بعد غياب غير طويل، عاد رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير بثوب القوة الناعمة، وحروب الظل عن طريق مؤسسات مشبوهة، ليضرب ثوابت وقيم المجتمعات الإسلامية، ويحيدها عن طريق التحرر والاستقلالية، في أعقاب ثورات الربيع العربي.

بلير أحد أكثر الساسة المعاصرين عداء وكراهية للعالم الإسلامي، إذ اعتمد أثناء حكمه سياسة الغزو والاحتلال، فتورط في العراق وأفغانستان بعمليات عسكرية دموية خلفت آلاف القتلى والمصابين، ضمن تحالف دولي قادته الولايات المتحدة مطلع القرن الجاري.

ورغم كل جرائمه التي لم يحاسب عنها عربيا أو دوليا، يلقى السياسي البريطاني دعما كبيرا من الإمارات التي عينته قبل سنوات مستشارا لها، ثم السعودية التي فتحت له أخيرا أبوابها.

 

شراكة مثيرة

8 أغسطس/ آب 2021، أعلنت “رابطة العالم الإسلامي” بالسعودية، اتفاق شراكة مع معهد “توني بلير للتغيير العالمي”، مدته 3 سنوات، قائم على برنامج مخصص لتزويد 100 ألف شاب من 18 دولة، أعمارهم بين 13 و17 عاما، بـ”مهارات التفكير والنقد”، حسب رؤية المؤسسة.

الرابطة أكدت، في بيان أن برنامج عملها سيتم من خلال شبكات المدارس وشركاء التعليم حول العالم لتدريب 2400 معلم على مهارات الحوار، والاستماع النشط، والتواصل العلمي، لنقلها إلى طلابهم.

الخطوة الأخيرة للرابطة تسببت في قلق إسلامي واسع، وأثارت كثيرا من الجدل والمخاوف على مستقبل شباب المسلمين في الوطن العربي، خاصة وأن الرابطة من المؤسسات الإسلامية الدعوية الكبرى، عبر عقود من الزمن، ويقع مقرها في قبلة المسلمين، مكة المكرمة.

وتأسست الرابطة في 18 مايو/ أيار 1968، بموجب قرار صادر عن المؤتمر الإسلامي العالمي الذي عقد في مكة المكرمة في الفترة ذاتها.

لذلك فإن ما أثار المخاوف يتمثل في تاريخ توني بلير السياسي والأيديولوجي، وتصريحاته المناوئة للإسلام والمسلمين، ودوره المؤيد لتوجهات الإمارات في قضايا المنطقة وخاصة في مواجهة التيارات الإسلامية، والأنظمة الديمقراطية، والتي تثير الشكوك لدى الكثيرين بشأن الاتفاق الأخير.

وهو ما أكده الكاتب اليمني، محمد مصطفى العمراني، من خلال مقال في صحيفة “رأي اليوم” اللندنية، في 12 سبتمبر/ أيلول 2021.

وقال العمراني: “لم نستغرب تمويل هذه الرابطة معهد مجرم الحرب على العراق توني بلير وأحد أشد أعداء الإسلام في العالم، فالمنظمة التابعة لحكام السعودية تعكس سياستهم البعيدة عن آمال وطموحات وتوجهات دول العالم الإسلامي”.

وأضاف: “فأمين عام رابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد العيسى من أشد الشخصيات السعودية حماسة للتطبيع مع الصهاينة وإقامة علاقات واسعة مع إسرائيل، والانفتاح عليها وقد دعا لذلك صراحة مرارا وتكرارا في كل فعالية ومناسبة يشارك فيها”.

واستطرد: “كان المفروض من منظمة مثل رابطة العالم الإسلامي أن تلاحق مجرم الحرب توني بلير في المحاكم الدولية لضلوعه في الغزو الأميركي البريطاني للعراق”.

 

دعم مشبوه

رغم توقيعه الاتفاقية، لم يتوان بلير عن مهاجمة الإسلام السياسي، كما جرى في 9 سبتمبر/ أيلول 2021، خلال مشاركته، في فعالية نظمها المعهد الملكي للخدمات المتحدة، المعني بالأبحاث السياسية (روسي) في لندن، بمناسبة ذكرى مرور 20 عاما على الهجمات التي حدثت في نفس الشهر من عام 2001 بالولايات المتحدة.

حينها قال بلير: “رغم تراجع الهجمات الإرهابية، لا يزال الإسلام السياسي سواء من حيث الأيديولوجيا أو العنف تهديدا أمنيا من الدرجة الأولى”، محذرا من أنه “سيصل إلينا، دون رادع، حتى لو تمحور بعيدا عنا”.

وشدد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، على عدم فاعلية مواجهة ما أسماه “الإسلام الراديكالي” من خلال ضربات الطائرات المسيرة والمراقبة والقوات الخاصة فقط.

ثم ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما دعا إلى إيجاد ما أطلق عليه مزيجا من “القوة الصلبة والناعمة “، وإلى ضرورة “عدم فقدان الثقة في استخدام القوة العسكرية للدفاع عن القيم”.

وكان بلير قد لعب دورا بارزا في الزج ببلاده في حرب أفغانستان ثم العراق إلى جانب الولايات المتحدة، ودائما ما يدافع عن ضرورة التدخل العسكري في الشرق الأوسط.

القوة الناعمة التي يتحدث عنها بلير دائما في معرض حديثه عن سياسة الغرب تجاه الشرق الأوسط، قصدها وكان يعنيها، بل ويمتلك أدواتها من خلال مؤسسات ومراكز يقودها ويشرف عليها بنفسه، بل دشنها على أسس دعم مالي سخي من عواصم عربية دأبت على محاربة ثورات الربيع العربي، والإسلام السياسي، على رأسها الإمارات والسعودية.

وذكرت صحيفة صنداي تلغراف البريطانية، في تقرير عن “معهد توني بلير للتغيير العالمي” في 21 يوليو/ تموز 2018، أن “رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، أطلق معهده في عام 2016 بعد تلقيه تمويلا إماراتيا أوليا قدره 8 ملايين جنيه إسترليني، ولديه موظفون في جميع أنحاء العالم بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة”.

الأكثر خطورة هو ما كشفته الصحيفة البريطانية، من حصول المعهد أيضا على أكثر من 9 ملايين جنيه إسترليني (حوالي 12 مليون دولار) من قبل السعودية.

منحته هذه الأموال مجموعة “Media Investment Ltd” وهي شركة تابعة للمجموعة السعودية للأبحاث والتسويق، التي ترأسها في السابق الأمير بدر بن عبد الله بن محمد بن فرحان آل سعود الذي يشغل اليوم منصب وزير الثقافة في المملكة.

أما هدف التمويل السعودي لـ “بلير” فيكمن في دعم برنامج التغيير في المملكة، الذي يقوده ولي العهد محمد بن سلمان، بحسب ما كشفت وسائل إعلام بريطانية.

ومنذ ذلك الوقت أصبح بلير من أكبر داعمي ابن سلمان، حتى أنه وصف برنامجه خلال مؤتمر مبادرة الاستثمار المستقبلي في الرياض، أنه “الأمر الأكثر أهمية وإثارة الذي يحصل في هذه المنطقة في السنوات القليلة الماضية”.

وهو الكشف الذي يعزز واقع تطور الشراكة بين توني بلير من جهة، والإمارات والسعودية من جهة أخرى، إذ تقاطعت الأجندات في نقطة واحدة، وهي محاربة الإسلام السياسي، والديمقراطيات الصاعدة، وترسيخ حكم الأنظمة الشمولية في المنطقة.

 

من الإرهابي؟

ومن هنا تساءل عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فرج ربيع، عن طبيعة الدور الذي يؤديه رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، في الدول الإسلامية.

وفي حديث لـ”الاستقلال”، تساءل ربيع: “من الإرهابي؟! ومن الذي يحتاج إلى تفعيل آلية الحوار وإلى تقبل الآخر والتعايش معه؟”.

وقال: إن “توني بلير أحد قادة العالم المتورطين في جرائم مروعة ضد الإنسانية في غزو العراق وأفغانستان، والقوات البريطانية حين كان رئيسا للوزراء، ساهمت في قصف الأحياء والمدن السكنية بأشد أنواع القنابل والأسلحة فتكا، بالإضافة إلى نهب ثروات البلاد المسلمة”.

واستطرد: “العجيب أن توني بلير بعد فترة رئاسته للوزراء، جاء إلى العالم العربي والإسلامي بثوب المستشار الواعظ الحكيم، الذي يحرص على الشباب المسلم، ويحاول تغيير أفكارهم ويؤسس معتقدات جديدة لهم، بعدما كان يقتلهم قبل سنوات قليلة”.

واستغرب تورط دول إسلامية كبرى مثل السعودية، ومنظمة عريقة مثل رابطة العالم الإسلامي، في التعامل مع توني بلير، بدلا من التحذير منه ومن تاريخه الإرهابي الأسود.

وتساءل ربيع: أين علماء المملكة ودعاتها مما يحدث؟ ولماذا سمحوا له بالانفراد بالشباب المسلم، وبث أفكاره الهدامة في المجتمع عن طريق مؤسسات مشبوهة، وأموال أكثر شبهة؟

وأورد: “المسلمون هم الذين أسسوا علم الكلام للحوار مع الآخر، وكان فرز فلسفتهم الدينية مناظرة أصحاب الملل والنحل، بالفكر والدعوة إلى الله، لاجتذابهم إلى الدين، وذلك قبل ألف سنة ويزيد، وكتب كبار علماء الإسلام مثل ابن تيمية وابن القيم والغزالي، ثم ابن رشد في تلك المعاني”.

أما الغرب فهم الذين وضعوا منهجية صدام الحضارات على يد “صامويل هنتنجتون”، وترجمها كبار قادتهم مثل توني بلير، والرئيسين الأميركيين السابقين جورج بوش (الأب)، وبوش (الابن)، إضافة إلى دونالد ترامب.

وأردف: “فلماذا لم يتوجه دعاة السلام إلى هؤلاء ليحدثوهم عن معاني السلام وحق البشر في الحياة؟”.

واستدرك ربيع: “المؤامرة والخديعة تتمثل في وصم الإسلام بالإرهاب والعنف، وهو ما نوه إليه شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، عندما هاجم تلك المنهجية الظالمة، وطالب المسلمين بأن يفهموا ويعلموا ما وراء الأكمة وما أريد لهم على يد أعدائهم”.