تعيش القضية الفلسطينية في هذه الأيام حالة من تخلي الأشقاء وتحالف الأعداء بمحاولة حثيثة لتكريس دولة الاحتلال الإسرائيلي بشكل أكبر، وسعيها للسيطرة على أكبر قدر ممكن من أراضي فلسطين المحتلة، وحرمان الفلسطينيين من كامل حقوقهم.
وبعد عرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بحضور رئيس وزراء الاحتلال المنتهية ولايته بنيامين نتنياهو، وسفراء الإمارات والبحرين وسلطنة عُمان، يوم الثلاثاء (28 يناير 2020)، خطة السلام التي أعدتها واشنطن، التي تُعرف باسم “صفقة القرن”، رغم الرفض الفلسطيني الواسع، بدأت تتكشف مواقف بعض الدول العربية التي لم تحضر الإعلان في الوقوف ضد حقوق الفلسطينيين في استعادة كامل أراضيهم المحتلة.
وكان في مقدمة الدول التي تخلت عن القضية الفلسطينية المملكة العربية السعودية، التي أيدت “صفقة القرن” في ظل قيادتها الراهنة التي يحكمها فعلياً ولي العهد محمد بن سلمان، نجل عاهلها الملك سلمان بن عبد العزيز، متنازلة عن مبادرتها العربية للسلام، حيث تقود في المرحلة الراهنة تطبيعاً مضاعفاً مع دولة الاحتلال.
ما هي المبادرة العربية؟
في عام 2002 عقدت القمة العربية في العاصمة اللبنانية بيروت، وأطلق الملك الراحل، عبد الله بن عبد العزيز (كان ولياً للعهد حينها)، خلالها مبادرة للسلام في الشرق الأوسط بين دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني، تهدف لإنشاء دولة فلسطينية معترف بها على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وتنص المبادرة التي نالت تأييد كل الدول العربية على حل عادل للاجئين الفلسطينيين وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، والانسحاب من كامل الأراضي التي احتلها “إسرائيل” بعد حزيران 1967، ومن ضمنها الجولان السوري المحتل، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان.
ومقابل ذلك سيتم اعتبار الصراع العربي الإسرائيلي منتهياً، وتتمكن “إسرائيل” من إنشاء علاقات طبيعية مع نحو 57 دولة عربية وإسلامية.
كما تضمن الدول العربية رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة.
ودعت المبادرة دولة الاحتلال والإسرائيليين جميعاً إلى قبولها حماية لفرص السلام وحقناً للدماء، بما يمكن الدول العربية و”إسرائيل” من العيش في سلام جنباً إلى جنب، ويوفر للأجيال القادمة مستقبلاً آمناً يسوده الرخاء والاستقرار.
وقد تم إقرار مبادرة السلام تلك من قبل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وأصبحت هي الإطار الناظم للموقف العربي والإسلامي تجاه العلاقة مع “إسرائيل” وحل القضية الفلسطينية.
ومنذ ذلك الوقت والسلطة الفلسطينية تتمسك بمبادرة السلام العربية كخطة لا بديل لها لإنهاء الصراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
في حين تعد “صفقة القرن” التي أعلنها ترامب نسفاً كاملاً لمبادرة السلام العربية التي طرحتها الرياض وعملت دبلوماسيتها على إقناع الدول العربية والعالمية بتبنيها.
وتتضمن خطة ترامب المكونة من 80 صفحة إقامة دولة فلسطينية “متصلة” في صورة “أرخبيل” تربطه جسور وأنفاق بلا مطار ولا ميناء بحري، مع جعل مدينة القدس المحتلة عاصمة موحدة مزعومة لدولة الاحتلال.
وفي لقاء سابق قال مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، عبد الله الأشعل، إن الإمارات والسعودية ومصر “فرسان صفقة القرن”.
وقال الأشعل: إن “الإمارات والسعودية أبرز الممولين لصفقة القرن وأدواتها، وسيعملون على تنفيذها إلى جانب مصر، كما أنهم شاركوا في صياغتها مع الإدارة الأمريكية”.
ولفت إلى أنه بعد الصفقة ستشهد المنطقة العربية تحولات تاريخية في العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية، خاصة مع السعودية والإمارات، إذ ستعمل تلك الدولتان على إبرام اتفاقيات سياسية واقتصادية مع “إسرائيل”.
تأييد “صفقة القرن”
وبعد التخلي عن المبادرة العربية التي تعترف أصلاً بـ”إسرائيل” وتنتقص من حقوق الفلسطينيين، إلا أنها على الأقل مبادرة كانت تضمن لهم قيام دولة وتستعيد جزءاً واسعاً من أراضيهم والأراضي العربية المحتلة، سارعت الرياض لتقدير جهود الرئيس ترامب في “صفقة القرن”.
ودعت وزارة الخارجية السعودية، في بيان لها يوم الأربعاء (29 يناير 2020)، إلى بدء مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بحسب وكالة الأنباء الرسمية “واس”.
وأعلنت الخارجية السعودية عن “تقديرها” لجهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن “صفقة القرن” المزعومة، داعيةً إلى بدء مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مجددة دعمها “كافة الجهود الرامية للوصول إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية”.
وأضافت أن المملكة تقدر الجهود التي تقوم بها إدارة الرئيس ترامب لتطوير خطة شاملة للسلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
وأردفت: “كما تشجع بدء مفاوضات مباشرة للسلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي تحت رعاية الولايات المتحدة، ومعالجة أي خلافات بخصوص الخطة عبر المفاوضات”.
ويرى عبد الستار قاسم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة النجاح الفلسطينية، أن “الظروف الآن تجاوزت ما تسمى المبادرة العربية للسلام”، قائلاً: إن “المطلوب الآن تحالف إسرائيلي – سعودي، وبذلك فالمبادرة السابقة لا تصل إلى هذه الدرجة”.
وقال “قاسم” في حديث: إن “التوتر القائم الآن بين إيران والولايات المتحدة، والتوتر في مجمل المنطقة، يتطلب موقفاً متطوراً عن المبادرة العربية. مطلوب من الرياض مزيد من التنازلات حول الحقوق العربية، ومن ثم فهي تسير في ركب ترامب لأنه الراعي الأمثل للكرسي السعودي، وإذا رضيت إسرائيل ترضى أمريكا”.
وأضاف: إن “السعودية ستؤثر في رأي الدول العربية لأنها تملك المال، وهي تهدد من لا يسير في ركبها بعدم المساعدة المالية، وهذا ينطبق على الإمارات أيضاً، وهي تسير معها في ذات المركب؛ وهو المركب الإسرائيلي الأمريكي، وأينما يتجه يتجهوا، ولا خيار لديهم سوى البوصلة الأمريكية”.
وأشار الأكاديمي الفلسطيني إلى أن “أمريكا تحتقر العرب، وخاصة بعض السلطات الخليجية؛ فهي تحتقرهم بشدة، والسبب أنهم يبذّرون أموالهم على متعهم ولا يأبهون بعملية التنمية والتطوير، حتى إن درجة الوعي الاجتماعي والسياسي بالنسبة إلى الخليج نحو أمريكا ضعيفة جداً، ومن ثم لا يمكن لواشنطن أن تستشير مثل هذه الدول، إنما تأمرها، لكن بعد أن تستوي الطبخة يمكن أن تطلعهم عليها”.
ولفت إلى أن “الولايات المتحدة لا تثق بالعرب من الناحية الأمنية؛ لأن العرب يسرّبون المعلومات على الدوام ولا يحتفظون بها”.
من جانبه علق الأمير السعودي المعارض خالد بن فرحان آل سعود، في سلسلة تغريدات على موقع “تويتر”، يوم الأربعاء (29 يناير 2020)، على موقف السعودية من صفقة القرن قائلاً: “صرحتُ في يونيو 2018 عن الشروط الأمريكية لتولي بن سلمان عرش المملكة عبر تغريداتي في تويتر وفي الإعلام، وذكرت عدة شروط مستقبلية، وقد تحققت جميعها في خلال عامين فقط، القاعدة الأساسية في هذه الشروط هي الانصياع المطلق الكامل لأمريكا وإسرائيل وتحقيق كل مطالبهم”.
وأضاف الأمير خالد: “ثم تحقيق ثلاثة شروط على أرض الواقع لإتمام هذا الاتفاق؛ وهي باختصار: العمل جدياً وسريعاً لتوطين جميع سكان قطاع غزة بشمال سيناء في مصر كوطن بديل لهم، مع تكفل كل من السعودية والإمارات مالياً لتحقيق ذلك الشرط، ونرى جميعاً أن هناك تهجيراً قسرياً لسكان سيناء بمصر لإحلالها بالفلسطينيين”.
وأكمل: “القضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وخاصة كتائب عز الدين القسام ومن يدعمهم، وها نحن بصدد حرب شنعاء شنت من جانب مثلث الشيطان العربي السعودي المصري الإماراتي على الفلسطينيين وحركة حماس”.
وتابع أن الصفقة مع السعودية تضم “العمل جدياً على حصول السعودية على جزيرتي تيران وصنافير المصريتين بغرض حرية الملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة، وقد رأينا جميعاً اعتداء (رأس النظام المصري) عبد الفتاح السيسي على حكم المحكمة الإدارية العليا في مصر، التي حكمت ببطلان الاتفاقية القاضية بتبعية الجزيرتين للسعودية، والرأي العام المصري الرافض لها”.
وأشار الأمير المنشق عن حكم آل سعود إلى “العربون الهائل المتمثل في الجزية التي بلغت حوالي النصف تريليون دولار، والتي دفعها الملك سلمان للرئيس الأمريكي ترامب بقمة الرياض بـ2017 أثناء زيارته المهينة للمملكة وللمسلمين، كرشوة للرئيس ترامب لإزاحة محمد بن نايف وإحلاله (محمد بن سلمان)”.
وقال: “ها نحن اليوم بصدد تنفيذ آخر شرط لقبول ولي العهد محمد بن سلمان حاكماً منفرداً مستقبلياً على المملكة؛ وهي تمرير وتنفيذ بصقة القرن والخسة والمهانة والخيانة (صفقة القرن)، التي سوف تلقي كل ضالع في وحلها إلى مزبلة التاريخ من أقذر أبوابه”.
تطبيع متواصل
ويأتي موقف السعودية بعد ترويج إعلامي سابق لـ”صفقة القرن” عبر وسائلها الإعلامية الرسمية والوسائل التابعة لها والمقربة منها، وسلسلة من الخطوات التطبيعية المتواصلة والمتزايدة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية بين الجانبين حتى الآن فإن النشاطات التي يقوم بها الجانبان في هذا الإطار باتت بشكل معلن مؤخراً، حيث سمحت للصحافة الإسرائيلية بإعداد تقارير من داخل المملكة، وزار فريق القناة 12 الإسرائيلية المدينة المنورة وجدة والرياض.
ووقَّع وزير داخلية الاحتلال الإسرائيلي، أرييه درعي، يوم الأحد (26 يناير 2020)، على قرار يسمح للإسرائيليين بزيارة السعودية، حيث يمكّن القرار الإسرائيليين من السفر إلى السعودية لتأدية الشعائر الدينية في أثناء الحج والعمرة، أو في إطار رحلة عمل لا تتجاوز 9 أيام.
كما حملت الزيارة غير المسبوقة إلى معسكر الإبادة النازي السابق “أوشفيتز بيركينو” في بولندا، من قبل وفد يضم عدداً من مشايخ مسلمين، ترأسهم وزير العدل السعودي السابق والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الجديد، محمد بن عبد الكريم العيسى، يوم الخميس (23 يناير 2020)، إشارة أخرى للتطبيع السعودي مع “إسرائيل”، وسط إشادة من قبل “تل أبيب” بذلك.
ويتعهد نتنياهو بين الحين والآخر بـ”توقيع اتفاقات سلام تاريخية مع مزيد من الدول العربية، وتشكيل تحالف دفاعي مع الولايات المتحدة، وكبح إيران نهائياً”.