“طلبنا من الإخوة المسلمين في جميع دول العالم التريث في عمل أي ترتيبات تتعلق بالحج حتى تتضح الرؤية”.
كان هذا التصريح الصادر عن وزير الحج والعمرة السعودي “محمد صالح بن طاهر”، أول إشارة واضحة من السلطات السعودية، تفيد باحتمال إلغاء أداء فريضة الحج هذا العام، خشية تفشي فيروس “كورونا” الجديد.
ويحل موعد الحج هذا العام أواخر شهر يوليو/تموز المقبل، أي بعد 3 شهور من الآن، في وقت تتزايد فيه معدلات الوفاة حول العالم مقتربة من تخطي حاجز 50 ألف وفاة وقرابة مليون مصاب.
قرار صعب
في ظل هذه الأجواء، يبدو أن القرار الصعب بإلغاء موسم الحج بات مطروحا الآن على طاولة صانع القرار السعودي، بعد أن أوقفت المملكة إصدار تأشيرات العمرة للأراضي المقدسة، كإجراء استباقي مؤقت؛ لمنع انتشار فيروس “كورونا” بين المعتمرين.
وبحسب مؤشر العمرة الأسبوعي لوزارة الحج والعمرة، فقد استقبلت المملكة العام الماضي حوالى 7.5 مليون معتمر، وهو الرقم الذي كان مرشحا للزيادة خلال العام الجاري.
وتعد شهور رجب وشعبان ورمضان (مارس/آذار، أبريل/نيسان، مايو/آيار)، هي شهور الذروة لموسم العمرة، لكنها تزامنت هذا العام مع تفشي فيروس كورونا في أكثير من 200 دولة حول العالم.
وتخشى المملكة جديا، تفشي الفيروس بين المعتمرين والحجاج، الذين يفدون إليها من شتى الجنسيات، ويتجمعون في مناسك واحدة، ما يزيد من فرص انتقال العدوى بشكل كبير.
ويؤدي زهاء 2.5 مليون مسلم فريضة الحج سنويا، وهو ما يشكل أزمة كبيرة، على مستوى تأمين الاحتياجات الصحية والطبية لهذا العدد في توقيت واحد، مع الأخذ في الاعتبار أن نسبة كبيرة من الحجيج عادة ما يكونون من بين كبار السن.
وفي موسم الحج تزداد حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي مثل الزكام والتهاب الرئة، وغيرها من الأمراض التي تعد في غالبيتها معدية، ما يعني زيادة احتمالية الإصابة بـ”كورونا” بين الحجاج.
وهناك مخاوف تبديها منظمات دولية، من موجة انتشار جديدة للفيروس، أو تطور نسخة أشد فتكا منه، ما يعني أن التدابير الاحترازية ستكون أمرا واقعا، على الأقل حتى نهاية 2020.
خسائر متوقعة
يعد موسم الحج مصدرا رئيسيا للدخل في المملكة، وفيه تنتعش قطاعات السفر والضيافة والطيران والسياحة، فضلا عن تزايد حركة الشراء، ورواج أسواق التجارة، حيث يبلغ متوسط إنفاق الحجاج على السكن والطعام والهدايا نحو 2500 دولار للفرد الواحد.
وتعد مدن جدة ومكة والمدينة، أبرز المناطق التي تشهد رواجا خلال الموسم، فضلا عن انتعاش المدن الأخرى التي تضم حجاج الداخل الذي بلغ عددهم نحو 700 ألف حاج خلال عام 2019، بحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء في السعودية.
وتربح المملكة، ما يزيد عن 9 مليارات دولارات من موسم الحج، وهي حصيلة كبيرة تنعش الخزانة السعودية كل عام.
ويتجاوز المتوسط العام لأسعار الحج في برنامج الحج العام لحجاج الداخل، سبعة آلاف ريال سعودي، أي نحو 1800 دولار، بينما تبلغ إجمالي تكلفة الحج بالنسبة للشخص الواحد من حجاج خارج المملكة، بين أربعة وخمسة آلاف دولار في المتوسط.
ويوفر موسم الحج سنويا، 200 ألف فرصة عمل موسمية، وفق تقديرات غير رسمية، تشمل قطاع الخدمات مثل مرافقة الحجاج وإرشادهم، وحراسة المخيمات، وقيادة المركبات، وأعمال النظافة، وكذلك قطاعات النقل، والضيافة، والتغذية، والتجارة، والتسويق، فيما يتم استقدام عمالة مؤقتة من الخارج لأعمال ذبح الهدي والحلاقة.
وينعش موسم الحج حركة تداول الريال السعودي ويرفع الطلب عليه، ما يقوي العملة السعودية، ويزيد من أرباح شركات الصرافة بالسوق المحلية.
محطات تاريخية
ورغم إن إلغاء موسم الحج الأكبر لن يكون حدثا عاديا بالنسبة للمسلمين حول العالم، فلن تكون هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تعطيل الفريضة المقدسة. ففي العام 1814، مات نحو ثمانية آلاف شخص جراء تفشي الطاعون في بلاد الحجاز، ما أدى إلى توقف الحج في ذلك العام.
كذلك تم تعطيل أو تقليص موسم الحج في أكثر من مناسبة قبل عام 1850 بسبب تفشي الطاعون أو الكوليرا.
تاريخيا، في القرن العاشر الميلادي، أغار “القرامطة” المنشقون عن الدولة الفاطمية الشيعية على مكة المكرمة، وقتلوا الكثير من الحجاج، وخلعوا باب الكعبة، وسلبوا كسوتها، واقتلعوا الحجر الأسود من مكانه، ما تسبب في تعطيل الفريضة عام 317هـ/908م.
ولم يسبق أن جرى إلغاء الحج في العصر الحديث خلال القرن الأخير، لكن جرى منع قدوم زوار من المناطق عالية الخطورة، على غرار ما حدث أثناء تفشي فيروس “إيبولا” بين عامي 2014، و2016.
خيارات المملكة
وبدلا من إلغاء موسم الحج بشكل كامل، ربما تلجأ المملكة إلى سيناريوهات أقل قسوة قد تتضمن السماح بأعداد محدودة من الحجيج، مع إخضاعهم للحجر الصحي لمدة كافية قبل دخول البلاد، بما يضمن عدم تعطيل الفريضة التي تعد ركنا رئيسيا من أركان الإسلام.
وفي أشد السيناريوهات تفاؤلا، تأمل المملكة أن يتم احتواء أزمة انتشار الفيروس خلال شهري خلال أبريل/نيسان الجاري، ومايو/أيار المقبل، وانحسار المرض بشكل كبير، حول العالم، ما قد يمنح البلاد فرصة لإنقاذ ما تبقى من موسم العمرة والحج، مع فرض تدابير وقائية، تشمل استبعاد كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة.
وقد توقف المملكة، رحلات الحج لحجاج الخارج، بينما تسمح به لحجاج الداخل، خاصة السعوديين، بما يضمن لها استمرارية الشعيرة المقدسة، والحفاظ على رمزيتها، كقبلة للمسلمين في شتى بقاع الأرض.
لكن حال استمرار تفشي الوباء، والعجز العالمي عن اكتشاف علاج له، يبقى إلغاء الموسم هو الخيار الأكثر ترجيحا، في ظل وجود العديد من التحديات التي تحول دون استضافة واحد من أكبر التجمعات البشرية في العالم.
ومن المتوقع، في ظل ارتفاع عدد الإصابات بالمملكة إلى 1885 حالة إصابة، إضافة إلى 21 حالة وفاة، أن تتجنب السعودية المغامرة، رغم خسارتها لمليارات الدولارات من عوائد السياحة الدينية.
يبقى القرار مرهونا إذن بتطورات انتشار فيروس “كورونا”، الذي تسبب حتى الآن في إلغاء دورة الألعاب الأوليمبية في طوكيو إلى 2021، والعديد من الفعاليات الرياضية والثقافية، ويبدو أن الإلغاء قد يطال قريبا موسم الحج المقدس، في سابقة لم تتكرر منذ قرابة قرنين من الزمان.