تؤثر الأزمات الاقتصادية المتتالية على العطايا السخية التي لطالما استخدمتها السلطات السعودية لشراء الدعم الشعبي، فيما حوّل ولي العهد تركيزه في “رؤية 2030” من الاقتصاد المعاد هيكلته إلى دعم السلطة السياسية للنظام.

ويرتبط المشروع، الذي يمكن أن نسميه “رؤية 2020″، ارتباطا وثيقا بسلطة “بن سلمان” غير المحدودة.

لهذا السبب، من وجهة نظر الأمير القوي، كان مقتل “جمال خاشقجي” منطقيا ومبررا؛ فقد دعا “خاشقجي” علنا إلى فرض قيود على هذه السلطة.

ويشعر “بن سلمان” أن السعوديين الذين يستخدمون المجال العام لتحدي أو اعتراض مساعيه من أجل ما يعتبره “الإسلام المعتدل” هم أعداء الدولة.

وظهر التناقض بين السعي إلى تركيز السلطة والحاجة المؤسسية والقانونية لبناء نظام سياسي وقانوني جديد عبر حدثين خلال الأسبوع الأخير من أبريل/نيسان 2020.

وشهد ذلك الأسبوع وفاة “عبدالله الحامد”، وهو ناشط بارز للإصلاح السياسي كان في السجن منذ عام 2012.

وتم حرمان “الحامد” من الرعاية الطبية حتى مات. لكن بعد 3 أيام، أبدت المحكمة العليا السعودية تحولا واضحا بإعلانها أن الجلد سيتم حظره من الآن فصاعدا وأن القاصرين لن يخضعوا لعقوبة الإعدام.

ويزعم رئيس لجنة حقوق الإنسان في السعودية أن بلاده “تمضي قدما في إصلاحات حقوقية جادة، حتى في ظل المشقة التي فرضها وباء كوفيد-19”.

 

من “رؤية 2030” إلى “رؤية 2020”

وكان من المفترض أن يقوم برنامج الإصلاح “رؤية 2030″ بإبعاد البلاد ببطء عن اعتمادها على صادرات النفط، لكن تلك الصادرات لا تزال تمثل نحو 42% من الناتج المحلي الإجمالي، و87% من الإيرادات المالية، و90% من عائدات التصدير.

ومع توقع انخفاض عائدات النفط بنسبة 40% هذا العام، تخطط البلاد لخفض الإنفاق بمقدار 13.32 مليار دولار، أي ما يقرب من 5% من الميزانية بأكملها.

وتعد الآثار السياسية لهذه التغييرات هائلة، وكما هو الحال في معظم أنحاء العالم العربي، لا يزال الاستقرار في السعودية يعتمد على صفقة، يوفر بموجبها النظام الوظائف ومستوى أساسيا من الرفاهية مقابل ولاء المواطنين، أو على الأقل الدعم الضمني.

وحدثت الانكماشات الاقتصادية مرات عديدة من قب،. وردا على ذلك، اعتمدت الأنظمة المتعاقبة على المؤسسة الدينية لدعم شرعيتها.

ولكن هذا أحد الخيارات التي لا يمكن لـ”بن سلمان” ممارستها بسهولة اليوم، ففي أعقاب توليه منصب ولي العهد في يونيو/حزيران 2017، أكد ولي العهد أن المملكة ستسعى الآن إلى “إسلام معتدل منفتح على العالم وجميع الأديان”.

ويبدو أن قرار “بن سلمان” اللاحق بتعليق عمل هيئة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، يشير إلى أنه كان يقصد ما قال، ولكن بحلول ربيع عام 2017، أجبر رد فعل عنيف في المؤسسة الدينية ولي العهد على عكس هذا القرار.

وإذا كانت فتاوى المؤسسة الدينية تتعارض مع مساعي “بن سلمان” من أجل “إسلام معتدل”، فإن دعوتها الطويلة إلى طاعة الدولة كانت متوافقة مع حملة ولي العهد لتركيز السلطة.

ومن ناحية أخرى، أنشأ النظام العديد من المؤسسات الدينية الجديدة المدعومة من الدولة، بما في ذلك “مجمع الملك سلمان”، وهي هيئة صادرة بمرسوم ملكي وعدت “بإلغاء النصوص المزيفة والمتطرفة وأي نصوص تتعارض مع تعاليم الإسلام”.

ولتدعيم هذا الجهد، جند “بن سلمان” الزعماء الدينيين الأصغر سنا نسبيا، بما في ذلك “محمد العيسى”، وزير العدل السابق الذي أصبح الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.

وخرج “العيسى” إلى المسرح العالمي في حملة علاقات عامة مصممة بوضوح لإظهار أن قادة المملكة الجدد يواجهون الخطابات القديمة مثل الخطاب الذي كانت ترعاه الدولة وتضمن إنكار محرقة اليهود.

وكان تأكيد “العيسى” في مقال رأي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” في يناير/كانون الثاني 2019 أن “المسلمين في جميع أنحاء العالم يتحملون مسؤولية التعرف على المحرقة” ليثبت لزعماء الولايات المتحدة وأوروبا الغربية أن “بن سلمان” ووالده عازمان على تعزيز “إسلام سعودي معتدل”.

 

حملة قمع

وتزامنت عروض الاعتدال الظاهري هذه مع حملة مستمرة منذ 3 أعوام لإسكات علماء الدين الذين يدعون إلى التعددية السياسية والديمقراطية.

وتم القبض على الشيخ “سلمان العودة”، و”عوض القرني”، و”علي العمري” في خريف 2017، بتهمة انتهاك قانون غامض الصياغة يمنح الحكومة الحق في اعتبار أي شكل من أشكال حرية التعبير على أنه “إرهاب”.

ولم تكن الجريمة الحقيقية لهؤلاء الثلاثة مجرد دعوتهم للتمثيل الديمقراطي؛ بل كانت خطيئتهم الأساسية أنهم تجرأوا على تحدي محاولة “بن سلمان” لتحديد محتوى وحدود الخطاب الإسلامي الرسمي.

وحقيقة أن “العودة” كان لديه 14 مليون متابع على “تويتر”، وغرد بدعاء في سبتمبر/أيلول 2017 يشجع على إنهاء أزمة الخليج في ذلك العام، وبالتالي الخوض في مسألة حساسة لـ”بن سلمان”، يساعد على تفسير سبب مطالبة الحكومة بإعدامه، إلى جانب “القرني” و”العمري”.

وبالتزامن مع هذه الإجراءات القمعية، جندت الحكومة رجالها مثل “عائض القرني”، لتصوير “العودة” وزملائه على أنهم “متطرفون” خطرون متأثرون بقوى خارجية، بما في ذلك إيران.

وفي حين أن الاتهام الأخير لا أساس له، فصحيح أن العديد من منتقدي النظام كانوا جزءا من “حركة الصحوة” أو ارتبطوا بها.

وفي الواقع، اعتذر “عائض القرني” في مايو/أيار 2019 لكونه كان جزءا من الحركة، التي اتهمها بأنها متطرفة ولا تعكس “الإسلام الحقيقي”.

وابتداء من التسعينات، وفي أعقاب الربيع العربي عام 2011، ظهر تيار ديمقراطي من داخل حركة الصحوة. وأنتج هذا التحول عددا لا يحصى من الأفكار غير المترابطة التي كان موضوعها المشترك هو توافق الإسلام والديمقراطية.

وكان “العودة” أحد أكثر المتحمسين لهذه الأفكار، وفي إشارة إلى تنوع وجهات النظر في الثورات العربية لعام 2011، رأى أن الهدف المشترك للمتظاهرين هو استعادة الكرامة للشعوب العربية.

وبالرغم أن الحكومة السعودية شنت حملة تشويه اتهمته فيها بالتعاون مع “الإخوان المسلمون” في مصر، فمن المنطقي أن نفترض أن السبب وراء هذه الحملة كان القلق الدائم من أن “العودة” يسرق الأضواء من جهود النظام للترويج لـ”نسخة معتدلة من الإسلام”.

 

الوقوف عند وفاة “عبدالله الحامد”

وتؤكد وفاة “عبدالله الحامد” في السجن، في 23 أبريل/نيسان 2020، العزم المستمر لـ”بن سلمان” وحلفائه على خنق المعارضة.

وكان “الحامد” أحد الأعضاء الرئيسيين في حركة الصحوة، وهو المؤسس المشارك للجمعية السعودية للحقوق المدنية والسياسية، القوة المحركة وراء عريضة ظهرت في عام 2009 تطالب القيادة السعودية بتوفير الحقوق السياسية والتمثيل الديمقراطي.

وتأسست المنظمة عام 2009، وفي عام 2012، وجهت انتقادات متكررة لسجل الحكومة في مجال حقوق الإنسان، وتم اعتقال “الحامد” والمؤسس المشارك “محمد فهد القحطاني”، وحكم عليهما بالسجن لمدة 11 و10 أعوام على التوالي.

وفيما بعد تم شن حملة قمع واسعة النطاق شملت سجن 9 أعضاء آخرين في المنظمة واعتقال ناشطي حقوق الإنسان، ناهيك عن اغتيال “جمال خاشقجي” في أكتوبر/تشرين الأول 2018، وإعدام 37 مواطنا في 23 أبريل/نيسان 2019 بتهمة نشر “أفكار إرهابية متطرفة”.

وفضلا عن هذه الإجراءات، مارس النظام نوعا من التعذيب الجماعي الذي تم من خلاله الإساءة النفسية والجسدية لعشرات المعتقلين.

وبحسب ما ورد، دفعت التقارير المسربة عن هذه الانتهاكات الملك “سلمان” إلى الضغط من أجل إجراء تحقيق في ظروف 60 سجينا، معظمهم من النساء.

ومع ذلك، يُظهر مصير “الحامد” أن الحكومة لا تزال على استعداد لحرمان الناشطين من الرعاية الصحية، وبالتالي الحكم عليهم بمزيد من الألم أو الموت البطيء.

ووقعت وفاة “الحامد” في اليوم الأول من رمضان، وفي خضم جائحة، ومع ذلك لم يفت العديد من منظمات حقوق الإنسان والقادة أن يتفاعلوا مع وفاته، بل دعوا المسؤولين السعوديين إلى إظهار التعاطف بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين.

ومع ذلك، فإن الحكومة التي نفذت العام الماضي رقما قياسيا من أحكام الإعدام بلغ 184 شخصا لا تظهر أي علامة على التراجع، حتى مع استمرارها في إعلان التزامها بسن إصلاحات في مجال حقوق الإنسان، التي يعد المسؤولون بأنها ستستمر حتى في ظل الأزمة التي فرضتها جائحة كوفيد-19″.

 

“كورونا” يعقد رؤية “ابن سلمان”

ومن المؤكد أن الوباء قد عقّد خطط “بن سلمان” للإصلاح، وبحلول 4 مايو/أيار، سجلت المملكة 28 ألفا و656 حالة إصابة بالفيروس التاجي، وهي أعلى نسبة في الخليج العربي.

وفي الواقع، بحلول 10 أبريل/نيسان، وصل الفيروس إلى العائلة المالكة، ما أدى إلى إصابة 150 من أفرادها على الأقل.

وربما ارتفع هذا العدد منذ ذلك الحين، وهو تطور دفع “بن سلمان” على الأرجح إلى مزيد من الدفاع عن مكاسبه، ومع تمديد حظر التجول على مدار 24 ساعة إلى أجل غير مسمى، ربما تعززت قدرته على مراقبة منافسيه داخل الوطن بشكل كبير.

ولا تزال التوقعات على المدى الطويل غير مؤكدة، ولكن يرى العديد من المحللين أن أزمة “كوفيد-19” ستؤدي إلى انخفاض دائم في الطلب على النفط والغاز.

ووفقا لـ”رؤية 2030″، كان من المفترض خلال هذه الأيام تعزيز الانتقال إلى اقتصاد السوق الخاص الأكثر تنوعا.

لكن “بن سلمان” لم يحسب أنه سيتعين عليه أن يكافح في وقت أقرب بكثير مما توقعه مع عالم جديد، عالم يتميز بتراجع العولمة وتراجع قبضة “أوبك” مع مستويات أقل بكثير من استهلاك النفط.

وبينما يحاول “بن سلمان” اللحاق بالركب، ربما يعتمد أكثر على التكتيكات القمعية، لتصبح فكرة الإصلاح نوعا من السراب، تاركة ملك السعودية المستقبلي أمام خيارات أقل في الداخل وخيارات أقل وأقل في الساحة العالمية.