على خلفية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، أكتوبر/تشرين الأول 2018، قاطع العديد من رؤساء الشركات الغربية وقادة الأعمال والشخصيات السياسية مؤتمر مبادرة الاستثمار المستقبلي في الرياض، المعروف باسم “دافوس في الصحراء” العام الماضي، لكن العام الجاري قد يكون مختلفا.
ففي العام الماضي امتنعت شركات وشخصيات لها ثقلها، عن المشاركة فيما كانت باقي المشاركات خجولة، أما العام الجاري فالمقاطعة نسبية ويبدو أنها منحصرة على الجهات الإعلامية، فقد أكدت شخصيات “لامعة” لها ثقلها مشاركتها في المؤتمر المقرر عقده في 29-30 أكتوبر/تشرين أول الجاري، لعقد صفقات استثمارية.
ويظهر هذا الأمر وجود تفضيل معلن للمصالح الاقتصادية وتسيد للغة المال على حساب حقوق الإنسان وتجاوز للقضية التي هزت الرأي العام الدولي وأثارت استنكارا واسعا لم ينضب حتى اليوم، وتسببت في تشويه سمعة السعودية الحقوقية.
المشاركون تجاهلوا تقرير المفوضية الأممية لحقوق الإنسان الذي أعدته مقررة الأمم المتحدة الخاصة بالإعدام خارج نطاق القضاء، أغنيس كالامار، في يوليو/تموز الماضي وحمّلت فيه السعودية مسؤولية قتل خاشقجي عمدا، مؤكدة وجود أدلة موثوقة تستوجب التحقيق مع مسؤولين سعوديين كبار، بينهم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
ويسعى المؤتمر لاجتذاب بنوك استثمارية عالمية وممولين إلى الرياض للتفاعل مع مسؤولين سعوديين وحشد استثمارات لمشاريع في المنطقة، وذلك بعدما كان لقضية اغتيال خاشقجي تأثيرات جيوسياسية واقتصادية سلبية، ألقت بظلالها على الأسواق المالية والأجواء الاستثمارية في المملكة.
وتقرر عقد المؤتمر في فندق الريتز كارلتون الرياض الذي ذاع صيته خلال عامي 2017 و2018، عندما اعتقلت السلطات فيه عددا من الأمراء وكبار رجال الأعمال، من بينهم الوليد بن طلال، وتم الإفراج عنهم بعد تخليهم عن أجزاء كبيرة من أموالهم.
حضور وغياب
تقارير أمريكية نشرتها “فوكس نيوز” و”كوارتز” الإخباريتين، كشفت عن حضور ضخم لكبار المسؤولين الأمريكيين في المؤتمر، موضحة أن صهر الرئيس والمستشار البارز جاريد كوشنر، ووزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشن، الذي كان من بين الشخصيات البارزة التي ألغت مشاركتها في مؤتمر العام الماضي، يعتزمان الحضور.
ووفقا لملف المشتريات الفيدرالي، الذي اطلع عليه موقع “كوارتز”، حجزت وزارة الخارجية مؤخرا 45 غرفة في أحد الفنادق الكبرى في الرياض، لقائمة من كبار المسؤولين المشاركين في مبادرة الاستثمار المستقبلية السنوية الثالثة في المملكة العربية السعودية.
ويشير التقرير إلى أنه تم تأكيد حضور أكثر من 150 من المديرين التنفيذيين العالميين (كثير منهم غاب العام الماضي)، ومن بين المشاركين ممثلون من “جولدمان ساكس” و”جيه بي مورغان تشيس”، “سيتي جروب” و”بلاك روك”، ورئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، كما يخطط البيت الأبيض لإرسال مسؤول كبير للحضور، وفقا لـ”فوكس بيزنس”.
كما تحدث عن المدينة المستقبلية “نيوم”، كأحد أهم مشاريع ابن سلمان، معتبرا أنها فرصة للمستثمرين العالميين.
وتطرق التقرير أيضا لاستثمار المملكة في شركات التكنولوجيا، ووضع 45 مليار دولار في “صندوق رؤية سوفت بنك”، وهو صندوق استثماري سعودي- ياباني، اُفتتح في 2016 من قبل ولي العهد محمد بن سلمان، وماسايوشي سون رئيس مجموعة سوفت بنك.
موقع أكسيوس الأمريكي نشر أيضا قائمة المشاركين بالمؤتمر تحمل علامة أنها قائمة “ليست نهائية وقابلة للتغيير”، مؤكدا حضور الشخصيات السابق الإشارة إليهم، بالإضافة إلى قادة بعض الدول، بمن فيهم رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والرئيس البرازيلي جايير بولسونارو.
وسيشارك الرئيس النيجيري محمد بوخاري، وجرى وضع الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا ورئيس الكونغو برازافيل دينيس ساسو – نجويسو، ضمن قائمة (قيد الانتظار).
ويحضر أيضا كبار رجال المال والأعمال المقرر حضورهم، بينهم الرئيس التنفيذي لسيتي غروب (Citigroup) مايكل كوربات، والرئيس التنفيذي لبنك كريدت سويس (Credit Suisse) تيدجان ثيام، والرئيس التنفيذي لبنك HSBC نويل كوين.
ومن بين مديري الصناديق المالية، يحضر راي داليو من بريدجو ووتر (Bridgewater)، وروبرت سميث من فيستا (Vista)، وستيفن شوارزمان من بلاكستون (Blackstone)، ولاري فينك من بلاك روك (BlackRock)، ودانييل لوب من ثيرد بوينت (Third Point)، وباري ستيرنخت من ستاروود (Starwood).
وفي المقابل، أوضح الموقع الأمريكي مقاطعة العديد من الأسماء الكبيرة في سيليكون فالي (Silicon Valley) للتظاهرة الاقتصادية، مشيرا إلى أنها قررت مرة أخرى عدم المشاركة في المبادرة بسبب قضية قتل خاشقجي.
وبرزت المقاطعة “الإعلامية” للعام الثاني على التوالي، حيث تجاهلت مؤسسات إعلامية كبري المشاركة في المؤتمر الاستثماري، احتجاجا منهم على مقتل خاشقجي، بحسب مجلة هوليود ريبورت الأمريكية.
وأوضحت المجلة في تقرير أوردته على موقعها الإلكتروني في 23 أكتوبر/تشرين أول الجاري: أن قائمة المؤسسات الإعلامية الكبرى التي قررت عدم المشاركة بصفة “شريك إعلامي” في المنتدى السعودي العام الجاري، تضمنت: “Fox Business Network” و”CNN” و”CNBC”، و”Bloomberg Media”، و”New York Times”، و”Financial Times”.
خذلان وتناقض
تأكيد الحضور الأمريكي الرسمي في المؤتمر ليس بالأمر المستغرب، فالقيادة الأمريكية تظهر خذلانا لقضية خاشقجي منذ بدايتها، بالرغم من أن تحقيقات الأمم المتحدة ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) خلصت إلى مسؤولية ابن سلمان عن الجريمة.
فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو من أعاد تأهيل ولي العهد مرة أخرى بعد أن كان منبوذا في المجتمع الدولي، وأعاده للساحة الدولية.
واعتبرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، ظهور: “ابن سلمان في شهر يونيو/حزيران الماضي في قمة العشرين التي احتضنتها مدينة أوساكا باليابان وهو يقف وسط المنصة بين الرئيسين الأمريكي والياباني خلال التقاط صورة تذكارية للمشاركين في القمة، ضمن لقاءات أخرى وصفقات مع زعماء خلال الحدث، مؤشر واضح على الترحيب به مجددا، ولو على مضض، في المجتمع الدولي”.
وأشارت الصحيفة الأمريكية إلى أن: “ابن سلمان” لم يكن ليحظى بذلك الترحيب من قبل زعماء العالم لولا جهود ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو التي مهدت الطريق لذلك، لافتة إلى أن الرئيس الأمريكي لم ينأَ بنفسه عن ابن سلمان بل ما فتئ هو ووزير خارجيته يؤكدان على الأهمية الإستراتيجية للعلاقة مع السعودية.
وأوضحت أن: ترامب الذي وصف في تصريحات سابقة منطقة الشرق الأوسط “بالمكان الشرير” كما وصف جريمة قتل جمال خاشقجي بالحادث المؤسف ولم يرَ فيها ما يستحق التخلي عن سوق مربحة وفقا للصحيفة، لم يحاول تلطيف الطريقة البشعة التي قتل بها خاشقجي ولكنه يقيّم علاقته بالمملكة وفقا للمنفعة المادية.
وفي سياق دفاعه المستمر عن ابن سلمان، دعا ترامب خلال حوار أجرته معه قناة NBC، إلى تفضيل المصالح الاقتصادية مع الرياض على التركيز على محاسبة حكومة المملكة بسبب قضية خاشقجي، لافتا إلى أن بلاده: “تحتاج إلى أموال السعودية”.
وأضاف: “ما أقوله هو أنهم ينفقون من 400 مليار إلى 500 مليار دولار في فترة من الزمن، جميع الأموال والوظائف والمعدات التي يشترونها”.
بينما تظهر بريطانيا، تناقضا في مواقفها تجاه أزمة خاشقجي، فهي رسميا تدعو إلى مثول الآمر بقتل خاشقجي أمام العدالة، كما عمدت رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، إلى التأكيد على رغبة بلادها في محاسبة المسؤولين عن القتل، لكنها في الوقت ذاته تقيم علاقات تجارية وعسكرية مع المملكة.
وكشفت صحيفة إندبندت عن: أن الحكومة البريطانية واصلت السعي لإبرام صفقات أسلحة مع السعودية، خلال الأسابيع التي تلت مقتل خاشقجي، رغم إدانتها الرسمية لمقتله، موضحة: أن مسؤولين بوزارة التجارة -من المكلفين بإبرام صفقات السلاح الخارجية- ظلوا يعقدون اجتماعات رفيعة المستوى مع نظرائهم السعوديين لبحث تلك الصفقات.
وأشارت إلى: أن وفدا من منظمة الدفاع والأمن (وهو مكتب داخل وزارة التجارة مسؤول عن صادرات السلاح) سافر إلى الرياض بشكل غير معلن خلال الفترة من 14 إلى 22 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
ما مصلحة الهند؟
أما الهند، والتي يشارك رئيس وزرائها في مؤتمر العام الجاري، فهي تغض الطرف أيضا عن الأصوات المطالبة بالقصاص لخاشقجي.
فقبل قرابة الثمانية أشهر، فتحت الهند أبوابها لولي العهد السعودي لتكون ضمن جولة آسيوية استخدم فيها لغة الدولار والاستثمارات لكسب الحلفاء في الوقت الذي كثر فيه عدد الرافضين لسياسته العنيفة داخل السعودية وخارجها، لكنها لم تسلم من الرفض الشعبي، حيث خرج عدد من المتظاهرين في الهند للتعبير عن رفضهم لها.
وتأمل الهند التي تستورد أكثر من 80 في المائة من احتياجاتها النفطية، توقيع اتفاقات للطاقة مع السعودية، تشمل المشاركة في احتياطيات نيودلهي الإستراتيجية من البترول، وتسعى لتعزيز علاقاتها مع السعودية، بدلا من أن تكون مجرد مشتر للخام.
والهند، ثالث أكبر مستهلك للنفط في العالم، عميل رئيسي للسعودية. وأظهرت بيانات من مصادر في قطاعي الشحن والصناعة أن السعودية أصبحت أكبر مورد للنفط إلى الهند في سبتمبر/أيلول الماضي بعد فجوة لأكثر من عام.
وكانت شركة “أرامكو” السعودية قد وقعت، إلى جانب “أدنوك” اتفاقا مبدئيا مع شركات حكومية هندية، للحصول على نسبة 50 في المائة، في مصفاة التكرير العملاقة المقرر تشييدها على الساحل الغربي للبلاد، بقدرة 1.2 مليون برميل يوميا.
وتبدو “أرامكو” مهتمة أيضا، بحصة تبلغ 20 في المائة، في أنشطة “ريلاينس إندستريز” في البتروكيماويات والتكرير، في صفقة بعدة مليارات من الدولارات.
وقال تقرير لصحيفة ديلي ميل البريطانية: إن جولة “ابن سلمان” في فبراير/شباط الماضي، هي الأكبر على النطاق الدولي، ومحاولة من النظام السعودي للإظهار للغرب بأن ولي العهد لا يزال له أصدقاء في آسيا الصاعدة.
واعتبر تقرير في موقع المونيتور: أن جولة “ابن سلمان” إلى دول آسيوية هي محاولة لتلميع صورته المتهالكة.
فيما أوردت فاينانشيال إكسبريس الهندية: أن ولي العهد السعودي يجري زيارة الهند وباكستان في رحلة رسمية ينظر إليها الكثيرون بأنها محاولة لصرف انتباه العالم عن ادعاء تورطه في جريمة قتل خاشقجي.
كما شارك نجوم هوليوود وبوليوود في منتدى للترويج لصناعة الترفيه في السعودية عقد الشهر الجاري، ما أثار استنكارا في مواقع التواصل، حيث اعتبر كثيرون: أنه لم تتم مراعاة مسألة مقتل الصحافي السعودي حسبما ذكرت صحيفة “تلغراف” البريطانية.
وبحسب الصحيفة: فقد وصل إلى المنتدى في الرياض كل من جاكي شان، وجان كلود فان دام، ونجم فيلم “أكوامان” جايسون موموا، فضلا عن شاه روخ خان، المعروف في الهند بملك بوليوود. والتُقطت للأربعة صورا تُظهرهم سعداء في فندق “ريتز كارلتون”، منظم منتدى صناعة الترفيه.
المال والسمعة
صحيفة “يو أس توداي” تناولت في افتتاحيتها، التي جاءت تحت عنوان “في ظل وفاة جمال خاشقجي، المال أعلى صوتا من الجريمة”، تأثير جريمة مقتل خاشقجي على “دافوس الصحراء”.
وبدأت بالقول: إن “أي شخص مهتم بالنظر إلى الطريقة التي يتم فيها الهروب من الجريمة، عليه النظر في قائمة المشاركين في المؤتمر السعودي المبهرج (دافوس الصحراء) هذا الشهر”.
وأضافت الافتتاحية: “لقد تبخرت في حر الصحراء الإنذارات الصحيحة كلها التي أجبرت شركات المال الريادية على مقاطعة المناسبة العام الماضي؛ بسبب القلق من علاقة “ابن سلمان” بالجريمة، التي جرت قبل أسابيع من المؤتمر، وقتل فيها صحافي (واشنطن بوست) جمال خاشقجي”.
وأشارت الصحيفة إلى: أن “هناك أدلة ظهرت منذ ذلك الوقت عن دور محمد بن سلمان في خنق الصحافي الذي كان ناقدا له وتقطيعه، لكن لا يبدو هذا مهما الآن، فهناك عدد من رجال المال ومديري الشركات الأمريكية الكبرى ممن يخططون للمشاركة في المؤتمر، وعلى رأسهم مديرو (جي بي مورغان جيس) و(غولدمان ساكس) و(سيتي غروب)، وكلها مؤسسات اختيرت لتشرف على العملية المرتقبة، وهي الاكتتاب العام لجزء من أسهم شركة أرامكو، التي تقدر قيمتها بما بين 1.5- 2 تريليون دولار”.
وتجد الافتتاحية: أنه “في الوقت الذي قرر فيه عدد من مديري سيليكون فالي تجاهل المؤتمر، إلا أن شركات التكنولوجيا الأمريكية لم تتحرج عن قبول المال السعودي، فعلى ما يبدو أن المال يتحدث بصوت أعلى من الجريمة”.
وتقول الصحيفة: إن مدير أكبر شركة لإدارة الأرصدة في العالم “بلاك روك” لورنس فينك، سيحضر المؤتمر، مشيرة إلى أنه كتب على “لينكدإن” قائلا: “يجب على قادة الشركات المالية الحوار معهم (العائلة المالكة)، ليس لأن كل شيء في المملكة مكتمل، بل لأن لا شيء فيها كذلك”.
وكان المال السعودي الوفير وصفقات الأسلحة الضخمة التي تعقدها مع الدول الغربية، سببا في جعل الكثير من هذه الدول تحاول الموازنة بين إرضاء الحركات الحقوقية داخل أراضيها وبين عدم إغضاب السلطات السعودية.
في مارس/أذار الماضي، كشفت صحيفة “فايننشال تايمز” الأمريكية في تقرير لها عن الجهود السعودية لتحسين صورتها في أعقاب مقتل خاشقجي، موضحة: أن صندوق الاستثمارات العامة استعان بشركة علاقات عامة في نيويورك لتعزيز صورة المملكة وبناء “فصل واضح” بين قيادة المملكة وبين جريمة القتل التي أدت إلى موجة شجب عالمية.
ووقع صندوق الاستثمارات العامة الذي يدير 300 مليار دولار ويترأسه “ابن سلمان” عقدا بأجر 120 ألف دولار في الشهر مع شركة “كارف كوميونيكيشن” في شهر شباط/ فبراير، مقابل العمل “على تعزيز سمعة وصورة” صندوق الاستثمارات العامة ومسؤوليه البارزين و”التركيز على الهدف التجاري” للصندوق، وذلك حسب وثائق وزارة العدل الأمريكية.
وطُلب من الشركة بناء الثقة وتحسين العلاقات مع “أصحاب المصلحة الدوليين”، مثل قادة المال والأعمال والإعلام والتأكد من جاهزية صندوق الاستثمارات العامة لأي تطورات سلبية محتملة وأي اهتمام خارجي في المستقبل.