تمرّ السعودية، هذه الأيام، بمرحلة حرجة من تاريخها، تتميّز بالبحث عن دور جديد في عالم متغيّر، لم تَعُد تكفي فيه العلاقة مع واشنطن كضمانة لأمن النظام، فيما تقف المملكة على عتبة انتقال السلطة من جيل أبناء عبد العزيز إلى جيل أحفاده.
وهي عملية يبدو أنها ستكون أصعب ممّا كان مُتخيّلاً في أسوأ السيناريوات، بوجود وليّ العهد محمد بن سلمان، الذي يواجه معارضة كبيرة من الركيزتَين الأساسيتَين للحكم، أي الأسرة الحاكمة والولايات المتحدة.
أُدخل الملك سلمان إلى المستشفى في جدة الأحد الماضي، لإجراء منظار في القولون وبعض الفحوصات الأخرى، على حدّ إعلان الديوان الملكي الذي قال إن الفريق الطبّي قرّر بقاءه في المستشفى لبعض الوقت، على رغم تأكيده أن نتيجة المنظار «كانت سليمة».
ومنذ ذلك الوقت، لم يقدّم الديوان أيّ تحديث في ما يتعلّق بصحّة الملك البالغ من العمر 86 عاماً، غير أنّ خالد الجبري، نجل المعارض سعد الجبري المعروف بعلاقته القوية بالاستخبارات الأميركية والمستمرّة حتى الآن، منذ أن كان اليد اليمنى لمحمد بن نايف طوال 20 عاماً، والابن نفسه طبيب، يقول إن منظار القولون نادراً ما يتطلّب دخول المستشفى، ولا يُوصَى به بشكل روتيني لِمَن هم فوق الـ85 عاماً، مرجّحاً أن يكون المنظار الذي أُجري للملك تشخيصياً علاجياً طارئاً لنزيف الجهاز الهضمي السفلي، ما استلزم دخوله المستشفى.
وما يعزّز هذا الافتراض أن سلمان كان قد أُدخل إلى المستشفى في الرياض في آذار الماضي لإجراء فحوصات طبية و«تغيير بطارية منظّم ضربات القلب»، لكنه يومها أُخرج منها بعد تلك الإجراءات مباشرة.
وفي ظلّ الصمت الرسمي، حفلت وسائل التواصل الاجتماعي بأخبار صحّة الملك وتمنّيات له بالعافية، بما يوحي بأن الأمر يختلف هذه المرّة في وجدان السعوديين الذين وطّنوا النفس على انتقال صعب للسلطة من جيل أبناء عبد العزيز إلى جيل أحفاده، بالنظر إلى المشكلات التي واجهت بن سلمان منذ تولّيه منصب وليّ العهد في انقلاب القصر الشهير على ابن عمّه، محمد بن نايف، في حزيران 2017.
والذي ترك العائلة مشروخة، وكذلك سوء العلاقة مع الإدارة الأميركية، والتي تراجعت إلى مدارك لم تعرفها طوال 80 عاماً من تاريخها، بعد رفض بن سلمان طلب الرئيس الأميركي، جو بايدن، زيادة إنتاج النفط، وإدانة الحرب الروسية في أوكرانيا.
لو كان الوضع طبيعياً في السعودية، لما كان لصحّة الملك هذه الأهمية. فالملوك السعوديون على مدى حُكم آل سعود، كانوا يظلّون في مناصبهم حتى ولو صورياً في حال العجز عن أداء مهامهم، وكان وليّ العهد الذي هو عادة شقيق أو أخ غير شقيق للملك يتولّى الإدارة اليومية للبلد، ثمّ عند وفاة الملك ينتقل الحُكم بكلّ سلاسة إلى وليّ العهد.
حينها، لم يكن وليّ العهد يواجه تحدّيات كبيرة داخل الأسرة، باعتبار أن الاتفاق كان قائماً بين الأخوة على آلية التوارث، وكانت العلاقات مع الضامن الأميركي مستقرّة – بخلاف ما هي عليه اليوم، نتيجة حاجة الولايات المتحدة إلى هذه المنطقة الاستراتيجية.
لكن بعد انتقال مركز الصراع إلى آسيا، تراجعت تلك الحاجة، لتنفتح العلاقات السعودية الأميركية بكلّ مضامينها، على احتمالات التغيير التي أقلقت مؤسّسة الحُكم في المملكة. ومن هنا، تكتسب صحّة سلمان أهمية استثنائية، ويراقبها العالم بعناية بالغة، وإن بصمت.
فما دام الملك موجوداً، حتى وإن كان عاجزاً، فإنه يوفّر غطاءً شرعياً لحُكم ابنه، ما يرجئ ظهور تداعيات الانتقال وآثارها على الوضع في الشرق الأوسط برمّته، وأيضاً على سوق النفط العالمية في هذه الفترة المضطربة التي تشهدها.
في حال لم يخرج الملك من المستشفى في الأيام المقبلة، من المحتمل أن يجد بن سلمان نفسه بحاجة لإجراء استباقي ما، إمّا باسم أبيه وإمّا باسمه شخصياً، مِن مِثل نقل سلطات الملك إليه، إلى حين اتّضاح مآل الأخير.
وفي هذه الحال، ستَظهر من جديد الانشقاقات داخل العائلة المالكة، والتي تَسبّب بها انقلاب وليّ العهد، ثمّ قمَعها بالقوّة، مستنداً إلى سلطة أبيه، وإلى دعم الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، حين اعتقل عدداً كبيراً من أفرادها، وفي مقدّمتهم محمد بن نايف وأحمد بن عبد العزيز، اللذان يشكّلان أكبر تهديد له.
وبلا شكّ، سوف تُرافق عمليةَ الانتقال، فترةٌ من عدم الاستقرار السياسي، إن لم يكن أكثر من ذلك، خاصة وأنها سوف تجري على خلفيّة عدم استقرار عالمي، يتّخذ خلاله ابن سلمان موقفاً عدائياً من الرئيس الأميركي، جو بايدن، لكنّه في الوقت نفسه يعتمد إجراءات تَعتبر الولايات المتحدة أنها مضرّة بمصالحها، مِثل رفض زيادة إنتاج النفط، والتحالف مع الرئيس الروسي بوتين، في الحرب ضدّ أوكرانيا، ما مكّن الأخير من تجنّب آثار العقوبات الغربية على خلفية تلك الحرب.
كما التقارب مع الصين، لتتجاوز المسألة الاعتبارات الشخصية، وهو ما يحتّم على الأميركيين اتّخاذ إجراءات مقابلة، كبدء النقاشات رسمياً داخل الكونغرس لاعتماد قانون «نوبك» الذي يصنّف «أوبك» منظّمة احتكارية، ويدعو إلى فرض عقوبات عليها، لكنّه يستهدف بالخصوص معاقبة السعودية والإمارات.
في الأساس، لم يكن بن سلمان، المتقلّب، شخصاً مرغوباً فيه في أوساط الاستخبارات وفي وزارتَي الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة، وكان الجميع يفضّلون تولّي بن نايف الحُكم.
ولذلك، ربّما صار يستشعر الخطر، على رغم أنه تحوّط بجملة إيحاءات بأنه ينوي تعزيز العلاقة مع إسرائيل بعد تولّيه العرش.
وبدأ بعض مشغّلي منصّات البثّ على «يوتيوب» التابعين له وللإمارات، مِن مِثل الفلسطيني يوسف علاونة والسوري عبد الجليل السعيد وغيرهما، الترويج لصفقة قادمة بين بن سلمان وبايدن مفادها أن الأخير وافق على تسليم سعد الجبري إلى الرياض، مقابل تلبية السعودية الطلب الأميركي برفع إنتاج النفط، علماً أن الجبري مقيم في كندا وليس في أميركا ولا سلطة مبدئياً للرئيس الأميركي عليه.
وهذا إذا صحّ، يعني عملياً قبول إدارة بايدن بحُكم بن سلمان. لكن الاحتمالات الخطرة على وليّ العهد، قائمة بقوّة، ولا سيّما منها احتمال أن تستغلّ إدارة بايدن الإرباك وتعقد صفقة مع المعارضين الأقوياء في الأسرة، لتنفيذ انقلاب ضدّه، مشابه لذلك الذي نفّذه هو في إطار صفقة مع دونالد ترامب، ضدّ بن نايف.