“قنبلة موقوتة.. منظر بيوتهم بشع.. ماذا استفدنا من هذه الجاليات؟.. ينتشر بينهم الإيدز والجرب.. ينشرون صناعة الخمور بالمملكة”.. بهذه التعليقات وغيرها شنت حسابات سعودية موالية للنظام الحاكم على موقع التدوينات القصيرة “تويتر” حملة تحت عنوان “#انقذوا_مكة_من_البرماويه”، تضمنت هجوما ضاريا على أبناء جالية “الروهينجا” المسلمين في مكة المكرمة، ومطالبات للسلطات بترحيلهم إلى ميانمار.
وعج الوسم بصور وفيديوهات للأحياء التي يقطنها البورميون في مكة على بعد كيلومترات قليلة من المسجد الحرام، وقد تراكمت فيها القمامة، زاعمين أن هذه الأحياء سبب رئيسي في أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) بمكة.
وتجاوزت بعض الحسابات التحذير من الخطر الصحي إلى حديث عن تهديد أمني للمملكة بشكل عام، ولمكة بشكل خاص، بهدف “محاولة إحداث تغيير ديموجرافي فيها” وتنشئة أجيال بورمية على فكرة أن مكة ملك لهم.
فمن هم البورميون؟ وما هي قصتهم في السعودية؟ ولماذا تُشن حملة ضدهم في هذا التوقيت تحديدا؟
تعود الإجابة إلى نحو 70 عاما مضت، حينما هاجرت أول دفعة من المسلمين المضطهدين من بورما (أو ما يعرف حاليا بميانمار)، الواقعة جنوب شرق اسيا، بعد حملات إجلاء إجبارية نظمتها ضدهم سلطات بلادهم بدعم من المتطرفين البوذيين.
ونتيجة لذلك، هاجر مسلمو الروهينجا الذين هجروا من ولاية أراكان إلى دول إسلامية منها باكستان وتايلاند والهند وماليزيا، إضافة إلى بعض دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، حيث بدأت قصة “البرماوية” في مكة المكرمة.
4 هجرات
في الستينيات من القرن الهجري الماضي (1360 للهجرة – 1940)، وقعت أول هجرة للبورميين إلى بلاد الحرمين يحدوهم الشوق إلى مجاورة بيت الله الحرام لقضاء بقية حياتهم في العبادة وخدمة البيت المعظم، وصرفت لهم حكومة المملكة آنذاك إقامات تحت مهنة “مجاور للعبادة”.
وتوالت لاحقا 3 دفعات أخرى، آخرها كانت في الفترة في تسعينيات القرن الهجري (1390 للهجرة – 1970)، وبعدها توقفت الهجرة البورمية الجماعية وبقيت الهجرة الفردية.
وأسفر تلك الهجرات المتعاقبة عن إقامة أكثر من نصف مليون بورمي بالمملكة يتركزون في 3 مدن رئيسية، هي: مكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة.
وباستثناء من حصل منهم على الجنسية، يمكن تقسيم البورماويين الموجودين في المملكة ما بين حملة الجنسية الباكستانية أو البنغالية، وحملة بطاقات التعريف، الذين يشكلون النسبة الكبرى، أما البقية فهم من غير النظاميين.
وغاليا ما يصنع البورميون تجمعات خاصة في المدن التي يعيشون فيها، حيث ينزل المهاجرون الجدد في ضيافة من سبقهم، لذا فإنهم كونوا تكتلات سكانية كثيفة في أحياء مكية، منها الطندباوي والزهور والرصيفة والنكاسة وريع بخش والخنساء وشارع الحج، كما أنشؤوا أحياء باسمهم، كذلك الكائن في منطقة الكيلو 14 بجدة، الذي يخيل لزائره للوهلة الأولى أنه في إقليم أراكان.
ويعمل “البرماوية” -كما يسميهم السعوديون- على تأسيس مجالس لهم في كل مدينة يتواجدون فيها بهدف حل الإشكالات التي قد يتعرضون لها فيما بينهم والحفاظ على هويتهم.
ولما كانت إقامة البورماويين في المنطقة تعود لعقود طويلة، فقد انصهر كثيرون منهم في المجتمع السعودي وأصبح بينهم وبين كثير من الأسر علاقة مصاهرة ونسب، حتى إن بعض السعوديين المجاورين لهم والمصاهرين لهم باتوا يتحدثون لغتهم البورماوية، التي حافظوا عليها جيلا بعد آخر، على الرغم من أن غالبية الجيل الحالي منهم لم يزوروا ميانمار من قبل.
أمن قومي
ورغم ذلك، تبقى معظم الأحياء التي يسكنها البرماويون عشوائية ويسودها الفقراء، الذين يعانون صعوبة في الالتحاق بالوظائف الحكومية والخاصة، ويعد حي النكاسة، الذي لا يبعد أكثر من 3.5 كم عن الحرم المكي، أكثر هذه الأحياء اكتظاظًا.
ومن هذا المنطلق، ركزت حسابات الموالين للنظام السعودي عبر تويتر على نشر صور وفيديوهات أحياء البورماوية في هذا التوقيت تحديدا، حيث تتسارع وتيرة انتشار فيروس كورونا المستجد في مكة، لكن مطالبات “الترحيل” لم تقتصر على أحاديث الخطر الصحي، بل تجاوزته إلى تهديدات تتعلق بـ”الأمن القومي”.
وفي هذا الإطار، نوهت صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن البورماويين يخشون الترحيل من السعودية إذا طلبوا الرعاية الصحية في موادهة “كورونا”، خاصة غير الحاملين لأي جنسية والمقيمين غير النظاميين، ما يدفع بعضهم إلى التكتم على إصابته بالمرض، مشيرة إلى أن ذلك هو ما دفع الملك “سلمان بن عبدالعزيز” شخصيا إلى الاعتراف ضمناً بوجود مشكلة حقيقية، مؤكدا، في خطاب ألقاه في 30 مارس/آذار الماضي، أن حكومة المملكة “ستقدم العلاج للجميع، بغض النظر عن وضع إقامتهم”.
وكان العديد من المفكرين والكتاب السعوديين قد طالبوا بتصحيح أوضاع الجالية البورمية ومنهم الصحفي الراحل “جمال خاشقجي”، الذي قتله عملاء رسميون داخل القنصلية السعودية بإسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، إذ كان من أنصار “التجنيس” ودعا إلى ذلك في مقابلات تلفزيونية، أحدها بثته قناة روتانا خليجية عام 2013.
وأشار “خاشقجي” آنذاك إلى أن وجود تنسيق بين “شيخ” ممثل عن كل تكتل سكاني للبرماويين وبين وزارة الداخلية من شأنه أن يساعد على حل معضلتهم بسلاسة أكبر، لكن هذه المعضلة ظلت مستمرة إلى اليوم رغم تأسيس “لجنة تصحيح أوضاع الجالية البرماوية” بالمملكة منذ عام 2008.
تصحيح الإقامات
وجاء تأسيس اللجنة استنادًا إلى مشروع رفعه أمير منطقة مكة المكرمة “خالد الفيصل” إلى العاهل السعودي الراحل “عبدالله بن عبدالعزيز” عام 2013، واقترح فيه حصول البورماويين على “الإقامة التصحيحية” كحل لملف ظل عالقا لسنوات عدة.
وبحسب رئيس اللجنة “عبدالله قراش” فإن عملية تصحيح الإقامة تمت بإشراف مباشر من إمارة منطقة مكة ومشاركة تفاعلية من عدة جهات حكومية، وفقا لما أوردته صحيفة عكاظ (محلية)، ورغم ذلك استمرت أزمة الملف العالق.
وبينما يعزو مراقبون للشأن السعودي ذلك إلى قصور تنفيذي، يراه آخرون سياسة مقصودة من جانب سلطات المملكة، خاصة نظام الحكم الحالي، الذي يقوده ولي العهد “محمد بن سلمان” استنادا إلى مشاريعه المعلنة في رؤيته الاستراتيجية “السعودية 2030”.
وتنص “رؤية 2030” على بناء 40 برجا مطلا على الحرم على مساحة مليونين و500 ألف متر مربع، في إطار مشروع لتغيير وجه مكة وبيتها التحتية بالكامل، يشمل تطوير المناطق العشوائية، ومنها النكاسة وباقي أحياء البورماوية.
يعزز من قوة هذا الرأي، تزامن حملة المطالبة بترحيل البورماوية عبر “تويتر” مع حملات تهجير واقعية على الأرض نفذتها السلطات السعودية بحق “مواطنين”، في إطار المرحلة الأولى من مشروع نيوم (أحد مشاريع رؤية بن سلمان على ساحل البحر الأحمر)، واستخدمت فيها القوة لطرد السكان من منازلهم.
ولقي المواطن السعودي وابن قبيلة الحويطات “عبدالرحيم الحويطي” مصرعه على يد قوات الأمن السعودية، في 13 أبريل/نيسان، بمنزله في قرية الخريبة (التابعة لمنطقة تبوك)؛ لرفضه التهجير القسري وما سماه، عبر حسابه على تويتر قبل مقتله، “إرهاب الدولة” بحق أبناء الحويطات، لإجبارهم على الرحيل عن أرضهم ومنازلهم بالقوة.
وبينما واصل الموالون لولي العهد السعودي حملتهم المطالبة بـ”تنظيف” مكة، أبدى عديد المعارضين والمستقلين إشافاقا على “البورميين الروهينجا”، باعتبار أنهم لن يكونوا أفضل حالا من المواطنين المهجرين على الأرجح.