وائل قنديل – كاتب وصحفي مصري
لماذا الكويت، وليست غيرها من دول الخليج العربي، وقع عليها الاختيار لتكون مسرحًا لأحداث دراما التطبيع الممولة سعوديًا؟
لماذا لم يختاروا عاصمة أخرى من تلك التي تشهد باستمرار زيارات وأنشطة تطبيعية، لتنطلق منها أحداث مسلسلات درامية تحفر عميقًا في وجدان الأجيال الجديد لتثبت “اليهودي الخليجي” المسكين المضطهد، بديلًا عن الفلسطيني الجاحد الناكر للجميل؟
لا أظن أنها مصادفة أن تكون الكويت هي مكان الحدث الدرامي، بما لها من مناعة شعبية ورسمية ضد كل صور التطبيع، المباشر وغير المباشر، جعلتها تنفرد، بين دول الخليج، بأنها لم تستقبل إسرائيليا ولم ترسل حتى الآن أحدا منها إلى الإسرائيليين، ولم تمارس فعل التطبيع في محافل دولية.
لدى الكويت رئيس مجلس أمة، هو مرزوق الغانم، الذي تحوّل، مع الوقت، إلى أيقونة ضد التطبيع، في عين المواطن العربي، مسجلًا مواقف مضيئة وسط هذا الظلام الصهيوني المخيم على العواصم العربية.
لخصها في مشهد أخير، حين ألقى “صفقة القرن” في سلة المهملات في أثناء مؤتمر برلماني عربي، معقبًا “المكان المناسب للصفقة هو “مزبلة التاريخ”، مضيفا إن “الخطة ولدت ميتة، ولن تنجح ألف إدارة وألف دعاية في تسويقها”.
تلك هي الكويت، التي وقع الاختيار عليها، لتكون محور أحداث دراما التطبيع، ومنها بطلة المسلسل، حياة الفهد، وكأنهم يقولون سننتقم بالدراما، وسنغير فكرة المواطن العربي عن الكويت، حتى لا يبقى مكان لم يتلوث بعوادم التطبيع.
هكذا تمضي الحرب الدرامية على الذاكرة والوجدان، من خلال “أم هارون” ومعها “مخرج7” لنقفز مباشرة إلى مرحلة “التطبيع الوقح”، ذلك الذي لا يهدر وقتًا في التلميحات واللف والدوران، بل يعلنها صراحة: العدو ليس الصهيوني، بل هو الفلسطيني.
تحت عنوان” أوهام يجب أن يتحرّر منها الفلسطيني”، قلت، قبل شهور، إن ثاني الأوهام التي على الفلسطيني التحرّر منها اعتقاده بأن ثمّة نظامًا عربيًا يمكن أن يكون منحازًا له في كفاحه المشروع، أو حتى يقف على الحياد بنزاهة، بينه وبين العدو.
إذ لم يعد يخفى على أحد أن هذه الأنظمة ترى أن ارتباطًا وجوديًا يجمعها بإسرائيل، وأنها باتت تنظر إلى القضية الفلسطينية نظرة إسحاق رابين إلى غزة قبل عقود، حين كان يحلم بطلوع نهار تكون غزة فيه قد اختفت من الخريطة وابتلعها البحر”.
والآن جاء وقتٌ قرّر فيه صناع الدراما الصهيونية، ذات التمويل والإنتاج السعودي الضخم، افتتاح المرحلة الأهم والأخطر، وهي تكفير العربي بفلسطين، وإحراق اليقين داخل الفلسطيني بأن ثمّة حاضنة شعبية لقضيته، بل قضيتنا جميعًا، قضية الإنسان الباحث عن العدل في كل مكان.
أنت أمام دراما من إنتاج محمد بن سلمان شخصيًا، تنطلق من أفكار بنيامين نتنياهو، وتتحرّك في محاولة لتحقيق الحلم الذي يعيش فيه منذ العام 2014 عقب نجاح الانقلاب الذي نفذوه، معًا، في مصر.
فقد خرج في الرابع من أغسطس/ آب 2014 يزفّ إلى العالم بشرى خروج أولى بنات أفكاره “اعتدال” إلى الحياة، متحدثًا عن “حلف إقليمي جديد” يجمع إسرائيل ودولاً عربية باتت تُعرف بأنها “معسكر الاعتدال”.
حول هذا المحور الدرامي، دارت عديد المشاريع الثقافية والسياسية والإعلامية، حتى وصلنا إلى العام 2017، وكانت لحظة ميلاد “اعتدال”رسميًا في الفراش السعودي، على يد دونالد ترامب، لتشتغل ماكينات التطبيع بكامل طاقتها.
وتصبح السعودية الجديدة المنصّة التطبيعية الأكبر، فنصل إلى العام 2018 لتستضيف السعودية أول قمة عربية تكتب قراراتها بالحبر الصهيوني، وتفتتح “الرياض”، الصحيفة الأكثر تعبيراً عن الموقف الرسمي، أعمال القمة بمقال بعنوان “قمة الظهران: سلام مع إسرائيل ومواجهة مع إيران”!
وتعلن “اليوم لا خيار أمام العرب سوى المصالحة مع إسرائيل، وتوقيع اتفاقية سلام شاملة، والتفرّغ لمواجهة المشروع الإيراني في المنطقة، وبرنامجها النووي، ووضع حد لتدخلاتها في الشؤون العربية، وهو خيار لا يقبل أي تبرير أو تأخير، أو حتى مساومات ومزايدات على القضية الفلسطينية؛ لأن إيران تشكّل تهديداً مباشراً على الكل”.
بعدها مباشرة، بات الطريق بين الرياض وتل أبيب مزدحمًا بقطعان التطبيع، وصار محمد بن سلمان الكنز الاستراتيجي الجديد الذي كانت تبحث عنه إسرائيل في الخليج. حتى وصلنا إلى لحظةٍ وقف فيها نتنياهو يفاخر بالليكود السعودي، وهو يحيي المواطن محمد سعود (لاحظ دلالة اختيار الاسم) الذي منحه لقب “زعيم الليكود في السعودية”.
نعم، بدأت الحكاية ببن سلمان، ولن تنتهي بأم هارون.