في شارع التحلية التجاري المزدحم بوسط الرياض، تروج لوحة إعلانات دوارة لمنتجات مثل عطر العود، وشورت أبيض، وساعة مرصّعة بحبات الماس المتلألئة. ثم يأتي ملصق يظهر ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” جالسا على مكتب، مرفقا بمقطع صوتي يقول فيه إن المملكة “ستنفق خلال الـ10 سنوات المقبلة أكثر مما أنفقت خلال الـ300 سنة الماضية”.
تم نشر الإعلان بعد ساعات من كشف الأمير النقاب، في 30 مارس/آذار الماضي، عن خطوات جديدة لتعزيز الاقتصاد ضمن سلسلة من المبادرات التي جرى الإعلان عنها منذ بداية العام، والتي تذكر السعوديين بالشخص المسؤول فعليا عن السلطة في المملكة. والرسالة اللاشعورية منها أن الأمير الأمير البالغ من العمر 35 عاما غير مسؤول عن أن أي أخطاء وقعت في السنوات الخمس الماضية.
ومع ذلك، على الصعيد الدولي، فإن سجل وريث العرش السعودي (بن سلمان) موصوم بلَطخَتين لا يبدو أنه يستطيع التخلص منهما: الحرب في اليمن، وجريمة قتل وتقطيع الصحفي “جمال خاشقجي” كاتب العمود في صحيفة “واشنطن بوست” على يد عملاء سعوديين في القنصلية السعودية بإسطنبول عام 2018.
ومع وجود بيت أبيض أقل تأييدا للسعودية، فإن ذلك يهدد بتقويض خطة التحول الاقتصادي للأمير “بن سلمان”، التي تعتمد جزئيا على الأموال الغربية.
ووفقا لأرقام حكومية منشورة في 31 مارس/آذار الماضي، بلغ حجم الاستثمار الأجنبي في السعودية مستوى مرتفعا جديدا في الربع الأخير من عام 2020. ومع ذلك، تصدرت مصر والهند قائمة الدول العشر التي استثمرت في مشاريع بالمملكة، تلتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وهما البلدان الغربيان الوحيدان في القائمة.
وفي فعالية عبر الإنترنت استضافها “مجلس الشؤون العالمية” في مدينة كولورادو سبرينجز الأمريكية في 10 مارس/آذار، حث “فهد ناظر”، المتحدث باسم السفارة السعودية في واشنطن، المشاركين على زيارة بلاده والاستثمار فيها لمساعدة المملكة “على دفع هذه المرحلة المثيرة من تطورها إلى الأمام”. لكن أحد الحاضرين للفعالية اعترض على حديث “ناظر” قائلا: “الأشياء التي تتحدث عنها مثيرة، لكن من الصعب تجاوز (جريمة قتل) جمال خاشقجي”.
لقد أوضح الرئيس “جو بايدن” أن علاقة الولايات المتحدة بالمملكة لن تكون دافئة كما كانت في عهد الرئيس السابق “دونالد ترامب”، مشددا على ضرورة التواصل مع الملك “سلمان” بدلا من ابنه. وسمح “بايدن” برفع السرية عن تقرير استخباراتي أمريكي خلص إلى تورط “بن سلمان” في جريمة قتل “خاشقجي”. ورفضت الحكومة السعودية هذه النتيجة، ووصفتها بأنها “تقييم خاطئ وغير مقبول”.
ومع ذلك، كان غياب الملك “سلمان” عن الظهور في الصورة في الآونة الأخيرة واضحا. فعلى الرغم من أن الملك لا يزال يترأس الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء ويرسل رسائل عامة إلى زعماء العالم، إلا أن نجله أصبح الآن وجه البلاد إلى حد كبير.
في الواقع، حاول “بن سلمان” جاهدا تحويل التركيز مرة أخرى إلى رؤية 2030؛ خطته التحويلية لمستقبل الأمة. وتتراوح جهوده الأخيرة، في هذا الصدد، من العمل على إصلاح القضاء إلى مهاتفة رؤساء الدول للنقاش حول البيئة.
كما أنه حريص على لعب دور رجل الدولة في منطقة متقلبة. فعلى غرار والده، هاتف “بن سلمان” العاهل الأردني الملك “عبدالله الثاني” للتعبير عن تضامنه بعد أن أعلنت البلاد في 3 أبريل/نيسان اكتشاف مؤامرة لزعزعة استقرار الأمة.
وفي اليمن، حيث قادت السعودية حربا تسببت في أسوأ أزمة إنسانية في العالم، تنفق المملكة مئات الملايين من الدولارات لتوفير الخدمات الغذائية والصحية، وبناء المدارس، ومساعدة المزارعين؛ ما يجعلها أكبر مانح لجارتها الجنوبية.
كما طرحت المملكة خطة سلام في اليمن، الشهر الماضي، وهي الخطة التي لم يقبل بها بعد الحوثيون المدعومون من إيران.
ولم تحجب مثل هذه الجهود دور السعودية في الحرب باليمن. ففي الذكرى السنوية السادسة لهذه الحرب في مارس/آذار، أطلق تحالف من جماعات حقوق الإنسان حملة توعية تسلط الضوء على ما أسماه “هجوم الأمير بن سلمان على اليمن”، ورفض الإعانات المالية السعودية باعتبارها “محاولة لتبرئة ساحتها”.
يعتقد بعض المراقبين أن الأمير أهدر النوايا الحسنة لدى الغرب، الذي رحب بتغييراته في مجتمع تحكمه منذ فترة طويلة زمرة دينية متشددة، وخططه لإصلاح اقتصاد يعتمد منذ فترة طويلة على النفط.
يقول “أيهم كامل”، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “مجموعة أوراسيا” للاستشارات حول المخاطر السياسية: “لو لم تكن هناك حرب اليمن و(جريمة قتل) خاشقجي لكان بن سلمان شخصية محبوبة من الغرب”.
ويضيف: “كانت أوروبا والولايات المتحدة مفتونة بنظرته للإصلاحات. هذا الضرر (الذي تسبب به الأمير) لا يمكن إصلاحه في بعض النواحي”.
يمكن أن يكون لذلك تأثير على جذب الاستثمار الغربي إلى بلده؛ حيث تشمل العوائق أمام ممارسة الأعمال التجارية وجود نظام قضائي لا يمكن التنبؤ به (وهو أمر تحاول الحكومة تغييره) والتأخيرات المتكررة في المدفوعات الحكومية.
يقول “كامل”: “لن يأتي المستثمرون (إلى المملكة) إلا إذا كانت هناك عوائد كبيرة، لا سيما بالنظر إلى قضايا العلاقات العامة”.
وقال الأمير “بن سلمان” إنه يتوقع أن يأتي 90% من تمويل “رؤية 2030” على مدى السنوات العشر المقبلة من مصادر محلية.
ويبدو أن جهود الإصلاح التي يبذلها الأمير، وكذلك الخطوات لتحسين صورة البلاد في مجال حقوق الإنسان مثل إطلاق سراح الناشطة في مجال حقوق المرأة “لجين الهذلول” من السجن، هي محاولات لتهدئة إدارة “بايدن”.
يقول مسؤول سعودي إن تصرفات المملكة لا تتعلق بالتغييرات في القيادة السياسية في أي مكان آخر في العالم، ولكنها تتماشى مع أهداف رؤية 2030.
ويضيف المسؤول، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، إن العلاقات الأمريكية السعودية تاريخية ومتعددة الأبعاد وعميقة.
بالنسبة إلى “جريجوري جوس”، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة “تكساس إيه أند إم”، فإن “بن سلمان”، “تحت المجهر” في الولايات المتحدة.
ويبدو أن سياسة “بايدن” تمنح الزعيم السعودي مجالا لإصلاح مكانته في واشنطن من خلال السعي لتحقيق السلام في اليمن والالتزام بخط الولايات المتحدة في المنطقة.
في غضون ذلك، يقول “جوس”: “لا أعتقد أنه قد أعيد تأهيله بالكامل في السياق الأمريكي، أو أن حرب اليمن وقضية جمال خاشقجي أصبحتا خلفه”.