هاجمت المملكة العربية السعودية الولاية القضائية العالمية واعتبرتها تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول وانتهاكاً لسيادتها، في خطوة تعكس تصاعد مخاوف الرياض من القضايا المنظورة خارج حدود المملكة ضد ولي عهدها محمد بن سلمان وبعض مساعديه.

وجاء الموقف السعودي بعد أيام من استدعاء محكمة أمريكية للأمير بن سلمان للتحقيق معه في الاتهامات التي وجهها إليه المسؤول المخابراتي السعودي السابق سعد الجبري.

وعلى لسان رئيسة وفد السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة، نداء أبو علي، دعت المملكة (الأربعاء 4 نوفمبر)، إلى “عدم تقويض سيادة الدول والتدخل في شؤونها عبر استخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية”.

ودعت “أبو علي”، التي كانت تتحدث في اجتماع اللجنة السادسة بالجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى “عدم استخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية من أجل تقويض مبدأ سيادة الدول والتدخل في شؤونها الداخلية وحصانتها”.

كما طالبت المسؤولة السعودية بتحقيق المساواة بين الدول في تطبيق ذلك؛ “لأن محاولة تطبيق الولاية القضائية العالمية بعيداً عن هذه الأساسيات تعد ذريعة لتسييس القضاء في الدول”، حسب تعبيرها.

 

شروط سعودية

وترى الرياض أن اللجوء للولاية القضائية يجب أن يكون في حالات معينة متمثلة في الجرائم الخطيرة، وفي الحالات التي تكون فيها الدول التي ارتكبت فيها الجرائم غير راغبة في ممارسة ولايتها القضائية أو غير قادرة عليها.

ويمكن تلخيص هذه الدعوة السعودية في القول إن المملكة ترى أنه لا مجال لرفع أي دعوى قضائية خارج حدود البلد المعني بالجريمة، أو أن تسمح هذه الدولة بمقاضاتها خارج حدودها.

وتتقاطع هذه الانتقادات السعودية للولاية القضائية العالمية مع قضايا مرفوعة حالياً في الولايات المتحدة وفي تركيا، وتستهدف ولي العهد ومجموعة من كبار مساعديه.

وتتعلق القضايا بمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي قبل عامين على يد فريق سعودي داخل قنصلية المملكة في إسطنبول، وأيضاً بمحاولة اغتيال ضابط المخابرات السعودي السابق سعد الجبري، في كندا.

وبينما تواصل محكمة تركية نظر الاتهامات الموجهة لأكثر من 20 مسؤولاً سعودياً في قضية مقتل خاشقجي، استدعت محكمة واشنطن ولي عهد السعودية، ومسؤولين سعوديين آخرين، للتحقيق في اتهامات الجبري لهم بالسعي لتصفيته.

 

استدعاء

وأظهرت وثيقة لمحكمة واشنطن، بتاريخ الخميس 29 أكتوبر، أنها أرسلت مذكرة ورسائل استدعاء لابن سلمان عبر واتساب باللغتين العربية والإنجليزية، في 22 سبتمبر الماضي.

وفي أغسطس الماضي، تقدم الجبري، الذي كان مستشاراً لولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف، بدعوى قضائية، اتهم فيها ولي العهد الحالي بإرسال فريق لقتله في كندا على غرار جريمة مقتل خاشقجي داخل قنصلية بلاده بإسطنبول في أكتوبر 2018.

وإلى جانب بن سلمان، استدعت المحكمة الأمريكية سعود القحطاني (المستشار بالديوان الملكي والذراع اليمنى لولي العهد)، وبدر العساكر (مدير المكتب الخاص لولي العهد السعودي).

كما جرى استدعاء أحمد عسيري (نائب مدير الاستخبارات السعودية)، وجميعهم يواجهون اتهامات بالمشاركة في جريمة اغتيال خاشقجي قبل عامين.

وفي محاولة جديدة للإبقاء على قضية خاشقجي حيّة رغم محاولات القضاء السعودي تمويتها، رفعت خديجة جنكيز، خطيبة الصحفي السعودي الراحل خاشقجي، (الثلاثاء 20 أكتوبر)، دعوى أمام محكمة فيدرالية أمريكية ضد بن سلمان وأكثر من عشرين آخرين، واتهمتهم بـ”القتل المروّع”.

وتبدو انتقادات الرياض للولاية القضائية العالمية وتمسكها بعدم السماح برفع قضايا خارج حدود الدولة المعنية إلا بموافقتها، مفهومة بالنظر إلى حالة التسييس الكاملة التي يعيشها قضاء المملكة.

ففي 7 سبتمبر 2020، تراجعت المحكمة الجزائية بالرياض بشكل نهائي عن أحكام الإعدام التي صدرت بحق مدانين في مقتل خاشقجي، مكتفية بسجن 8 أشخاص بأحكام متفاوتة بين 7 سنوات و10 سنوات و20 سنة، وغلق مسار القضية، بعد إعلان عائلة خاشقجي العفو عن القتلة، وهو ما اعتبره حقوقيون قراراً حصل تحت الضغوط الرسمية.

كما برأت المحكمة القحطاني؛ لعدم توجيه تهم إليه، وعسيري؛ لعدم ثبوت تهم عليه، ومحمد العتيبي القنصل السعودي السابق في إسطنبول؛ بعد أن أثبت وجوده خارج القنصلية ساعة وقوع الجريمة.

وقد علّقت المقررة الأممية المعنية بجرائم الإعدام خارج نطاق القانون، أنييس كالامار، (الجمعة 3 يوليو)، بالقول إن المحاكمة التي بدأها القضاء التركي للمتهمين السعوديين بقتل خاشقجي “ستكون أكثر عدالة من تلك التي جرت في السعودية، حتى وإن لم تصل لهدفها”.

 

قلق متزايد

الدكتور عبد الله العودة، العضو المؤسس لمؤسسة “فجر” الحقوقية، قال إن هذه الاعتراضات السعودية على الولاية القضائية العالمية تعكس مخاوفها من تطور هذه القضايا المرفوعة ضد المملكة، وخاصة المتعلقة بخاشقجي.

وفي تصريح له، قال العودة إن الولاية القضائية العالمية “تزعج من يحاولون تحويل العالم إلى مسرح لجرائمهم، لأن هذه الولاية تدفع العالم إلى ملاحقة هؤلاء”.

ويرى العودة أن النظام السعودي لن يتخلّى بسهولة عن “المنشار” كوسيلة للتعامل مع الخصوم السياسيين، “لكنه فقط يحاول تقويض أي محاولة لمحاسبته على جرائمه؛ من خلال اعتبار الولاية القضائية الدولية “تدخلاً في شؤون الدول”.

وتابع: “من اغتال خاشقجي في إسطنبول، ثم حاول اغتيال الجبري في كندا، هو من لا يحترم سيادة الدول”، وذلك في إشارة لولي عهد الرياض.

رئيسة مجلس جنيف للحقوق والحريات، لمياء فضلة، تتفق مع الرأي السابق، وترى أن السعودية بدأت تتخوف- على ما يبدو- من تبعات الأخطاء التي ارتكبها بن سلمان منذ توليه ولاية العهد.

وفي تصريح لها قالت فضلة إن هذا التخوّف ليس فقط من قضية الجبري، لكنه يمتد إلى قضايا وانتهاكات تورطت فيها المملكة وأدت إلى تشويه سجلها الحقوقي؛ بدءاً من الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في اليمن تحت غطاء التحالف العربي، ثم قضية اغتيال خاشقجي والتنكيل بجثته بشكل مروع.

 

سجّل مزعج للمملكة

ويضاف إلى ما سبق، بحسب فضلة، “سجل الرياض الأسود في الإعدامات والانتهاكات الصارخة لحرية الرأي، وشن حملة اعتقالات لنشطاء في المجال الحقوقي والسياسي، وتعذيبهم ومعاملتهم بسوء في السجون”.

وأشارت مديرة  مركز جنيف للحقوق والحريات إلى أن هذه الملاحقات الدولية بدأت في إطار الولاية القضائية العالمية عندما استدعي ولي العهد من قبل محكمة أمريكية في قضية الجبري، وأيضاً الدعوى التي رفعتها خطيبة خاشقجي ومؤسسة “فجر” في الولايات المتحدة.

وهنا يكمن تخوف المملكة من أن مرحلة المساءلة على المستوى الدولي والتحقيق في هذه الجرائم والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني قد بدأت بالفعل، بحسب فضلة.

وقد تكون لهذه الدعاوى في إطار الولاية القضائية العالمية تبعات لا تخدم المستقبل الدبلوماسي للسعودية التي ستجد نفسها في صراع مع محاكم دولية وربما سيدخلها في أزمات دبلوماسية أخرى على غرار أزمتها مع كندا مثلاً.

كما يمكن لهذه الدعاوى القضائية أن تفتح المجال أمام هيئات ودول أخرى لممارسة حقها في مباشرة الولاية القضائية العالمية والمطالبة بالتحقيق في المزاعم بالانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني التي تورط فيها ولي العهد السعودي؛ لكون هذه الآلية هدفها ضمان المساءلة والحد من الإفلات من العقاب.

وخلصت فضلة إلى أن قيمة الولاية القضائية العالمية تكمن في أنها “البديل الوحيد حال فشل الدولة المعنية في تحمل مسؤوليتها عن التحقيق في هذه الانتهاكات ومقاضاة مقترفيها، وهو ما يحدث فعلاً في السعودية التي تستخف بحقوق الإنسان وتستمر في انتهاكاتها الجسيمة للقانون الدولي الإنساني”، حسب قولها لـ”الخليج أونلاين”.

 

الولاية القضائية العالمية

ويجرّم القانون الدولي جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية ومختلف انتهاكات حقوق الإنسان، ويفرض من ثم على جميع الدول أن تحقق في تلك الجرائم وتحاكم مرتكبيها أمام القضاء الوطني.

ولكن في حالة افتقاد القضاء الوطني شروط النزاهة والعدالة، لا يتبقى أمام ضحايا تلك الانتهاكات سوى اللجوء إلى دول يطبق نظامها القضائي قاعدة الولاية القضائية العالمية.

ويشكّل مبدأ الولاية القضائية العالمية إحدى الأدوات الأساسية لضمان منع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنسانية وتجريم مرتكبيها وقمعها.

ومع عجز المحكمة الجنائية الدولية عن ملاحقة جميع منتهكي حقوق الإنسان، فإن البعض يعلق آمالاً كبيرة على الولاية القضائية العالمية لتحقيق العدالة.

وينص نظام “المخالفات الجسيمة”، المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف الأربع والوارد بشكل موسّع في البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، على أن الدول الأطراف ملزمة بالبحث عن الأشخاص الذين يُدعى ارتكابهم، أو إصدارهم أوامر بارتكاب مخالفات جسيمة، ومحاكمتهم، بصرف النظر عن جنسيتهم، أمام محاكمها، أو تسليمهم إلى دولة طرف معنية أخرى كي تحاكمهم.

لكن هذه الآلية تصطدم بعدم قيام جهاز الشرطة الدولية “الإنتربول” بمهمته في توقيف المطلوبين للمثول أمام القضاء الدولي، كما أنه يصطدم بعدم انصياع الدول لقرارات تسليم مسؤوليها للمحاكمة في دول أخرى.

وسبق أن أصدرت محكمة بريطانية قرارت ضد مسؤولين إسرائيليين لكن أياً منهم لم يمثل أمامها، بيد أنهم أيضاً لم يعودوا قادرين على دخول المملكة المتحدة خوفاً من توقيفهم.

كما أن بعض الأنظمة السياسية تصدر قوانين داخلية تمنع مثول مواطنيها أمام محاكم أجنبية، على غرار ما حدث في مصر عام 2014؛ عندما أقرت قانوناً يمنع محاكمة المتورطين في جرائم ضد الإنسانية أمام قضاء أجنبي، وذلك عقب موجة القتل والاعتقالات التي أعقبت انقلاب يوليو 2013.