مع إعلان إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إنهاء الدعم للحملة العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن، والتدقيق بشكل أكثر على مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى الرياض، واتخاذ قرار برفع السرية عن تقرير استخباراتي حول قضية مقتل الصحفي “جمال خاشقجي”، يجب على المملكة الآن التكيف مع بيت أبيض جديد أقل صداقة للسعودية من إدارة “دونالد ترامب”.
وبخلاف قمة العلا التي عُقدت في أوائل شهر يناير/كانون الثاني وأدت إلى تقارب سعودي قطري رسمي، قد تسعى الرياض إلى تهدئة التوترات مع تركيا من أجل الحصول على مزيد من الخيارات في المنطقة وسط فترة من عدم اليقين في العلاقات السعودية الأمريكية.
وقد أشارت البيانات الصادرة من أنقرة والرياض خلال الفترة ما بين فوز “بايدن” الانتخابي وتنصيبه، إلى أن التحسن في العلاقات التركية السعودية قد بدأ في التبلور. ففي 21 نوفمبر/تشرين الثاني، أجرى الرئيس “رجب طيب أردوغان” والملك “سلمان بن عبدالعزيز” مكالمة هاتفية قبيل انطلاق قمة مجموعة العشرين في السعودية. وأعرب الزعيمان عن إيمانهما المشترك بضرورة استمرار الحوار التركي السعودي من أجل التغلب على المشاكل في العلاقات الثنائية.
وبعد فترة وجيزة، صرح وزير الخارجية السعودي “فيصل بن فرحان آل سعود” أن علاقة المملكة مع أنقرة كانت “جيدة وودية” ونفى أي مقاطعة سعودية غير رسمية لمنتجات تركيا. وبعد انتهاء القمة الافتراضية هنأ “أردوغان” السعوديين بنجاح تنظيم الفعالية.
وفي 26 نوفمبر/تشرين الثاني، ناقش كبير الدبلوماسيين في أنقرة “مولود جاويش أوغلو” ونظيره السعودي العلاقات التركية السعودية بالإضافة إلى القضايا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وصرح الوزير التركي أن “الشراكة القوية بين تركيا والسعودية لا تفيد بلدينا فحسب، بل المنطقة بأسرها”.
وجاءت هذه الرسائل الإيجابية في أعقاب الدعم الذي قدمته السعودية لتركيا بعد زلزال بحر إيجه والذي ضرب تركيا واليونان في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2020. فهل يمكن أن تكون هذه التحركات الدبلوماسية دليلاً ملموسًا على تصميم الرياض وأنقرة على تطوير علاقة ثنائية أكثر دفئًا في عام 2021؟
ورغم إنهاء السعودية حصارها لقطر وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة، فهناك العديد من المشاكل في علاقة الرياض مع أنقرة لن يكون من السهل معالجتها. وتشمل هذه العقبات قضية “خاشقجي”، والحرب الأهلية في ليبيا، ودعم الرياض لـ”وحدات حماية الشعب” الكردية، وادعاءات تورط السعودية في محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016، ودعم المملكة لليونان حيث لا تزال التوترات عالية في شرق البحر المتوسط. وقد أدت كل هذه القضايا إلى انهيار الثقة بين تركيا والسعودية.
وبالرغم من أن الولايات المتحدة ليست المتغير المهم الوحيد في المعادلة، فإن وصول “بايدن” إلى البيت الأبيض يتطلب تعديلات مهمة من كل من أنقرة والرياض. ومن المنطقي أن نفترض أن السعودية وتركيا قد تتصرفان بشكل مختلف في فترة ما بعد “ترامب” وقد تقرران أن العائد سيكون أكثر من التكلفة إذا تم تحويل مسار العلاقات الثنائية بطرق تؤدي إلى علاقات أكثر دفئًا.
وقال “علي باكير”، الخبير في شؤون الشرق الأوسط والمقيم في أنقرة، إن “ترامب” أعطى الضوء الأخضر لـ”بن سلمان” لقمع خصومه وأفراد أسرته ورجال الأعمال والمثقفين وناشطي حقوق الإنسان”. وساعد “ترامب” ولي العهد السعودي على الإفلات من تداعيات مقتل “خاشقجي” داخل قنصلية بلاده في إسطنبول. كما سمح للمملكة بمواصلة حملتها العسكرية في اليمن دون قيود وأرسل قوات إلى السعودية للدفاع عنها ضد إيران. وفي هذا السياق، لن يكون “بايدن” مثل “ترامب”.
تواجه القيادة التركية أيضًا، التي كانت راغبة مثل السعودية، في فوز “ترامب”، حقائق رئاسة “بايدن” التي يمكن أن تخلق معضلات لأنقرة. ويمكن لقضايا مختلفة مثل الروابط الدفاعية بين تركيا وروسيا، والتوترات في شرق البحر المتوسط، والعلاقات بين الولايات المتحدة و”وحدات حماية الشعب” الكردية، وقضايا حقوق الإنسان أن تزيد من الاحتكاك بين أنقرة وإدارة “بايدن”. وبالتالي، ترغب أنقرة في تحسين العلاقات مع كل من السعودية وإسرائيل من أجل مواجهة مشاكل تركيا المحتملة مع القيادة الجديدة في واشنطن.
في الوقت نفسه، فإن تخفيف التوتر في العلاقات السعودية القطرية يمكن أن يبشر بالخير فيما يخص العلاقات بين الرياض وأنقرة. فبعد أن حدثت مصالحة خليجية جزئية، يمكن للأتراك تحسين علاقاتهم مع الرياض دون الاضطرار إلى القيام بذلك على حساب تحالف أنقرة-الدوحة. ومع بدء التقارب السعودي القطري، من المرجح أن ترى المملكة أن الوجود العسكري التركي في قطر أقل تهديدًا للرياض حتى لو ظل مصدر توتر.
ومع ذلك، هناك عقبات حتمية ستواجه تركيا والسعودية لدفع عملية التقارب الخاصة بهما. فلا يمكن إنكار وجود توتر أكبر بين “أردوغان” و”بن سلمان” أكثر من التوتر بين الرئيس التركي والملك “سلمان”. وقد وصفت وسائل الإعلام التركية “بن سلمان” بأنه المحرك الأساسي لموقف الرياض المناهض تركيا.
وقد أدلى “بن سلمان” بتصريحات في الماضي تصف تركيا بأنها عضو في “مثلث الشر”، حتى في الوقت الذي حافظ فيه الملك “سلمان” و”أردوغان” على علاقة الاحترام. وفي المقابل، لم يصرح الرئيس التركي أبدًا، ولم يشر حتى ضمنيًا، إلى أن يدي “بن سلمان” ملطخة بالدماء فيما يتعلق بقضية “خاشقجي”، حتى مع استمرار أنقرة في زيادة الوعي بدور “بن سلمان” في مقتل “خاشقجي”.
ويبقى أن نرى كيف سيؤثر صعود محمد “بن سلمان” إلى العرش السعودي على علاقة الرياض بأنقرة، وهو الأمر الذي قد يقوض بسهولة احتمالات أي تقارب طويل الأمد.
دور الإمارات
من الصعب إغفال دور الإمارات في هذا التحليل نظرًا لمدى نفوذ هذه القوة الخليجية على السعودية والجهات الفاعلة الأخرى في الشرق الأوسط. ولا شك أن أبوظبي لديها نظرة سلبية لأي تحسن في العلاقات السعودية التركية. وبالرغم أن السعودية واجهت مشاكل كبيرة في علاقتها مع أنقرة في السنوات الأخيرة، إلا أن علاقات الإمارات مع تركيا تدهورت أكثر بكثير.
تعتبر قيادة أبوظبي أن تركيا هي أخطر دولة فاعلة في المنطقة، حتى أكثر من إيران. ويريد ولي عهد أبو ظبي “محمد بن زايد” إبقاء السعودية متحالفة بقوة مع أبوظبي ضد تركيا. ولدى “بن زايد” مصلحة في خلق فجوة عميقة بين الحكومتين السعودية والتركية، ويمكن لأبوظبي الاستمرار في اللعب بأوراقها لمحاولة إبقاء هذه التوترات عالية.
وقد أوضح “بولنت أراس”، أستاذ العلاقات الدولية في مركز دراسات الخليج بجامعة قطر، في مقابلة مع موقع “إنسايد أرابيا”، أن وجهة النظر في أنقرة هي أن “الإمارات ستعمل على منع التقارب بين تركيا والسعودية”. وأضاف:”هناك أدوات سياسية وإعلامية يمكن أن تستخدمها الإمارات ضد التقارب السعودي التركي ما لم تكن هناك إرادة سعودية حاسمة لهذه الخطوة”.
وفي حين أن التقارب السعودي التركي ليس مؤكدا، فمن الآمن القول بأن أي تحسن كبير في العلاقات بين أنقرة والرياض سيترك المسؤولين في أبوظبي في حالة استياء. فقد أمضت الإمارات السنوات الأخيرة في العمل على إنشاء كتلة صلبة من الجهات الفاعلة المناهضة لتركيا والتي من شأنها أن تعمل معًا من أجل مواجهة نفوذ أنقرة.
وكان التقارب الإماراتي مع النظام السوري وإضفاء الطابع الرسمي على العلاقات الدبلوماسية بين أبوظبي وإسرائيل خطوتين جريئتين تم اتخاذهما لأسباب مختلفة، من ضمنها سعي الإمارات لتوحيد المزيد من اللاعبين الإقليميين ضد أنقرة.
ومن المؤكد أن ابتعاد السعودية عن الجهود التي تقودها أبوظبي لتحدي تركيا يمكن أن يصبح مصدرًا جديدًا للتوتر في العلاقات بين السعودية والإمارات في عام 2021. كما أن ذلك قد يكون مؤشرا على انهيار التحالف المناهض لتركيا والذي بدأت أبوظبي في تأسيسه في عام 2019.
وسيحتاج السعوديون في الأشهر والسنوات المقبلة إلى اتخاذ قرارات صعبة فيما يخص تموضع الرياض من “الحرب الباردة” بين أنقرة وأبوظبي.