يبدو أن محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، وجد نفسه لا يحظى إلا بدعم والده من أجل تولي الحكم في البلاد، ما دفعه إلى اعتقال أقاربه وأمراء لهم قوتهم في المملكة، مروراً بقيادات أمنية وعسكرية، وصولاً إلى الموظفين في قطاعات حكومية مختلفة.
ولم يكن بن سلمان متأكداً من ولاء الأسرة المالكة ورجال الدين وقطاعات مهمة من المجتمع السعودي له، وربما لن يظل الملك سلمان وقتاً طويلاً بما يكفي ليلقي بظلال الدعم على ابنه وينتزع الولاء من الأمراء الساخطين، وهو ما يبدو من التخبط المستمر في القرارات داخل الأسرة الحاكمة.
ولعل استخدام القوة ضد منافسيه مثلما حدث في نوفمبر 2017، عندما شن حملة اعتقالات واسعة ضمت أكثر من 10 أمراء مؤثرين، وكان تبرير تلك الخطوة أنها لمحاربة الفساد وتخليص المملكة العربية السعودية من الكسب غير المشروع المتوطن بها، هي نفس الحجة التي استخدمها في حملته الأخيرة في مارس 2020، التي لا تزال أصداؤها مستمرة حتى اليوم.
الفساد.. حجة السعودية للاعتقال
بعد أيام من حملة اعتقالات كبيرة كشفت عنها وسائل إعلام عالمية وتكتمت عليها السعودية، اعترفت المملكة بجزء من تلك الاعتقالات، وقالت في 15 مارس 2020، إنها تحقق في قضايا فساد مع عشرات المتهمين بينهم قضاة وضباط أحدهم برتبة لواء.
وذكرت هيئة مكافحة الفساد بالمملكة في سلسلة تغريدات على حسابها على “تويتر” أنها باشرت التحقيق في عدد من “القضايا التأديبية والجنائية؛ منها التحقيق مع 219 موظفاً نتيجة الإخلال بواجبات الوظيفة العامة، كما باشرت إجراءات التحقيق الجنائي وسماع أقوال 674 شخصاً تم إيقاف 298 منهم”.
وأشارت إلى أن ذلك جاء وفقاً لنظام الإجراءات الجزائية، وذلك لتوجيه الاتهام بحقهم في قضايا فساد مالي وإداري تمثلت في جرائم الرشوة، واختلاس وتبديد المال العام، واستغلال النفوذ الوظيفي، وسوء الاستعمال الإداري.
وكشفت أن 16 شخصاً في وزارة الدفاع، منهم 8 ضباط أحدهم برتبة لواء، وضباط متقاعدون، استغلوا نفوذهم الوظيفي بشأن عقود حكومية وتورطهم بجرائم الرشوة وغسل الأموال.
وأوضحت أن 14 شخصاً، منهم 3 ضباط برتبة عقيد، و4 آخرون من منسوبي قطاعات وزارة الداخلية بالمنطقة الشرقية، استغلوا نفوذهم وتلقوا الرشوة، فضلاً عن تهم مماثلة طالت 15 شخصاً بينهم لواء وعقيد بأحد قطاعات وزارة الداخلية.
ولفتت إلى القبض على ضابط برتبة مقدم في أحد قطاعات وزارة الدفاع أثناء استلامه مبلغاً مالياً مقابل إخلاله بواجبات الوظيفة العامة.
إعلان بعد اعتقالات
وجاء هذا الإعلان بعد عدة أيام على حملة اعتقالات واسعة شنتها السلطات في السعودية، واستهدفت عدداً من الأمراء والضباط في وزارتي الدفاع والداخلية بالمملكة، وفق ما أوردته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية.
واعتقل بن سلمان الأمير أحمد بن عبد العزيز، شقيق العاهل السعودي، وولي العهد السابق محمد بن نايف، وشقيقه الأمير نواف بن نايف، كما اعتقل وزير الداخلية السعودي ووالده قبل أن يفرج عن الأخيرين.
كما كشف موقع “إنتلجنس أونلاين” الإخباري عن حملة يقودها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ضد قطاعي الدفاع والأمن، وتشمل إعادة تشكيل الحرس الوطني لدمجه في وزارة الدفاع.
ونقل الموقع عن مصادره، في 11 مارس، أن قطاع الدفاع مقبل على تغييرات، وخص بالذكر الهيئة العامة للتصنيع الحربي، و”السعودية للصناعات الحربية”.
وأفاد بأن رئيس “السعودية للصناعات الحربية”، الألماني أندرياس شوير، سيترك منصبه لسعودي، مبيناً أن ولي العهد استعان بشركة الاستشارات الأمريكية “كيرني” لإعادة تشكيل قطاع الدفاع.
حصان طروادة
الباحث في العلاقات الدولية د.عادل المسني، يرى أن شعار محاربة الفساد في السعودية يستخدم كـ”حصان طروادة لتحقيق أهداف ومآرب سياسية للسلطة الحاكمة”، مشيراً إلى أن استخدام تهم الفساد “هو أسلوب قديم للزج بالمنافسين السياسيين المحتملين في السجن في عدة دول، وفي مقدمتها المملكة”.
وأضاف في حديثه لـ”الخليج أونلاين”، أن السعودية “تُحكم بنظام تتركز فيه سلطات الدولة الثلاث في شخص الملك وولي عهده، لذا فإن أي اتهامات أو محاكمات، وآليات الشفافية والمساءلة والمراجعة، غير موجودة، سواء في هذه الاعتقالات أو في غيرها”.
وتابع: “في الماضي كانت السعودية مملكة آمنة بأمرائها الأقوياء الذين نجحوا في احتواء كل التهديدات السياسية والاقتصادية والأمنية، وكان الجميع ينظر إليها بذلك لما كان لها تأثير واقعي، أما الآن فتعاني من الشك والمخاطر، بل إنها أصبحت تفشل كثيراً، حتى إنها لم تعد تمتلك زمام الأمور داخلياً وخارجياً”.
أما المحلل السياسي محمود علوش فهو يرى من جانبه أنه “لا يُمكن الجزم بوجود علاقة بين الاعتقالات الجديدة التي أُعلن عنها ومزاعم الاعتقالات التي طالت مؤخراً أمراء بارزين كالأميرين أحمد بن عبد العزيز، ومحمد بن نايف”.
ويضيف: “السلطات تقول إن المسؤولين الجدد اعتقلوا بتهم فساد، كما أنّها لم تُقر حتى اليوم باعتقال الأمراء، لذلك من الطبيعي أن يحظى الموضوع الثاني بهذا التكتم المتعمد”.
وفي حديثه لـ”الخليج أونلاين” يقول علوش: “ما يُمكن الجزم به هو أن ولي العهد الأمير محمد يسعى من خلال إعلان مثل هذه الاعتقالات يهدف إلى كسب ثقة الشارع والقول للسعوديين إنه لا يسعى للسلطة فقط بل أيضاً لمحاربة الفساد. هذه العناوين تجذب السعوديين”.
وتابع: “الأمير محمد يسعى بالتأكيد إلى منع ظهور أي حالة مناهضة له داخل الأسرة المالكة أو في مؤسسات صنع القرار الأخرى، ولن يتردد في القضاء عليها طالما أنّها تُهدد ما عمل على تحقيقه منذ تسلّمه منصب ولي ولي العهد”.
تشبه اعتقالات الريتز
ولعل الأحداث الأخيرة تعيد التذكير بما حدث في فندق “ريتز كارلتون” بالرياض، الذي شهد بعد أيام فقط من استضافته المئات من رؤساء المصارف الدولية، وكبرى الشركات العالمية، وأسواق المال في لندن، ونيويورك، وهونغ كونغ، في مؤتمر اقتصادي وصف بأنه “دافوس في الصحراء” عام 2017، إلى معتقل لأمراء ورجال أعمال سعوديين.
وقالت السعودية حينها إن حملة الاعتقالات الأخيرة جاءت إثر تحقيقات سرية بدأها النائب العام منذ عامين ونصف، وإكمالاً لعمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، المعروفة اختصاراً باسم (نزاهة)، والتي أنشئت بأمر ملكي عام 2011.
ودفعت تلك الاعتقالات منظمات حقوقية مثل “هيومان رايتس واتش” إلى وصف ما حدث بـ”الاحتجاز القسري الجماعي”، وطالبت السلطات السعودية بأن تضمن للمشتبه بهم حق الطعن بقانونية احتجازهم أمام قاضٍ مستقل ومحايد، وأن يُتاح لهم مقابلة محامين.
وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، وبالتحديد منذ تنصيب بن سلمان ولياً للعهد، أدت سياساته إلى إجبار الكثير من الشعب السعودي على أخذ منحى التقشف؛ في ظل أعباء إضافية أثقلت بها سياسات الأمير الشاب كاهل المواطنين، الأمر ربما يتضاعف حال استمرت أزمة فيروس كورونا التي من المرجح أن تلقي بظلالها القاتمة على أسواق النفط في المقام الأول.
هل تكلف الاعتقالات بن سلمان الحكم؟
يقول الكاتب البريطاني ديفد هيرست إن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، ومستشاريه “ربما يكونون أغبى من أن يتبينوا الخطأ الذي ارتكبه الأمير باعتقالاته الأخيرة، والأخطاء السابقة التي ربما تجعله يفقد عرش المملكة الذي يسعى إليه”.
ويصف رئيس تحرير موقع “ميدل إيست آي” البريطاني الاعتقالات الأخيرة بأنها “أكبر مقامرة قام بها محمد بن سلمان في مسيرته القصيرة ولياً للعهد”، مضيفاً: “إن بن سلمان يتعامل مع كل كارثة بالانتقال إلى أخرى قبل حسم الأولى، ويتخذ القرارات بسرعة مدفع رشاش سريع دون التفكير في العواقب”.
ويقول هيرست: “إن المقامرة الكبيرة الأخرى لمحمد بن سلمان هي “تحطيم صورة المملكة العربية السعودية المصنفة زعيمة للعالم الإسلامي السني والحارسة الموثوقة للمقدسات الإسلامية”.
وأضاف أن هذه الزعامة “كانت مصدراً قوياً للقوة السعودية الناعمة، وأحد مصادر شرعية حكم آل سعود”.