سعى الولايات المتحدة ودول غربية إلى التصدي لنفوذ منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” وتحجيمها منذ ظهور أهمية هذا السلاح واستعماله خلال حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وقتها قطعت السعودية ومعها دول الخليج، إمدادات الخام عن الغرب بسبب دعمه إسرائيل في الحرب التي خاضتها مصر وسوريا لتحرير أراضيهما المحتلة في 1967.
وارتفعت أسعار النفط بصورة جنونية عقب الغزو الروسي لأوكرانيا حتى وصل سعر خام برنت تسليم يوليو/تموز 2022 إلى 117.31 دولارا للبرميل.
كما يتوقع استمرار تصاعدها في ظل رفض أوبك زيادة الإنتاج لخفض السعر وتعويض الحصار الغربي لروسيا.
التصدي لـ”أوبك”
وهنا عاد راسمو السياسة الأميركية الذين يسعون منذ أكثر من عقدين للسيطرة على صناعة النفط العالمية، للتلويح بقانون يتصدون به لأوبك.
وتأسست أوبك عام 1960 بهدف تحديد المعروض العالمي من النفط وسعره، وتضم 13 دولة منتجة ومصدرة له بقيادة السعودية، وهي دول شرق أوسطية وإفريقية بشكل رئيس.
والقانون الذي تسعى إلى تشريعه الولايات المتحدة عبر الكونغرس منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، يسمى “نوبك” NOPEC، إشارة إلى رفض تحكم “أوبك” في سياسة إنتاج ورفع سعر الخام العالمي.
الجديد هو أنه بينما يضغط بعض نواب الكونغرس لتمرير هذا القانون يتكرر سيناريو تعطيله داخل المؤسسة التشريعية الأميركية، وسط تكهنات أن السعودية، ولوبي مصالح النفط الأميركي يضغط لإبقائه معطلا.
وشهد القانون عدة دورات منذ عام 2000 ولم يتمكن من مغادرة الكونغرس ومن ثم التصديق عليه، وهناك احتمالية لعدم إثارة الملف في ظل الأنباء عن تغيرات جوهرية في الموقف الأميركي بسبب حاجتها لدور المملكة.
فبجانب حديث الصحف الأميركية عن لقاء مرتقب بين الرئيس جو بايدن وولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال زيارة الأول للمنطقة العربية أواخر يونيو/حزيران، تشير تطورات أخرى أنه من الصعب مواصلة مسار نوبك مع هذه المستجدات.
فقد ناقش وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، “أهمية الدعم الدولي لأوكرانيا” مع نظيره السعودي، فيصل بن فرحان، خلال مكالمة هاتفية في 30 مايو/أيار 2022، بحسب بيان أميركي رسمي.
وخلال المكالمة التي جمعتهما، شدد بلينكن على أهمية الدعم الدولي لأوكرانيا، ما يشير لرغبة واشنطن بأن تشارك السعودية في حصار روسيا عبر زيادة إنتاجها النفطي لتعويض استغناء الغرب عن موسكو نفطيا.
وقبلها بيوم كشفت قناة 21 العبرية عن “زيارة سرية لمسؤول إسرائيلي رفيع المستوى إلى السعودية لتنسيق سلسلة من عمليات التعاون الأمني، وتضمنت الزيارة لقاءات في القصر الملكي بالرياض”.
ويأتي هذا في سياق تهيئة واشنطن الأجواء بين السعودية وإسرائيل لحل مشكلة وجود القوات الدولية في جزيرتي تيران وصنافير تمهيدا لزيارة بايدن ولقاء ابن سلمان.
وهو ما يشير لتسريع الاتصالات الأميركية السعودية لترتيب عملية تبادل مصالح بين الطرفين تسعى واشنطن بموجبها للحصول على تعهد سعودي بزيادة إنتاج النفط وتعويض مصادر الطاقة الروسية ضمن الصراع في أوكرانيا الذي بدأ في فبراير/شباط 2022.
دورات مكوكية
حظي قانون “نوبك” بسلسلة دورات مكوكية داخل الكونغرس تشير إلى حجم الصراع الدائر حوله وسعي أطراف داخلية وخارجية لإبقائه داخل أروقته.
وسبق أن رفضه المشرعون في الولايات المتحدة أكثر من مرة، لكنه عاد مجدداً ليطفو على السطح بالتزامن مع ارتفاع أسعار الوقود لمستويات تاريخية غير مسبوقة، وكسلاح تستخدمه إدارة بايدن تهدد به السعودية للانضمام إلى معسكرها ضد روسيا.
أول من قدم هذا المشروع للكونغرس كان السيناتور هيرب كول في يونيو/حزيران 2000 وأيده 11 نائبا فقط مقابل معارضة الغالبية له.
وتكرر عرضه عام 2001 عقب تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول، كنوع من العقاب للسعودية لكن عرقله لوبي المصالح النفطية، وكان منهم الرئيس الأسبق جورج بوش الذي رفضه.
ثم اقترحه النائب جون كونيرز مرة أخرى عام 2007 داخل الكونغرس بصيغة جديدة لمناقشته، لكنه نال أيضا 11 صوتا فقط ومنذ ذلك الوقت يعود الجدل حوله كلما ارتفعت أسعار النفط.
وسبق أن عارضه بوش وهددت إدارته باستخدام حق النقض ضد القانون، واتهمه نواب في الكونغرس منهم “كونيرز” بأنه يدافع عن مصالح شركات النفط العالمية لا المستهلك الأميركي. بينما وافق عليه الرئيس الأسبق باراك أوباما لكن لم يجر تمريره في عهده.
وفشلت النسخ السابقة من مشروع قانون نوبك المقدمة للكونغرس بسبب مقاومة مجموعات داخل قطاع الطاقة الأميركي مثل معهد البترول خوفًا من أن يؤدي القانون إلى زيادة إنتاج النفط عن حاجة السوق.
برروا رفض القانون بأنه قد يخفض الأسعار بدرجة تجد معها شركات الطاقة الأميركية صعوبة في تعزيز إنتاج الوقود الصخري المرتفع الثمن.
ثم وافقت عليه لأول مرة لجنة قضائية من مجلس الشيوخ في 5 مايو 2022، بأغلبية 17 عضوًا مقابل رفض أربعة.
لكن إقراره وتطبيقه وبدء رفع قضايا في المحاكم الأميركية على منتجي النفط في منظمة أوبك بدعوى “التآمر لرفع أسعاره”، لا يزال يحتاج أن يقره مجلسي الشيوخ والنواب بالكامل، ثم يوقعه الرئيس جو بايدن ليصبح ساريا.
ويبدو أن تحريك الكونغرس قانون “نوبك” الآن يستهدف تحجيم نفوذ “أوبك” بطلب من إدارة بايدن.
ويأتي هذا كجزء من صراعها الدولي مع روسيا لحصارها ووقف استيراد العالم نفطها مقابل الضغط على أوبك لزيادة الإنتاج وتعويض الغرب عند التخلي تماما عن الطاقة الروسية.
لكن يتضمن قانون تأسيس منظمة أوبك بنداً يمنح أعضاءها حصانة من أي دعاوى من دول أو منظمات أو محاكم حول العالم، وهو ما يطمح مشروع “نوبك” إلى إبطاله عبر هذا التشريع.
كما أنه تحرك من إدارة بايدن أو ورقة ضغط في مواجهة ولي عهد السعودية الذي يرفض، مطالب واشنطن بزيادة الإنتاج لتخفيف الضغوط عن الرئيس الأميركي الذي يواجه انتقادات داخلية بشأن قفزات أسعار الوقود.
ومع الدول الشريكة لها، بما في ذلك روسيا، تسيطر أوبك على 70 بالمئة من جميع النفط المتداول دوليًا و80 بالمئة من جميع احتياطياته، وفق ما قالت اللجنة القضائية التابعة للكونغرس الأميركي في 6 مايو.
وبينت أن “السلوك المناهض للمنافسة من جانب أوبك وشركائها للتلاعب بأسعار النفط يضر المستهلكين الأميركيين بشكل مباشر”.
بطل من ورق
قال مكتب السيناتور الأميركي تشاك غراسلي، الذي يتبنى مشروع القانون رفقة عدد آخر من أعضاء من مجلس الشيوخ، في 5 مايو، إن لجنة بالمجلس ستنظر قريبا في مشروع القانون.
وأيد مشروعه، زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر وصاحب النسخة الأصلية من القانون في عام 2000، وكذا جو مانشينجو مانشين النائب الديمقراطي عن ولاية ويست فرجينيا وصاحب نسخة عام 2011.
وفي مجلس النواب، جرى تمرير التشريع الذي قدمه النائب الجمهوري ستيف شابوت من ولاية أوهايو وبدعم من النائب جيرولد نادلر، وهو ديمقراطي من نيويورك ويرأس اللجنة القضائية في مجلس النواب.
وليست السعودية أو دول أوبك هي من سيتضرر من القانون وحده لو جرى إقراره، فأكبر جماعة ضغط للطاقة في الولايات المتحدة، وهي معهد البترول الأميركي، تعارض مشروع قانون نوبك، مؤكدة أنه قد يضر بمنتجي النفط والغاز المحليين.
أيضا يرى محللون أن تمرير القانون سيؤدي إلى مشاكل في إمدادات سلع أخرى غير النفط، وأن دولا أخرى يمكن أن تتخذ خطوات مماثلة لمعاقبة أميركا لخفض إمدادات منتجات زراعية لدعم الزراعة المحلية، وفق ما قالت وكالة رويترز البريطانية في 5 مايو.
يؤكدون أنه يمكن للدول الأخرى أيضًا أن تقرر شراء بعض الأسلحة من دول أخرى غير الولايات المتحدة، مما يضرب تجارة مربحة لمتعاقدي الدفاع الأميركيين.
كما يمكن لمنتجي النفط غير الأميركيين تقييد استثمارات الولايات المتحدة في بلدانهم أو ببساطة رفع أسعاره، مما يقوض الهدف الأساسي لمشروع القانون.
“أميركا وحلفائها يواجهون بالفعل تحديات كبيرة في تأمين إمدادات طاقة موثوقة، وآخر شيء يتعين علينا فعله هو إلقاء قنبلة يدوية مثل هذه”، وفق ما يقول بول سوليفان الباحث في مركز الطاقة العالمي التابع للمجلس الأطلسي عن مخاطر نوبك.
وهناك ما هو أخطر من ذلك، وهو الاستغناء عن الدولار، وأن تشتري الدول احتياطاتها بالعملات الأخرى مثل اليوان والين والروبل، وترفع من غطاء الذهب بدلا من الدولار، أو بيع النفط بعملة أخرى غير الدولار، بحسب رويترز.
لذا يصف خبراء اقتصاد مشروع قانون نوبك بأنه بطل من ورق؛ وأنه مثل “دون كيشوت”، النبيل الأحمق الذي ظن نفسه في مهمة مقدسة فحارب طواحين الهواء.
يرون أن النبيل الأحمق هنا هو الولايات المتحدة والمهمة المقدسة هي حماية المستهلكين والشركات الأميركية من الارتفاع المفاجئ في تكلفة البنزين، أما الضحية الأولى لهذا المشروع فهو الدولار.
وقد رد وزيرا الطاقة في الإمارات والسعودية على مشروع قانون نوبك قائلين لموقع “سي إن بي سي” الأميركي في 10 مايو 2022 إنه قد يدفع أسعار النفط للارتفاع ويجلب المزيد من “الفوضى” لأسواق الطاقة.
وقال وزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي للموقع إن تحركات المشرعين الأميركيين لتعطيل نظام الإنتاج المعمول به قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط بنسبة تصل إلى 300 بالمائة.
وأكد وزير الطاقة السعودي عبد العزيز بن سلمان قلقه من مشروع القانون، فيما تحدث سالم سرور الصبان مستشار وزير البترول السعودي السابق لموقع “سبق” السعودي في 8 مايو عن رد “أوبك” حال اعتماد أميركا المشروع.
اتفاق قريب؟
دورات قانون “نوبك” التي عادت للتوقف مرة أخرى يقف وراءها تحركات دبلوماسية مكثفة بين واشنطن والرياض، تحت لافتة “الضرورات تبيح المحظورات”.
فكلاهما يحتاج الآخر بسبب ظروف فُرضت على الجميع تتعلق بتداعيات حرب أوكرانيا، وكلاهما يريد تنازلات بالمقابل، ولا يمكن تصور تحسن العلاقات إلا بتلبية كل طرف لرغبات الآخر.
وتتلخص المطالب الأميركية في ابتعاد السعودية عن روسيا والصين، وزيادة إنتاج النفط بما يعوض بعد التخلي عن الطاقة القادمة من موسكو.
فيما تتلخص مطالب المملكة في إنهاء بايدن سياسة نبذه لولي العهد، وفق صحف أميركية.
ويبدو أن قصة احتمالات تنفيذ جو بايدن زيارة إلى السعودية خلال جولته في الشرق الأوسط، هي بداية تلبية واشنطن رغبات الرياض، حسبما نشرت شبكة سي إن إن وموقع “أكسيوس” الأميركيين نهاية مايو.
ويتوقع أن يسبقها أو يعقبها تدخل المملكة لزيادة إنتاج النفط، لتعويض تخلي الغرب عن مصادر الطاقة الروسية بنسبة 90 بالمئة على الأقل ضمن حصارها لوقف غزوها لأوكرانيا.
ومهد لهذا زيارة اثنان من كبار مستشاري الرئيس بايدن سرا إلى السعودية، لإجراء محادثات حول “اتفاق لزيادة إنتاج النفط”، بحسب “أكسيوس”.
وأعلنت الرياض في 24 مايو أن “وفداً من أعضاء الكونغرس” التقى ولي العهد السعودي وبحثا “علاقات الصداقة ومسائل مشتركة”.
وتزامنت زيارة “وفد” الكونغرس للرياض (غير محدد مدتها)، مع أخرى أجراها خالد بن سلمان نائب وزير الدفاع السعودي، إلى واشنطن، بدأت في 18 مايو “إنفاذاً لتوجيهات” ولي العهد، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء السعودية.
وقبل ذلك التقى مدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز سراً مع ولي العهد السعودي في مدينة جدة، خلال أبريل/نيسان 2022، ضمن جولة إقليمية، حسب موقع “انترسبت” الأميركي لطلب زيادة إنتاج النفط.
يأتي هذا التحضير للقاء بعد فتور واضح في العلاقات بين البلدين منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض والذي وصف السعودية خلال حملته الانتخابية بـ”الدولة المنبوذة” رافضا التواصل مع ابن سلمان الذي يعد الحاكم الفعلي للمملكة.
ومنذ تسلم جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة قبل عام ونصف، مرت العلاقات السعودية الأميركية بأسوأ فترة لها منذ التحالف التاريخي بين البلدين بعد الحرب العالمية الثانية.
وتجاهل بايدن التعامل مع محمد بن سلمان، خاصة بعد تقارير عن تورطه في مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
وكانت إدارة بايدن قد رفعت، بعد شهر واحد من وصولها إلى السلطة، السرية عن تقرير استخباراتي خلص إلى أن محمد بن سلمان أمر بقتل خاشقجي وهو أمر لطالما نفته السلطات السعودية.
واكتفت إدارة بايدن منذ ذلك الوقت ببعض الاتصالات الهاتفية مع الملك سلمان بن عبد العزيز البالغ من العمر 86 عاما.
إذ صرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي حينها أن الرئيس الأميركي سيتحدث مع نظيره الملك سلمان وليس مع ولي العهد.
فهل تبيح ضرورات الحصار الغربي لروسيا، والحاجة لدور الرياض فيه، محظورات “نبذ” واشنطن ولي عهد السعودية؟ وهل يكون تجميد “نوبك” للمرة الرابعة هو ثمن هذه الضرورات للطرفين؟