بعد فترة صمت دامت طويلاً، عادت قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي إلى الواجهة مرة أخرى، في وقتٍ ما يزال المجتمع الدولي يجهل الكثير من حقائق ما حدث له في قنصلية بلاده بإسطنبول في الـ2 من أكتوبر 2018، وسط محاولات سعودية لطي صفحة القضية.
وتحاول السعودية العودة إلى الساحة الدولية بعد أكثر من عام ونصف على مقتل خاشقجي، بعد أن أثرت القضية على سمعتها وعرّضتها لنوع من العزلة، إلا أن الجانب التركي عاد مرة أخرى ليحيي القضية بعد أن كان العالم قد بدأ تناسيها، وسط أزمة كورونا التي تعصف بمعظم دول العالم.
ولعل إخراج القضية من ثلاجة التجميد في هذا الوقت أثار الكثير من التساؤلات حول دوافع أنقرة وراء إعادة الحادثة للتداول مرة أخرى، خاصة بعد مرور نحو 3 أشهر من إغلاق السعودية الباب أمامها بشكل رسمي، وتبرئة متهمين رئيسيين في القضية رغم الأدلة والوثائق التي قدمتها تركيا.
إحياء جديد للقضية
من جديد أحيت تركيا قضية مقتل خاشقجي بتوجيه تهمٍ لعشرين سعودياً، بينهم معاونان بارزان سابقان لولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
وفي لائحة اتهامات أصدرتها النيابة العامة في مدينة إسطنبول، في 25 مارس 2020، طالبت بإصدار السجن المؤبد المشدد بحق 18 شخصاً يشتبه في ضلوعهم بجريمة مقتل خاشقجي.
وتضمنت اللائحة المطالبة بسجن متهمين اثنين آخرين هما نائب رئيس الاستخبارات السابق أحمد بن محمد العسيري، ومستشار ولي العهد سعود القحطاني، بتهمة “التحريض على القتل المتعمد مع التصميم، والتعذيب بشكل وحشي”، مشيرة إلى أن العسيري والقحطاني خططا لعملية القتل وأمرا فريق الجريمة بتنفيذ المهمة.
وأضافت النيابة أنه خلال التحقيقات روجعت المكالمات الهاتفية للضالعين في مقتل خاشقجي وكل تحركاتهم داخل الأراضي التركية.
وأكدت أنها أعدت لائحة الاتهام، بعد الاستماع لجميع الأطراف، والاطلاع على المكالمات الهاتفية وكاميرات المراقبة، وسير التحقيقات في المحاكم السعودية وجمع كل الأدلة حول الجريمة.
ولفتت النيابة إلى إصدار مذكرة حمراء بحث بحق الأشخاص الـ20، وأنه تم إبلاغ الشرطة الدولية (الإنتربول) والسلطات السعودية بطلب تسليمهم إلى تركيا.
ما سبب توجيه التهم؟
ويبدو أن هذه التحركات جاءت عقب الصدمة التي تلقتها تركيا والعالم، بعد إنهاء التحقيقات السعودية بإعلان الحكم بإعدام 5 متهمين لم تذكر أسماءهم، وبالسجن على 3 آخرين مدة تصل إلى 24 عاماً، وبرّأت 3 آخرين كانت التهمة بالوقوف وراء ارتكاب الجريمة أكثر لصوقاً بهم.
وقالت النيابة العامة السعودية، في 23 ديسمبر 2019، إن كل من ثبت تورطه في القضية قد حوكم، مشيرة إلى أن المحكمة عقدت 9 جلسات في قضية خاشقجي، وصدر الحكم في الجلسة العاشرة، وأنها أصدرت أحكاماً ابتدائية بحق 11 متهماً في قضية خاشقجي.
وبينت أنها أفرجت عن أحمد عسيري، نائب رئيس المخابرات السابق، “بعد التحقيق معه؛ لعدم ثبوت تهم عليه”، الذي قالت النيابة سابقاً إنه الآمر بالعملية.
كما أفرجت عن سعود القحطاني، المستشار السابق لولي العهد، المتهم الرئيس في القضية، “بعد التحقيق معه، ولم توجه له أي تهم”، رغم إقرارها سابقاً بأنه اجتمع بفريق الاغتيال.
وأصدرت حكم الإفراج عن القنصل السعودي في تركيا، محمد العتيبي؛ “بعد أن أثبت وجوده خارج القنصلية ساعة وقوع الجريمة”.
متابعة القضية
الصحفي التركي حمزة تكين يرى أن تركيا من خلال هذا الحكم الذي صدر من النيابة العامة بإسطنبول “تؤكد مجدداً أنها تتابع قضية خاشقجي، وأنها لن تتخلى عنها؛ لكون الجريمة وقعت على أراضيها، ومن هذا الباب القانوني لأنه حق لتركيا متابعتها حتى النهاية”.
ويشير إلى أن قضية مقتل خاشقجي ليست سياسية كما يعتقد البعض بين تركيا والسعودية، لافتاً إلى أن قرار النيابة “تأكيد بأن أنقرة تتابع القضية بكل حذافيرها وأركانها، رغم عدم تدوال القضية في الإعلام كما كان سابقاً”.
وأكد أن المجريات القانونية التركية حول قضية خاشقجي “ما زالت مستمرة”، موضحاً أن ما حدث اليوم “يعد قيمة قانونية كبيرة جداً، لأن هذا القرار اليوم وبهذا الشكل، لم يصدر إلا بعد تحقيقات كبيرة واسعة، وتسجيلات ووثائق، وأن القرار صدر بأدلة دامغة”.
وأضاف: “كل هذا الوقت كانت السلطات التركية المعنية توثق وتؤكد المعلومات التي كانت لديها، لذلك صدر هذا القرار”.
ويرى أن العالم إن كان يريد أن يتحرك لمحاكمة قتلة خاشقجي فعليه “أن يستند إلى هذا القرار والمعلومات التي استندت إليها النيابة، وأن يستفيد من هذه الوثائق الموجود، (..)”، مضيفاً: “ومع ذلك السعودية لن تسلم القتلة بناءً على القرار التركي إلا إن كان هناك تحرك دولي”.
ويؤكد، في سياق حديثه، أن قرار النيابة في إسطنبول “سيؤثر إيجاباً في القضية من ناحية محاسبة كل من شارك في هذه الجريمة، حتى لو طال الوقت”، مشيراً إلى أن بلاده “لن تتخلى عن هذه القضية أبداً رغم محاولة كثير من دول العالم طمس القضية”.
ماذا تملك تركيا لمواجهة الرياض؟
في 18 نوفمبر 2018، كشف مصدر تركي مطلع على مجريات التحقيق بجريمة اغتيال خاشقجي، النقاب عن أن تركيا قد تنشر مقاطع التسجيلات الصوتية المتعلقة بالجريمة في وسائل الإعلام، وذلك في ظل رفض السعودية الكشف عن الآمر بالتنفيذ.
وقال المصدر إن التسجيلات التي ستنشر هي عبارة عن أجزاء من الحوار الذي دار قبل جريمة الاغتيال، وما تعرض له خاشقجي من شتم واعتداء بالضرب ثم القتل، إلى جانب أجزاء من الحوار الذي دار بين أفراد فرقة الاغتيال السعودية نفسها، وأيضاً بعض الاتصالات التي تمت بين هذا الفريق ومكتب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان.
وأكد المصدر في تصريحه أن نشر هذه التسجيلات من شأنها أن “تزلزل العالم”؛ لما تحتوي عليه من تفاصيل جريمة “بشعة للغاية”، أسفرت عن قتل وتقطيع جثة خاشقجي، ومن ثم إخفاء جثته بطريقة لم يتم البت فيها بشكل نهائي، إلا أن موضوع إذابة الجثة بمادة كيمائية من بين الفرضيات الموجودة لدى السلطات التركية.
وألمح إلى إمكانية تسريب هذه التسجيلات من خلال وسائل إعلام كبيرة ولها جمهور ضخم، كي تصل الحقيقة إلى أوسع شريحة ممكنة.
دولة قانون
ويتفق المحلل السياسي التركي رضوان فراس أوغلو مع ما طرحه تكين، من أن تركيا “دولة قانون تعمل باستمرار في التحقيق الذي فتحته النيابة العامة التركية في مقتل خاشقجي”.
وأشار، في حديثه إلى وجود مدعية تركية، وهي خديجة جنكيز، خطيبة خاشقجي، رفعت قضية، وهو ما يدفع القضاء التركي للاستمرار والبحث.
وأكد أن القضية في النهاية يجب أن ينتهي ملفها، وإيجاد صيغة بأنها “جنائية”، خصوصاً مع معرفة الجهات التركية بالقاتل والمقتول، وأن الملف من ناحية التحقيق قد انتهى من الناحية القضائية.
كما أكد أن التحقيقات السعودية والتركية متباعدة؛ “فبينما برأت السعودية القحطاني وعسيري وتعتبر القضية بأنها قتل بالخطأ، تتهمهم تركيا بأنهم المخططون الرئيسيون، وأن الحادثة قتل عمد من قبلهم، وهذا الأمر سيبقي ما بين الطرفين من خلافات”.
وفيما يتعلق بوضع أسماء المتهمين في اللائحة الحمراء المطلوبة لتركيا، يقول فراس أوغلو: “من الطبيعي أن تعتبرهم مجرمين وقتلة، وتقديم طلب للإنتربول لتسليمهم لكونهم غير أتراك وليسوا على أراضيها”.
وعن إمكانية اعتقالهم من قبل الإنتربول في حال سفرهم خارج المملكة، يرى فراس أوغلو أن ذلك سينتج حساسية في المواقف الدولية، خصوصاً أن هناك دولاً ربما لن تسلمهم بسبب علاقاتها مع السعودية، مضيفاً: “لكن هذه الخطوة على الأقل تعني تحجيم خطواتهم وستحد من تحركاتهم”.