الشيء الواحد المؤكد، هو أن المحنة السياسية للفلسطينيين عرضة للتدهور نتيجة للمفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل، والتطبيع المحتمل بين الرياض وتل أبيب.

هكذا يخلص تحليل لـ”المركز العربي واشنطن دي سي”، ترجمه “الخليج الجديد”، بعد أسابيع من الروايات المتضاربة من كتاب الأعمدة والصحفيين حول نتيجة الدبلوماسية المكوكية المكثفة التي قامت بها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بهدف إقناع السعودية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل.

إلا أن إعلان تعيين السعودية، في وقت سابق من الشهر الجاري، سفيرها لدى الأردن نايف السديري، سفيرا فوق العادة وغير مقيم لدى فلسطين وقنصل عام في القدس، وصف بأنه أمر غير معهود من أسلوب العمل الدبلوماسي الهادئ المعتاد.

هذه الخطوة المفاجئة، وفق صحيفة “نيويورك تايمز”، أضفت بعدا مؤسسيا على العلاقات الثنائية السعودية مع السلطة الفلسطينية.

وفي أول تقرير لها عن هذا المشروع الدبلوماسي، سلطت وكالة الأنباء السعودية الرسمية “واس” (رسمية)، الضوء، على ترحيب وزارة الخارجية الفلسطينية بالقرار السعودي المتعلق بتعيين السديري.

وفي ظل الغياب الملحوظ لأي حملة إعلامية سعودية موجهة بشكل محدد لتوضيح القرار، والذي لا يزال غير مبرر حتى الآن، لجأت وكالة الأنباء السعودية مرة أخرى إلى نقل إشادة دبلوماسيين فلسطينيين بقرار الرياض لتأكيده “اهتمام المملكة بالقضية الفلسطينية” و”استمرارها في مواقفها التاريخية الداعمة للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني”.

ولم يصدر أي بيان رسمي من مجلس الوزراء السعودي، ولم يتم إجراء مقابلات خاصة مع مسؤولين رفيعي المستوى، ولم يتم الإدلاء ببيانات مفصلة من وزارة الخارجية في هذا الصدد.

وفي وقت لاحق، اعترف السديري، وهو دبلوماسي سعودي ذو خبرة عمل سفيراً لبلاده لدى كندا بين عامي 2014 و2018، بالطبيعة المتسرعة للحدث.

وكشف أنه لم يتلق أي تعليمات أخرى بشأن تعيينه، لكنه أصر على أن اهتمام السعودية بالقضية الفلسطينية سيأخذ أبعادا أكبر.

لكن، يقول التحليل إنه على عكس المحاولة السابقة للسعودية للتطبيع مع إسرائيل عبر مبادرة السلام العربية التي صدرت في 28 مارس/آذار 2002، لم يرافق تعيين السديري سوى تفاصيل قليلة، ولم يتبع ذلك أي تفسير فوري أو شامل من الرياض، ولم تُعقد قمة عربية، ولم يتم الربط بين الأمم المتحدة أو القانون الدولي المتعلق بفلسطين، ولم يتم تقديم أي تفسير بشأن الطريقة المتسرعة التي تم بها تنفيذ التعيين.

كما لم يتم تقديم أي مبرر لاختيار مكان متواضع لتقديم أوراق اعتماد السفير السديري أو غياب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عما اعتبره الكثيرون حدثًا دبلوماسيًا تاريخيًا.

ومن المقرر تسليم أوراق اعتماد السفير السعودي، حسب “ميدل إيست مونيتور”، إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس قريبا.

وعلى الرغم من أنه لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت الخطوة السعودية قد تم تنسيقها مع إدارة بايدن، أو حكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل، أو السلطة الفلسطينية، فمن الواضح أن الرياض اختارت اتباع مسار دبلوماسي محفوف بالمخاطر وطموح للغاية بالنظر إلى التداعيات المحتملة في الداخل والخارج.

ومن المرجح أن المملكة كانت تأمل في أن يحقق عنصر المفاجأة مزايا سياسية معينة في مفاوضاتها المتقطعة مع الولايات المتحدة، الهدف الرئيسي لشروطها الجادة ومطالبها بقبول صفقة التطبيع الكبرى مع إسرائيل.

وبعد كل شيء، يبدو أن اللفتة الدبلوماسية السعودية تجاه الفلسطينيين كانت، وفقًا لمصادر مطلعة في واشنطن، نتيجة لإصرار إدارة بايدن أكثر من أي عامل سياسي سعودي، سواء كان محليًا أو إقليميًا أو دوليًا بطبيعته.

ولا تستطيع السعودية ببساطة تطبيع العلاقات مع إسرائيل دون تقديم “ورقة توت”، مثل رفع علاقاتها مع دولة فلسطين إلى مستوى السفراء، وفق التحليل ذاته.

ومنذ بداية عام 2023، أعرب بايدن بشكل متكرر عن تطلعه السياسي إلى اتفاق تطبيع سعودي إسرائيلي، مما رفع القضية إلى قمة أجندة الأمن القومي لإدارته في المنطقة.

وينبع سعي بايدن الدؤوب للتوصل إلى اتفاق سعودي إسرائيلي بشكل أساسي من اعتقاده الراسخ بأن مثل هذا الإنجاز الدبلوماسي لن يمنحه يد فوز قوية في السباق الرئاسي لعام 2024 فحسب، بل سيعمل أيضًا على تحييد المنتقدين الصاخبين في الداخل، وخاصة أصدقاء إسرائيل في الكونجرس.

وهؤلاء غير راضين عن تعامل بايدن غير الحازم مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي وعد ذات مرة بمحاسبته على مقتل كاتب العمود في صحيفة “واشنطن بوست” جمال خاشقجي، ومع خسارة الرئيس السعودية المزعومة لصالح الصين.

بالإضافة إلى ذلك، من وجهة نظر بايدن، فإن خطة التقارب ستعمل على الأرجح على استرضاء إسرائيل ومؤيديها الأمريكيين من خلال إضافة المملكة باعتبارها الجائزة النهائية على قائمة التطبيع العربي التي تم تسليمها حتى الآن إلى إسرائيل، المستفيد الرئيسي من العملية برمتها

ومع ذلك، على الرغم من هوس بايدن بهذه القضية، وبغض النظر عن إرساله المتكرر لمساعدين رئيسيين في مجال السياسة الخارجية والأمن القومي إلى المنطقة، بما في ذلك وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، والمساعد الخاص للرئيس بريت ماكغورك، والمنسق الرئاسي الخاص للبنية التحتية العالمية وأمن الطاقة عاموس هوشستين، لم تنجح الإدارة في الأشهر الأخيرة في صياغة سياسة متماسكة لإقناع حليفيها الرئيسيين في المنطقة (إسرائيل والسعودية) بالتوصل إلى اتفاق تطبيع مقبول للطرفين مع احتمالات حدوث ذلك، لكسب دعم سياسي واسع النطاق بين جماهيرها.

يشار إلى أنه منذ بداية مساعي التطبيع السعودية الإسرائيلية، عكست التغطية الإعلامية الأمريكية والعالمية للجهود الدبلوماسية ذات الصلة مناخًا من الفوضى والتردد في البيت الأبيض.

ففي 28 يوليو/تموز 2023، على سبيل المثال، تفاخر بايدن شخصيًا أمام مجموعة من المساهمين في الحملة الانتخابية في ولاية ماين بأن “التقارب جارٍ”، مما يعني أن التطبيع السعودي الإسرائيلي أصبح قاب قوسين أو أدنى.

في اليوم السابق، كتب توماس فريدمان في عموده الذي يقرأ على نطاق واسع في صحيفة “نيويورك تايمز”، أن بايدن، الذي أجرى مقابلة معه قبل أسبوع، أكد أنه “يتصارع مع ما إذا كان سيتابع إمكانية تحقيق أمن مشترك بين الولايات المتحدة والسعودية في اتفاق يتضمن تطبيع السعودية للعلاقات مع إسرائيل”.

علاوة على ذلك، ورد أن المسؤولين الأمريكيين الذين تحدثوا إلى صحيفة “وول ستريت جورنال” أعربوا عن تفاؤل حذر بأنهم سيتمكنون من التوصل إلى اتفاق سلام في الشرق الأوسط بحلول منتصف عام 2024.

وذكرت الصحيفة أن “الولايات المتحدة والسعودية اتفقتا على الخطوط العريضة لاتفاق يقضي بأن تعترف الرياض بتل أبيب، مقابل تنازلات للفلسطينيين وضمانات أمنية أمريكية ومساعدة نووية مدنية”.

ومع ذلك، فقد أثبتت الإجراءات والتطورات اللاحقة أن هذا البيان سابق لأوانه.

وكان صحفيون في صحيفة “واشنطن بوست”، أكثر رصانة في تفسيرهم للاتفاق الوشيك من زملائهم في صحيفة “وول ستريت جورنال”، وعلى الرغم من اعترافهم بأن الأطراف لا تزال “في المراحل الأولى من المفاوضات” نحو اتفاق فعلي، إلا أنهم كتبوا أن “عقبات خطيرة تقف في طريق أي اتفاق محتمل”.

وحتى أنهم استشهدوا بمتحدث أكثر تحفظا باسم مجلس الأمن القومي وهو جون كيربي، الذي حذر من التقارير التي “تركت لدى بعض الناس انطباعا بأن المناقشات أبعد مما هي عليه في الواقع”.

ومع ذلك، كانت كاتبة العمود جينيفر روبين أكثر قوة في انتقادها للتقييم المفرط في التفاؤل من “وول ستريت جورنال”، وطلبت في عمودها الصادر بتاريخ 13 أغسطس/آب، من قراءها عدم تصديق كل ما يقرأونه، “خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط”.

ووصفت روبين على وجه التحديد تقارير صحيفة “وول ستريت جورنال” حول اتفاق أمريكي سعودي إسرائيلي محتمل بأنها “ليست قريبة حتى” من الدقة.

وقالت إن المحادثات الدبلوماسية المكثفة خلال الأشهر القليلة الماضية “لا تعني أن الاتفاق وشيك”.

وفي نهاية المطاف، اضطر كبار المسؤولين في الإدارة إلى التدخل لتقليل التوقعات الناتجة عن هذا الهيجان الإعلامي والدفاع ضد اتهامات الفوضى والفشل المحتمل.

وأطلع سوليفان وسائل الإعلام في 22 أغسطس/آب، على أنه “لا تزال هناك طرق للسفر” قبل التوصل إلى اتفاق بين السعودية وإسرائيل، مؤكدا أن “القضايا الفنية للغاية” لا تزال دون حل.

ومع ذلك، واصل البيت الأبيض الالتزام بالموعد النهائي للانتخابات قبل عام 2024.

ومن المشكوك فيه، وفق التحليل، أن توافق إسرائيل على طلبات المملكة.

وعلى الرغم من أن الإعلان السعودي لم يترك أي مجال للشك حول نيتها المشروطة بالاعتراف بدولة إسرائيل، فإن رد نتنياهو على البادرة السعودية كان فاترا في أحسن الأحوال، ومترددا كما كان طوال العملية التي قادتها الولايات المتحدة.

كما واصل كبار أعضاء الحكومة الائتلافية التي يقودها الليكود، وخاصة دائرتها الداخلية المطلعة جيدًا، بما في ذلك وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر ومستشار الأمن القومي تساحي هنغبي، تثبيط التوقعات العامة في الداخل والخارج، مع الإصرار أيضًا على أن “التقدم لا يزال ممكنًا”.

وكما هو الحال في المحاولات السابقة لتحقيق السلام العربي الإسرائيلي، أصر نتنياهو وشركاؤه على الحصول على الكعكة وتناولها أيضاً، وهي استراتيجية الليكود النموذجية المتمثلة في الرغبة في التوصل إلى صفقة دون تقديم أي شيء في المقابل

وقال مسؤول سابق في الأمن القومي الإسرائيلي لصحيفة “ذا ناشيونال”، إنه لا تزال هناك تحديات كبيرة أمام إبرام الصفقة.

ولإضافة المزيد من الارتباك، قال وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي يُعتقد على نطاق واسع أنه خارج دائرة هذه القضية، أكثر تفاؤلاً بأن الاتفاق على وشك التوصل إليه، موضحًا أن إسرائيل لديها “مصلحة في تحسين الحياة في مناطق السلطة الفلسطينية”.

وعلى الرغم من أن نتنياهو سعى دائمًا إلى التطبيع السعودي، بل وجعله محوريًا في حملته الانتخابية العام الماضي، إلا أن الاضطرابات السياسية في إسرائيل بشأن خططه للإصلاح القضائي قد حرمت بلا شك الحكومة من الاستقرار الذي تحتاجه في الداخل، لعقد مناقشات مع إدارة بايدن بشأن مطالب السعوديين مقابل التوصل إلى اتفاق.

كما أن المجتمع الإسرائيلي المنقسم سياسيا جعل من المستحيل تقريبا على رئيس الوزراء تأمين الإجماع الوطني اللازم للموافقة على مثل هذه الصفقة التاريخية والضخمة.

وعلى الرغم من أن نتنياهو كان يأمل منذ فترة طويلة في الاعتراف السعودي، إلا أنه ربما لم يتوقع أن الرياض ستطالب بمثل هذا الثمن الباهظ، ولذلك، شكك العديد من المحللين السياسيين في إسرائيل في قدرته أو استعداده لعقد صفقة مع بايدن أو بن سلمان.

فعلى سبيل المثال، أعرب آرييل كوهين من المجلس الأطلسي عن شكوك جدية حول استعداد رئيس الوزراء لدفع ثمن سياسي يعتبره باهظًا للغاية في هذه المرحلة المتأخرة من حياته المهنية، خاصة إذا كان ذلك يتطلب تفكيك حكومته الائتلافية الضعيفة وغير المستقرة.

وبعبارة أخرى، فإن القضية الفلسطينية هي على الأرجح ما سيفسد الصفقة، وهو ما ذكره وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش لإذاعة الجيش الإسرائيلي في 28 أغسطس/آب 2023، إن حكومة نتنياهو “لن تقدم أي تنازلات للفلسطينيين.. إنه خيال”.

ويختتم التحليل بالقول: “هل سيغير بنيامين نتنياهو مواقفه فجأة ويفاجئ العالم برده، أم سيبقى عالقا إلى الأبد في خياله الصهيوني؟.. فقط الوقت كفيل بإثبات ذلك”.