي صفحة “صفقة القرن”، وتعيد الاعتبار لما درجت عليه إدارتا كلنتون وأوباما…
الجواب من دون تحفظ: أنها توطئة سعودية للانتقال من مسار دعم التطبيع إلى قيادته، وهي التوطئة لنقلة سعودية رسمية قادمة، لا سيما بعد انتقال الحكم في البلاد من الملك إلى ولي عهده، نحو تبني “نموذج جديد” New Paradigm للنظر إلى المسألة الفلسطينية، تستبدل به شعار “نقبل ما يتوافق عليه الأميركيون والإسرائيليون” بشعار “نرضى بما يرضى به الفلسطينيون”، فلدينا ما هو أكثر أهمية من المسألة الفلسطينية، ودعونا نقفل هذه الصفحة، مرة وإلى الأبد.
ما الذي يتعين على القيادة الفلسطينية فعله؟
قلنا إن الأزمة الخليجية الفلسطينية الراهنة، تندلع في وقت تعاني فيه القيادة الفلسطينية من ضعف وشيخوخة وانقسام، فيما الطعون بشرعيتها، تنهال عليها من الداخل والخارج، ولأسباب ودوافع مختلفة بالطبع…
مسار المصالحة الذي تحرك في الأسابيع القليلة الفائتة يجب أن يتكثف ويتسارع، دونما إصغاء لدعوات أنظمة مأزومة تخوض معارك الدفاع عن بقائها و”شرعياتها”، والشروع من دون إبطاء في تجديد و”تشبيب” الشرعيات الفلسطينية من خلال التوجه الحازم نحو صناديق الاقتراع، وفي أقرب الآجال، في انتخابات شفافة ونزيهة، وتحت رعاية ورقابة المجتمع الدولي.
بهذا، وبهذا فقط، يمكن لجم الحملة الرامية لـ”شيطنة” فلسطين، بهذا وبهذا فقط، يمكن تقطيع السبل في وجه المحاولات المعلنة والمضمرة، التي تتهيأ لفرض قيادة بديلة ومطواعة، على الشعب الفلسطيني.
بهذا وبهذا فقط، يمكن للفلسطينيين استعادة زمام المبادرة، والانتقال من حالة التآكل الدفاعي الستاتيكي، إلى حالة الهجوم الفعّال، انطلاقا من فهم أعمق وأدق، لمغزى وعمق التحولات التي تجري في العالم العربي، وللمناخ الدولي المحيط بالقضية الفلسطينية، وتلكم مسألة أخرى، بحاجة لبحث مستقل.