حمد العجمي

خاص: من آثار عملية التغريب السياسي الواقع في المملكة العربية السعودية:

2ـ فقدان الزعامة الدينية:

تمتلك المملكة العربية السعودية الكثير من الشروط والأدوات اللازمة لتكون دولة رائدة في المنطقة بل في العالم الإسلامي كله، فمن جهة هي تتوفر على موارد هائلة بفضل النفط، ومن جهة أخرى تمتلك سلطة روحية لأنها مهبط الوحي ولاحتضانها مكة والمدنية، الأمر الذي يجعل المسلمين يوجهون أنظارهم ومشاعرهم، ليس الروحية فقط، بل حتى السياسية أحيانا، لكن السعودية فشلت خلال الأعوام القليلة الماضية في زعامة العالم العربي. إضافة إلى ذلك فقد اهتزت الصورة الذهنية للمملكة عند الكثير من الشعوب الإسلامية بما لذلك من تداعيات عن المملكة كدولة وكأفراد.

فالصورة الذهنية -المباشرة وغير المباشرة- التي تتكوّن في عقول الناس عن الشعوب والحكومات والمنظمات؛ تتكون وتتطور بواسطة الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة، وعادةً ما تُبنى هذه الصورة على خبرات الإنسان السابقة، وتجاربه، وعلاقاته، ومشاهداته، وحواسه، ومعلوماته، حيث يتم استقبال تصوراته على ما يجري حوله من أحداث ومواقف وقرارات، وتفسيرها بطريقة تضيف إلى التصور الحالي الموجود لديه معلومات جديدة، أو تدعم ذلك التصور، أو تحدث مراجعات محدودة عليه، أو ينتج عنها إعادة بناء كامل لذلك التصور اليوم أمام صورة العالم الذهنية.

لقد أصبح المسلمون في بقاع الأرض يشاهدون اليوم المرأة السعودية وهي تشارك في دورة الألعاب الأولمبية، وتتمايل وهي سافرة أمام الراقصين والراقصات، يشاهدون على شاشات التلفاز الرقصات وهن يكرمن من الهيئات السعودية الرسمية، وهذه التفاصيل وغيرها كثير تركت العالم يغيّر رؤيته عن المملكة السعودية، بعض أن تخلت عن زعامتها الدينية، فالزعامة تتطلب قدرًا من القناعة وإقرار لدى شعوب المنطقة بها، والحقيقة أن الصورة الذهنية للمملكة اهتززت بشكل كبير بعد انتشار حفلات الغناء والرقص في المملكة وأصبحت محط تندر بين الشعوب العربية والمسلمة.

تحكي سيدة مصرية قدمت إلى المملكة في تسعينيات القرن الماضي، كيف تعاملت معها جارتها السعودية وإذ تفاجأها بالسؤال عند دخول شهر رمضان المبارك هل تصومين رضان وهل المصريون يصومون أيضا؟ كان السؤال صادمًا بقدر كونه مفاجئا.

بصرف النظر عن نتائج الحوار، فإن السيدة السعودية تكونت لديها صورة ذهنية عن المصريين وهم بأغليتهم مسلمون بأنهم لا يقيمون لشرع الله حتى في أركانها الرئيسة أي تقدير، كونت تلك السعودية تلك الصورة الذهنية من الإعلام والمسلسلات والأفلام المصرية التي لا تظهر بها المرأة المصرية إلا وهي متبرجة متحللة من القيم الدينية، وتنقل تلك المسلسلات الحياة اليومية للمصريين دون أي وجود أو اعتبار لدين أو عرف، وإذا ظهرت بها شخصية ملتزمة فتخرج في محل سخرية أو تشويه، لذلك فتلك السيدة السعودية معذورة في صورتها الذهنية تلك فهذا من نقله إليها الإعلام عن طبيعة حياة المصريين.

والخشية أن تتحول الصورة الذهنية لبلاد الحرمين لنفس النمط لدى بقية الشعوب، وتصبح الصورة الذهنية السعودي بأنه شعب متهتك متحلل من القيم الدينية.

لكن الإشكالية أن السعودية حاضنة الحرمين حيث هبط الوحي وانتشر نور الإيمان منها على العالم ليست كأي بلد آخر، وتداعيات ذلك على المواطن السعودي الذي كان يلقى حفاوة في كل بقاع المسلمين بوصفه من بلاد الحرمين إلى شخصية محط كره واستهجان إذ حولوا بلادهم موطن الإسلام إلى سينمات ومراقص وغناء وسفور.

ولا تتوقف الصورة الذهنية على المجال الديني، فالمجال السياسي أيضا تضرر كثيرا فالمملكة كثير ما كانت تلعب دور الوسيط والجامع للحوار لدول الجوار وقت حدوث الأزمات، ولنا أن نقارن موقف المملكة من لبنان التي جمعت الأطراف المتنازعة وخرجوا باتفاق عرف ب”اتفاق الطائف: هو للآن يعد ضمانة الاستقرار بين الطوائف المختلفة في لبنان، وما قام به الأمير محمد بن سلمان من احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري دون إرادة منه، وهو ممثل للطائفة السنية في لبنان، فأي خسارة خسرتها المملكة على الصعيد السياسي والشعبي، وأي صورة ذهنية صارت لدى عموم السنة في لبنان بعد احتجاز ممثلهم السياسي.

أضف إلى ذلك مشاركة المملكة وقيادتها للتحالف في الحرب اليمنية، التي طال أمدها وتتسبب بمقتل العشرات يوميا إما قتلا أو مرضا. وتزكيتها للصراع الليبي عبر دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر مع وجود حكومة شرعية معترف بها دوليا.

ورغم كل الانتكاسات السابقة تحاول السعودية الآن الحصول على زعامة جديدة تتخلى فيها عن مكانتها الدينية، مبشرة بأيدولوجيتها العلمانية الجديدة . وفقدت بذلك كثيرًا من حلفائها القدامى بسبب تبنيها لتلك السياسات، فعلاقتها صارت متأزمة مع المغرب والأردن والسودان وتحاصر قطر، حتى مع الاختلاف السياسي في الماضي لم تخرج تلك الخلافات للعلن ليصبح ثمت أقطاب وتناحر إعلامي وسياسي على نحو ما هو حاصل اليوم.

وأخيرا..

لا تبدو أن عمليات التغريب السياسي في المملكة ستتوقف في القريب، فعلمنة السياسة السعودية ولبرلة المجتمع تجري على قدم وساق، وتبدو سيكولوجية القائمين على النظام في المملكة قائمة على الصلابة أكثر من المرونة، وقائمة على إنفاذ أيدولوجية أكثر منها قائمة على استراتيجية البقاء في السلطة، إضافة إلى الوضع الدولي والإقليمي والدولي الذي يبدو من الهشاشة ما يسمح بمثل تلك التهور السياسي، كما تبدو الشعوب في حالة من الإحباط وانسداد الآفاق.

كل تلك العوامل تؤشر إلى استمرار عملية التغريب السياسي، وأن مستقبل المملكة أضحى محفوف بالمخاطر والخطر ليس من الممانعة لسياسة التغريب بل على النقيض الخطر على بقاء الدولة واستمرار الحكم مع تشبع المجتمع بالليبرالية إذا مآلاته ستكون وخيمة في ظل ازدياد حالة الوعي لدى الشباب وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتطلعات الشعوب.

والحقيقة أنه عندما يتشبع المجتمع بالليبرالية ويتم إقصاء المؤسسات الدينية والتضييق عليها وإقصاء الدعاة والعلماء، عندها سيتطلع الشباب إلى المطالبات بالحرية السياسية وتكوين الأحزاب والجمعيات وحرية التعبير على الرأي والمطالبة بحقهم في اختيار من يحكمهم، فمضمون الليبرالية هو الحرية المطلقة ولا يمكن أن تبقى محصورة في مجال فردي اجتماعي دون ولوجها إلى المجال السياسي، والاقتصادي والشأن العام. هنا سيصبح النظام في حاجة إلى شرعية جديدة نتيجة التغير القيمي والمعرفي في مخيال الشباب، الذي تحول من السمع للمؤسسات الدينية ورموزها الذي يستمد النظام منهم شرعيته إلى وسيلة أخرى تتواكب مع التوجهات التي تم إرساؤها في المجتمع، وإلا حدث تنافر كبير بين النظام والمجتمع، والذي سيؤدي بالضرورة إلى حالة من فقدان الشرعية ثم إلى حالة من عدم الاستقرار، والذي بدوره قد يقوم إلى حالة من اهتزاز السلطة ومن ثم فقدها بالكامل أو حدوث حالة من الصراع والفوضى داخل المجتمع.