“الحقيقة التي نتفاداها واضحة، وهي أن مسؤولي الإدارة الأمريكية يخشون من إحراج شخص له علاقة بالرئيس دونالد ترامب”.. بهذه الكلمات اتهم عضو الكونجرس “توم مالينوفسكي” البيت الأبيض بالمساعدة في التستر على جريمة اغتيال الكاتب الصحفي السعودي “جمال خاشقجي”، مطالبا برفع السرية عن تقرير وكالة المخابرات المركزية (CIA) والاستخبارات الوطنية (DNI) حول الجريمة.
ويحمل تصريح “مالينوفسكي” في طياته إشارة إلى ما سبق أن سربته صحف أمريكية حول تقرير المخابرات الأمريكية بشأن الجريمة، والذي تضمن ترجيحا بوقوف ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” وراء الأمر بقتل “خاشقجي”، وهو ما رفض “ترامب” الإقرار به، أو حتى السماح بنشره رسميا، مفضلا الدفاع عن “بن سلمان” كأحد أهم حلفاء إدارته الإقليميين.
وعندما طلب الكونجرس، العام الماضي، من مدير الاستخبارات الوطنية “ريتشارد جرينيل”، تسمية مَن أمر بقتل “خاشقجي”، تحجج الأخير بأن المعلومات يجب أن تبقى سرية لـ “عدم إلحاق الضرر بالأمن القومي”، زاعما أن نشرها “سيكشف عن مصادر وأساليب المخابرات بشكل غير مناسب”.
وبالنسبة إلى الرئيس “ترامب”، الذي صعد لسدة البيت الأبيض انطلاقا من أوساط رجال الأعمال، فإن العلاقات الدولية ترتكز بشكل رئيسي على الدولارات والمنافع الاقتصادية، ولذا فهو يرى أن جريمة مقتل “خاشقجي”، رغم فظاعتها، لا تستحق التخلي عن السوق السعودية المربحة، حسبما نقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن مصادرها في سبتمبر/أيلول الماضي.
وعليه، تراجعت منذ ذلك الحين الجهود المبذولة لإصدار تشريع للضغط على السعوديين في الكونجرس، ومضت إدارة “ترامب” في بيع أسلحة بمليارات الدولارات إلى المملكة رغم استمرار حرب اليمن، كما رفضت الكشف عن المعلومات التي خلصت إليها المخابرات حول اغتيال “خاشقجي”.
من هنا جاءت إشارة “مالينوفسكي” في بيان أصدره الأربعاء (4 مارس/آذار)، إلى أن إدارة “ترامب”، “لم تحاول حتى أن تثبت أن نشر تقرير CIA يمكن أن يتسبب بضرر”، متعهدا بالتعاون مع “خديجة جنكيز”، خطيبة “خاشقجي”، لكشف المعلومات الخاصة باغتياله.
ومن شأن نزع السرية عن التقرير الإجابة على “أسئلة حساسة”، أهمها: مَن أمر بقتل “خاشقجي”؟ وأين تم التخلص من رفاته؟.
وفي السياق ذاته، طالب زعيما الجمهوريين والديمقراطيين في لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ الأمريكي، السيناتور “ريتشارد بور”، والسيناتور “مارك وارنر”، والرئيس الديمقراطي للجنة المخابرات بمجلس النواب “آدم شيف”، مدير الاستخبارات الوطنية بإعادة النظر في قرار عدم رفع السرية عن المعلومات المتعلقة باغتيال “خاشقجي”.
وتطرح هذه الضغوط الجديدة داخل الكونغرس، تساؤلات حول سر رغية النواب الأمريكيين في إعادة قضية “خاشقجي” إلى الواجهة مجددا والتداعيات المترتبة على ذلك.
وفي هذه المرة، من الواضح أن قضية “خاشقجي” تحولت إلى موضوع ساخن للصراع الانتخابي الساخن بين الديمقراطيين وبين “ترامب”، حول إذا ما كان الأخير سوف يستمر في منصبه بعد نهاية العام الحالي.
فمن ناحية، يرغب الديمقراطيون في استغلال القضية من أجل استنزاف “ترامب” وتشويه صورته، ومن ناحية أخرى يبدو أن الجمهوريين يرغبون في نهاية أكثر “منطقية” للقضية المثيرة للجدل؛ خوفا من أن تلقي بظلالها على فرص “ترامب” في الأوقات الحاسمة للصراع الانتخابي.
مناورة انتخابية
في هذا الصدد، ذكر موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، أن ولي العهد السعودي يريد غلق ملف قضية “خاشقجي” بأسرع ما يمكن، عبر تسريع محاكمة “منفذي” الجريمة؛ حتى لا يتم إثارة الموضوع في الحملات التي تسبق انتخابات الرئاسة الأمريكية المقرر تنظيمها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، غير أن هكذا سيناريو جاء بنتيجة معاكسة بعدما أثبت إصرار “بن سلمان” على عدم محاسبة المقربين منه، وعزز الاتهامات حول وقوفه وراء جريمة الاغتيال.
ولذا أصبحت قضية “خاشقجي” مادة سجال انتخابي خصبة للحزب الديمقراطي، الذي يسلط الضوء على تغاضي إدارة “ترامب” عن جرائم القيادة السعودية، بل والتستر عليها، حسبما يرى المدير التنفيذي لمركز تحليلات دول الخليج “جورجيو كافييرو”.
وفقا لتصريحات “كافييرو” لقناة “الجزيرة”، فإن الرسالة التي يرغب الديمقراطيون في تمريرها إلى الرياض من إعادة قدر من الزخم إلى قضية “خاشقجي”؛ مفادها أن “المراهنة على ترامب والتقرب منه ومن الحزب الجمهوري مقارنة بأمريكا ككل، قد يسببان لها مشاكل مستقبلا”.
ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” رسالة مشابهة عن أحد المنشقين السعوديين، طالبا عدم ذكر اسمه: “بمجرد أن يخسر ترامب الانتخابات أو تنتهي ولايته، فإن الضغوط على السعودية ستكون قاسية”.
لكن هذه النظرية يمكن أن تفسر فقط ضغوط الديمقراطيين لإحياء قضية “خاشقجي”، ولكنها لا تفسر مشاركة بعض النواب الجمهوريين في الضغوط للمطالبة برفع السرية حول التقرير.
وفي هذه النقطة، يجيب الكاتب والمحلل السياسي “يوسف دياب”، بأن ملف السياسة الخارجية تحديدا ليس محل إجماع بين نواب الحزب الجمهوري، إذ يخشى بعضهم من خطورة اكتشاف الأمريكيين لاحقا لتستر “ترامب” وإداراته على شخصيات سعودية متورطة في قضية الاغتيال، وفقا لما نقلته قناة “الجزيرة”.
وإذا كان “ترامب” لن يسمح برفع السرية عن تقرير “CIA” لاعتبارات تتعلق بمصلحة الشخصية، فإن موقف نواب حزبه قد يتعرض للاهتزاز في حال خسارة زعيمهم للانتخابات، لذا فإن الجمهوريين يرغبون في نهاية أكثر “منطقية” للقضية المثيرة للجدل؛ خوفا من أن تلقي بظلالها على حظوظهم الانتخابية.
عودة القحطاني
من جهة أخرى، تأتي إعادة إحياة قضية “خاشقجي” كرد فعل على مساعي الرياض إعادة المستشار في الديوان الملكي السعودي، “سعود القحطاني”، المقرب من “بن سلمان” إلى الواجهة مجددا، بعدما برأته النيابة العامة من المشاركة في اغتيال “خاشقجي”، وهو ما يتصادم مع الشروط التي اشترطها “ترامب” نفسه لـ “بن سلمان” مقابل تمرير حمايته من الاتهام بالتورط في الجريم، وهو ما أكدته صحيفة “الغارديان” البريطانية عن مصادرها، في 12 أبريل/نيسان الماضي، حيث قالت إن وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” حث ولي العهد السعودي على قطع علاقاته مع مستشاره.
وذكرت الصحيفة البريطانية أن حديث “بومبيو” مع “بن سلمان” جاء في لقاء خاص بينهما، بحضور شقيق ولي العهد، نائب وزير الدفاع السعودي “خالد بن سلمان”.
ورغم أن السعودية أعلنت إعفاء “القحطاني” من مهامه كمستشار للديوان الملكي بعد جريمة اغتيال “خاشقجي”، وتوارى بعد ذلك عن الأنظار، إلا أن تبرئة النيابة العامة السعودية له وإعادته مجددا إلى الصفوف الأمامية، تقدم دليلا قطعيا على أن “بن سلمان” عازم على الضرب بمطالبة “بومبيو” عرض الحائط.
وفي هذا الإطار، نشر مدير الهيئة العامة للترفيه والصديق المقرب لولي العهد السعودي، “تركي آل الشيخ”، مقطع فيديو عبر حسابه على “تويتر”، يتضمن قصيدة ألفها “القحطاني” للاحتفال بقرار تبرئته من عملية الاغتيال، تحتوي على الكثير من عبارات المديح للقضاء في السعودية، واصفا إياها بأنها “أجمل قصيدة”، في خطوة وصفها البعض أنها تمهيد لإعادة ظهور “القحطاني” إعلاميا.
وفيما يبدو، تمتلك الإدارة الأمريكية أدلة قطعية على أن “القحطاني” قام بالإشراف المباشر على فريق اغتيال “خاشقجي”، وأن العلاقة ظلت مستمرة بينه و”بن سلمان” حتى بعد الجريمة، ولذا قدم “بومبيو” عرضه على “بن سلمان” في إطار صفقة ضمنية مفادها أن إدارة “ترامب” مستعدة للتغاضي عن دور “بن سلمان” نفسه مقابل تقديم “القحطاني” كـ”كبش فداء”، باعتباره المسؤول التنفيذي عن عملية القتل، حسبما يرى “ديفيد أوتاواي”، الخبير بشؤون الخليج في “مركز ويلسون” الأمريكي للأبحاث.
ويشير “أوتاواي” إلى أن هذا السيناريو كان كافيا لإغلاق القضية بالنسبة لإدارة “ترامب” التي علقت آمالها على تلاشي الجدل حول مقتل “خاشقجي” مع مرور الوقت، إلا أن عودة “القحطاني” لواجهة الحكم السعودي سوف تسبب إحراجا بالغا للإدارة الأمريكية وتجدد الاتهامات الموجهة لها بالتستر على الجريمة، وهو ما يخشاه النواب الجمهوريون.
وفي هذا السياق، يرى مدير برنامج الأمن في معهد “بروكينغز” والمحلل السابق في (CIA)، “بروس ريدل”، أن حديث “بومبيو” الخاص وحثه “بن سلمان” على قطع علاقته بـ “القحطاني”، يعني أن إدارة “ترامب” ليست راضية عن سيناريو عودة “القحطاني” إلى كواليس الإدارة السعودية.
وتابع “ريدل” قائلا: “لا أعتقد أن هذا سينجح؛ لأن الأدلة كلها تشير إلى أن القحطاني عمل عن قرب مع بن سلمان في هذه العملية (اغتيال خاشقجي) والعمليات الأخرى”.
وفي حال تصويت الكونجرس لصالح الكشف عن تقرير المخابرات الأمريكية بشأن اغتيال “خاشقجي”، فسيكون أمام “ترامب” 5 أيام لتقديم اعتراض مكتوب، وبعدها يمكن أن يصوت مجلس الشيوخ ذي الغالبية الجمهورية على القرار.